في اليوم الرابع من العدوان على غزّة، العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر، وبالتزامن مع اشتداد القصف الجوي والبحري على القطاع المُحاصر، أصدرت كنيسة القديس بورفيريوس في غزّة بياناً عبر صفحتها على "فيسبوك" لم يتجاوز السطرين. لكنّهما سطران شديدا الدلالة والتعبير، خاصّةً الثاني منهما: "أبناؤنا الأحباء، المطران ألكسيوس والأب سيلاس يتمنّون أن تكونوا بخير أنتم وعائلاتكم، ويودّون إعلامكم بأنّهم لن يسافروا خارج البلد".
جاء هذا البيان بعد تردّد إشاعات عن تعرّض الدير الأثري وكنيسته التي تُعَدّ ثالث أقدم كنيسة في العالم للقصف، وهو ما حصل بالفعل بعد تسعة أيام من ذلك، حيث استهدف الاحتلال الإسرائيلي أحد المباني التابعة للدير، ما أدّى إلى استشهاد ستة عشر شخصاً كانوا ملتجئين فيه، لظنّهم، أو أملهم، أنّ الإجرام الإسرائيلي قد يعرف حدوداً أو حُرُمات.
يمكن اعتبار بيان الكنيسة مهمّاً لعدّة اعتبارات؛ فهو، أولاً، ليس بياناً مِلّيّاً، بل بيانٌ مُرسِّخٌ للصورة الوطنية الجامعة للشعب الفلسطيني، الذي يقاوم تحت القصف الوحشي محاولات تهجيره من أرضه، ولسان حاله يقول إنّ المكوث تحت ركام البيت، أو الجُثُوم في قبر غَزّيّ، أفضل من العيش الذليل داخل خيمةٍ في صحراء. وهو، ثانياً، يصدر عن مطران وكاهن غير فلسطينيَّيْن، بل يونانيان على الأغلب، ما يجعل إمكانية خروجهما من القطاع عند أوّل فرصة سانحة أمراً متاحاً، نظراً إلى جنسيتهما الأجنبية ولوضعهما كرَجُلَي دين. فالبطاركة والمطارنة في بطريركية أورشليم للروم الأرثوذكس يونانيون بأغلبيتهم الساحقة، وهو عُرف معمول به في البلدان العربية (بطريركيات أنطاكية والقدس والإسكندرية) منذ عهد السلطنة العثمانية، لم تكسره سوى بطريركية أنطاكية، بدءاً من عام 1899.
تحت ركام البيت أو في قبر غَزّيّ، أفضل من عيش ذليل داخل خيمة
لم يغادر المطران ألكسيوس والكاهن سيلاس إذاً، بل انصرفا عوضاً عن ذلك إلى تشديد الناس وتعزيتهم والصلاة على جثامين الشهداء، وإلى أن يكونا شاهِدَين على المذبحة، وربما شهيدين فيها غداً، فمن قتل المسيح لن يتورّع عن قتل خُدّامه! كأنّ رجلَي الدين، من خلال بيانهما، يقولان لأهالي غزة بشكل عام، وللمسيحيين الغزّيين بشكل خاص: "اثبتوا في غزّةَ بورفيريوس ودوروثاوس!"، وهذان قديسان كانا أسقفين لغزة، عاشا فيها في القرون الأولى من عمر المسيحية.
حارب بورفيروس (347-420) الوثنية، التي كانت الديانة الرسمية في مختلف بقاع الإمبراطورية الرومانية آنذاك. المعلومات عنه قليلة، لكنّها تشير إلى أنّه لم يوفّر جهداً في سبيل القضاء على معابد الأصنام وأفكارهم، ونسّق في ذلك مع أساقفة آخرين في البلاد السورية، حين لم يكن عدد أفراد رعيّته يتجاوز الثلاثمئة شخص فقط. أما دوروثاوس (500-555)، فقد ترك واحداً من أبرز الكتب في التقليد الرهباني الأرثوذكسي، وما زال يُقرأ ويُدرّس إلى اليوم. ِإنّه كتاب "التعاليم الروحية"، الذي يتضمّن سبع عشرة مقالةً، يتحدّث في الثالثة عشرة منها عن "ضرورة تحمّل التجارب بشُكر، ومن دون اضطراب".
* كاتب من سورية