"فِطام" حسام حمو: تلك الأيام السورية

03 نوفمبر 2024
من "فِطام" لحسام حمو
+ الخط -
اظهر الملخص
- فيلم "فِطام" للمخرج حسام حمو يعرض يوميات عائلة سورية في ظل الحرب، مسلطًا الضوء على اللحظات العادية التي تحمل معاني الفراق والمغادرة، باستخدام لغة سينمائية حساسة.
- تدور الأحداث حول انتظار العائلة للسائق الذي سيأخذ الابن المسافر، مما يكشف العلاقات المعقدة بين أفراد العائلة، ويعكس محاولتهم التمسك بالذكريات رغم الألم.
- ينتهي الفيلم بمشهد وداع مؤثر بين الأم وابنها، مما يعكس تأثير الحرب على العائلات السورية، ويبرز موهبة المخرج في تقديم رؤية صادقة ومستقلة.

في السادس من الشهر الماضي، عُرض فيلم "فِطام" للمُخرج السوري حسام حمو (1992) ضمن "مهرجان فاميك للفيلم العربي" في فرنسا، وهو أوّل عرض للروائي القصير الذي يُصوّر يوميات عائلة سورية. يوميات لفرط عاديّتها قد يتساءل المُشاهد كيف تسلَّلت إلى السينما؟ إلّا أنّها ليست تلك الأيام العادية التي قد تُصوّرها الكلمة بمفهومها الشائع، لأنّ المقصود في الفيلم هو تلك الأيام السورية التي صارت تنطوي على المغادرة، وعلى صعوبة قطْع الصلة مع المكان.

يخال المرء أنّ هذا العرض لما هو يومي ما هو إلا عرض لاهتراء الحياة، اهتراء يشفّ عن انغلاق وعن فقد، وعن تراكم للمواجع. لكن الشريط لا يقول هذا بمباشرةً، إنّما يقوله بلغة سينمائية تلقائية وحسّاسة وغير متكلّفة. تتحرّك الكاميرا في هذا الفضاء المعزول لعائلة سورية تودّع أحد أبنائها، الكاميرا تتحرّك، لا لترصد فقط البيت الأليف المتواضع الذي يشبه بيوت السوريّين، من غير ادّعاءات جلبتها الحرب، أو الخراب العام؛ بل لترصد أيضاً الأيدي والأعين، وتلك الإيماءات الخرساء التي يصنعها الوداع بين الأُمّ وابنها، وبين الإخوة، بين المحبّين ممّن بقي وممّن يغادر، حتى لكأنّ كاميرا المُخرج، وما إن تُنجز مهمّتها بعرض المكان، حتى تنفذ داخل عيون هذه الشخصيات في لحظتها الدرامية القصوى، وتخبرنا عن مشاعرهم، وهي بطبيعة الحال مشاعر بشر ينهدمون في المكان، وينهدمون مع المكان.

أحداث الفيلم تجري بانتظار السائق كي يحضر ويأخذ الابن المسافر. وفي هذا الترقّب، تنعقد صلاتٌ مركّبة وشائكة بين الشخصيات، ويتّضح لمن يراها منعقدةً بضحكاتٍ ورتابة أنّ هذه خدعة تلجأ إليها العائلة، ويستخدمها المُخرج، إذ وراء هذه الضحكات تتخفّى الصورة الواقعية التي يحيد عنها الفيلم، أو لا يكرّسها، أو إنّه يخجل بها. ببساطة، لأنّ المُخرج، كما يظهر من تقتير أدواته، يعي تلك الرفاهية التي للعائلة السورية، موضوع الفيلم، وقد أُتيح لها أساساً أن تودّع ابنها.

تلك العادية التي يحتفي بها الفيلم تُخبّئ نقيضها. مع أنّ الابن مسافر، إلّا أن شقيقته تُصرّ على أن تغسل الأطباق، ووالده يصرّ على الحديث في شأن بدا أنّه كثير الحديث فيه، ومملّ، وهو الذكريات المرتبطة بالمكان، أي البلد كلّه، وهو أمر لا يحتاج المرء الكثير من التحليل ليدرك أنّه إنكارٌ أحكمَ على جيل الأب؛ إنكار الهزيمة العامّة التي جعلتهم يخسرون أبناءهم وبلدهم معاً.

يخال المرء أنّ هذا العرض لما هو يومي ما هو إلا عرض لاهتراء الحياة

ما إن نعرف التركيبة العامّة للفيلم، حتى نستغرق مع الأُمّ، لتستحوذ على الكاميرا استحواذاً يُعيد المُشاهد إلى العنوان، فالاستحواذ الذي للأمّ (تؤدّي دورها الفنانة مي عطَّاف) يحدث –كما نرى- مع خلفية حديث الأب عن الوطن، وعن الهوية، وعن التصالح، وعن خشيته من تصوّر الأبناء لأنفسهم بالشروخ التي ملأتهم بها الحرب، إذ إنّهم يكرهون ذكريات ألَّفتهم، ويعتقدون بتخلّي مكانهم الأوّل عنهم. والأمّ، مع هذه الأحاديث كلّها، لم تعُد أمّاً بالصورة المجرَّدة، إنَّما ينضوي في ملامحها المحايدة الباردة، التي بدا أنَّها استغرقت طويلاً في الحزن، شيءٌ أعمق، يفرض دلالته بما لا يترك مجالاً لدلالة أُخرى. وأخال أنّ هذه الأمّ التي حيّدها الألم هي البلد كلّه. وبالصورة التي يقولها الفيلم، أخال أنَّها ليست البلد، بقدر ما هي فقدانه.

حتى عندما يجيء دور الأمّ كي تحكي رأيها بمسائل عرضها الأب، وهي أساساً أحاديث يومية في البيوت السورية عامّةً، فإنّ الأمّ لا تحكي، وإنما تسند رأيها إلى رأي أختها. لكن، مع صمتها، وإسنادها هذا؛ يستعيد المخرج مشاهد شكّلت أمومتها للابن المسافر. ومن جملة ما تؤكّده هذه الاستعادة؛ لحظة خروج الابن من المنزل إلى المدرسة، وخشيته الابتعاد عن أمه، التي أُدغمت - مع ما سبق عرضه - بصورة بلده، كما لو أنّ الخشيتَين قد أُدغمتا معاً، وهما خشية مغادرة البيت، وفراق البلد. ببساطة، ما يصنع خصوصية هذا الفيلم أنّ الفراق فيه فراقُ بلد يتغيّر كلّ يوم. إنّه بلد تحت الحرب، والتغيير يعصف بمفرداته كلّها.

مع ذلك، فإنّ ما بدا متماسكاً طوال الفيلم (27 دقيقة) يبدأ بالانهيار مع دقائقه الأخيرة، وهو انهيار أشبه بالنداء، لأنّ طفلاً ينادي أمّه. نداءً تستقبله الأمّ، كما لو أنّه لحظة استيقاظ، لحظة هبوب لذاكرة قديمة، أو لحظة استعادة للوعي وعودة من غيبوبة، أو لربما إطلالٌ على غيبوبة. أخالها لحظات الرحيل التي صارت مصيراً للعائلات السورية، وهي هنا بالمصادفة عائلة من اللاذقية.

تنهض الأمّ، وتلحق بابنها المسافر، تطلب منه أن يأخذها معه، في إحالة مؤلمة لبلد يودّ بكلّيته أن يرحل. لكن بالعودة إلى الأمّ، تعود مع التخفّف من كلّ هذا الإسقاطات، تعود أمّاً تودّع ابنها، ببساطة، فتضبط له كُمّ سترته، وتسأله إن نسي شيئاً. وأخيراً - وخفيةً عنه - تضع مالاً في جيبه. لكن ربما يكون أداء عطّاف البارع في الفيلم، الذي معظم ممثّليه إن لم يكونوا جميعاً يمثّلون في ظهورٍ أوّل، هو ما يعيد الإسقاطات السابقة إلى المُشاهد، لأنّ دقّات القلب الخافتة، ثمّ الصمت الذي أخذ يهمي على المشهد، ويتكثّف في تعابير عطّاف المفجوعة وغير المصدّقة، قبل أن تعيد مشاكسة الإخوة للمشهد بعض حيويته. تفاصيل مثل هذه تعيد التأويلات التي يحملها الفيلم إلى ذهن المُشاهد. وهي باختصار تأويلاتٌ صنعها واقع الحرب، ومغادرة الأبناء، وبقاء جيل الآباء يقاوم ذلك الاهتراء، حتى إنّه لا يقاوم بقدر ما يتقادم معه، ويتلف، وينتهي.

"فِطام" هو ثالث فيلم قصير للمخرج، وهو أطول أفلامه؛ ما يجعله بمثابة إعلان لموهبة بدأت كبيرة، ولا يزال لديها الكثير لتقوله. إذ نرى في الفيلم المستقلّ ابتعاداً عن الأيدولوجيا التي وسمت السينما السورية. وهو، بالمقابل، بعيدٌ عن بروباغندا اللجوء. باختصار، إنّه فيلم عنّا، إنّه فيلم انتظرناه.


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون