صدر في الأيام الأخيرة المُعجَم الفرنسي "لاروس الصغير"، في طبعته السابعة عشرة بعد المائة لسنة 2022، وسيضم 63500 مفردة، و125000 معنى و20000 عبارةً فضلًا عن 28000 اسم عَلمٍ، من بينها مائة وسبعون مُفردة جَديدة، هي تلك التي استحدثها الاستعمال طيلة العام الماضي، وجلُّها يدور حول جائحة كورونا التي كانت وراء توليد العديد من الألفاظ والدلالات الجديدة، كما أُضيفت أسماء شخصيّات وأعيان إلى مَتنه اللغوي.
ليس في الأمر ما يَلفت النّظر. فهذه عملية تحيين روتينيّة، تقوم بها اللجان المختصّة العاملة مع هذا القاموس بانتظامٍ، مع ما فيها من طابع رسميّ يرافق إدماج بعض المفردات ضمن دائرة السليم المُتواضَع عليه، أو ردّها وعَدم الإقرار بحقوقها في "مدينة المعاني".
إلا أن ما يحزّ في الخاطر، إذا انتقلنا إلى ميدان اللغة العربيّة، هذا الغياب المزدوج: فمن جهة أُولى، لا تتوفّر الضّاد على مُعجم عربيّ مُوحَّد يجرى استخدامُه في كافّة الأقطار العربية، مثل استخدام أية مدوّنة موحّدة قارّة. على العكس من ذلك، ثمّة عدد مهمّ من المعاجم، تَتكرّر مضامينها، وبعضها خرج نهائيًّا عن الاستعمال، مع غلبة القواميس اللبنانية التي ترسّخ اختيارات علماء هذا البلد وربّما تغلق المجال أمام اختيارات أُخرى، قد تكون آنقَ وأسلم.
ومن جهة ثانية، وهذا هو الأخطر، لا تتم عمليّات تحيين منتظمة، مرّةً كلّ سنة مثلًا، تدمج عَبرها الكلمات الطارئة على الضاد باعتبارها كائنًا حيًّا لا يتطوّر فقط باستمرار، بل ويتمتّع بموفور الصحّة وهو في ذروة العَطاء. فمن ذلك، مثلًا أنَّ مُفردات الجائحة والتعابير التي طرأت معها وعددها بالعشرات لم تلق أيّة عمليّة تجميعٍ في مدوّنة واحدة، مع أنّ جلها، في الحقيقة من قبيل المولّد المعنوي (أي أنّ المفردات موجودة، لكن وقع توسيع معانيها وإضفاء دلالات جديدة عليها أو نقلها من سجلّ إلى آخَر)، كما أنها لم تحظ بالمجهود التعريفي اللازم لضبطها وتوحيدها وإشاعتها. ومن أمثلتها كلمة Deconfinement التي يُقابلها في العربية "فتح أو "إعادة فتح" أو "خروج من الحجر" أو "تخفيف القيود"، وغيرها من الاجتهادات الصّائبة التي نهض بها الصحافيّون والسّاسة والعاملون في قطاع الصحة، لكن دون مجهودٍ نظريّ - تعريفيّ أو نقديّ منسّق يقوم بها عُلماء اللسان.
تعزف القواميس عن ثمار الحيوية التوليدية التي تعرفها الضادّ
وهكذا، ينضاف إلى هذا الغياب المزدوج لقاموس موحَّد يجمع شتات ما تفرَّق من الكلمات الحادثة التي تدلُّ على ما يطرأ على الحياة المادية والذهنيّة من الأشياء والمقولات، ولتحيين مُنتظم لما هو سائد في المَعاجم المعاصرة، ينضاف التّناقض الصارخ بين الحيويّة التوليديّة التي تَعرفتها الضادّ اليوم في ميدان الجائحة، مثلًا، وبين تبنّي القواميس لثمار هذه الحيويّة وإقرارها أو رفضها.
ولعل علماء اللغة العرب اغترّوا بكون المُولّدات الجديدة مثل (غلق، جرعة، تَباعد اجتماعي، تدابير وقائيّة، تطعيم... ) هي من قبل التوسُّع الدلالي وهي كذلكَ، فلم يعتنوا بها، ولكنّها أيضًا معانٍ حادثة لا بدَّ من تسجيلها كطورٍ من أطوار تحوُّلات الكلمات الدلالية، ومن الضروري أن تُسجَّل ضمن أعمال المعجم التاريخي للضاد.
أمّا عن أسماء الأعلام فَحدّث ولا حَرج؛ فإنَّ أسماء الشخصيات البارزة والمؤثّرة في العالم العربي تملأ الدنيا، ولكن قلَّ من يَحظى بشرف إضافة اسمه ميّتًا، فضلًا عن الأحياء، والسبب هو ببساطة غياب معجم خاص بالأعلام منذ العمل الجبار الذي قام به خير الدين الزِّرِكْلي (1893 - 1976) ومحمد رضا كحالة (1987 - 1905)، وكذلك "معجم البابطين لشعراء العربية"، طبعًا إلى جانب هيمنة المَعاجم القُطْريّة التي لا تضمّ سوى شخصياتٍ وَطن ما، دون سواها.
وهكذا، فمع الإعلان عن الطبعة الجديدة من "لاروس الصغير"، تتأكّد ضرورة التفكير الجدّي في أن تجتمع مجامع اللغة العربية، وعددها اليوم يزيد على العشرة، أقلّه من أجل إنتاج معجم موحّدٍ، قابل للتحيين السنوي، فَتَحظى جميعُها بشرف إصداره، بعيدًا عن داء التنافس عليه، وسيكون خدمة جليلة للضاد التي تستحق أن يتجدّد شبابُها سنويًّا عبر هذه العملية الرمزية التي ترصد ما يحدث فيها من المولدات فَتثبتها أو تنفيها، حسب القواعد المرسومة، ولا يعود الصدور السنوي لمعجم "لاروس" سببًا في ألم يتجدّد على لغةٍ لا قاموسَ مُوحَّدًا لها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس