القصّة الجيّدة فرصةٌ حقيقية للجمال. كلّما جاد علينا الأدب بهِباتها الكبيرة، نظفر منها بمتعة لا تحقّقها لنا سوى نظائرها من الفن الرفيع، في الشعر والحكاية والسرود المختلفة. روائيون كبار وقّعوا قصصاً، استدعت مسالكُها المتشعّبة جهداً فنّياً يُضاهي ما يتطلّبه تأليف رواية... قاصّون مخلصون لدماء هذا الفن، انتزعوا قبضتهم القصصية من مجاهل إنسانية لا تتجلّى إلّا لقلّة من الرائين. في مسالك هذا الأفق الوعر، تقاطعت خطوات بوشكين وإدغار ألان بو وهمينغوي وبورخيس وكواباتا وزكريا تامر وبوزفور وآخرين من تلك الأقلّية الهائلة التي وقّعت على أعمال شكّلت إحدى الأقدار الجميلة للفن. مع هؤلاء ونظرائهم في الأدب الانساني، اغتنت القصّة بالكوثر الروائي، وجادت الرواية بالرحيق القصصي، في تضايف خلّاق، يؤسّس لتراسلات فنّية خصيبة، لا يخلو منها أدب جدير باسمه.
القصّة لا تُكثّف فقط الأشواق الروائية، بل تجعلها تتجمّع فوق رؤوسنا كغيوم باردة، نكون على وشك الابتلال بمائها الكريم. وكلّما تصاعدت أنفاسُنا حارّةً باتجاه حروفها الهامدة، كلّما غمرنا وبلها الندي بمتخيّله الإنساني الطافح، الموصول بكرم الشعر وغموضه الجليل. القصّة بوتقة أجناس وخطابات يُعاد بناؤها على نحو يكثّف السرد واللغة، بما يبعثه في جوفهما من اعتمالات عمودية تتجاوز ذاكرة الحاضر إلى الأصقاع، التي لا يقيّدها زمن ولا مسافة. إنّها ليست تماماً عودة متنكّرة للشعر، وإن كانت لا تخلو من أثره الذي يعمل في العمق. هذا النوع القصصي لا يقتات على زوائد الأجناس الأدبية الأُخرى، فيحوّل ما يفيض عنها إلى أدب، بل يجرّدها من غاياتها الزمنية البرانية، لتتألّق في جوهر حار يدفن غاياته في أعماقه، التي لا تنفتح بيسر.
يطفح أدبُ ياسوناري كواباتا (1899 - 1972)، بهذا الجوهر المكلّف. لا يكفي أن تعيش بعمق لتتنفّس مثل هذا الأدب، بل أن تكون مستعدّاً لتسليم الروح ذاتها. إنّ العصاب الذي يولّد الأدب، هو ذاته الذي يحمي شروطه، في الوقت الذي يبدو متموقفاً من شروط الحياة نفسها. إنّها الوشائج المؤسِّسة لزمنية أدب كبير لا انفصال بين عراه الثقافية والنفسية والجسدية. هذه العرى مثلما وجهت عمل همينغوي وكافكا وشجرة أنسابهما الرفيعة، وجهت، بالقدر ذاته، كتابة كواباتا، حيث انفردت القصص بكوثر إنساني يناظر هِبات الفن في رواياته الكبيرة. بهذا المعنى لم تكن "قصص بحجم راحة اليد" (1964)، أقلّ غوراً وفتنة من رواية "طيور الكركي الألف" أو "منزل الجميلات النائمات" (1961)، أو غيرهما من الأعمال التي لفتت الانتباه لسحر الأدب الياباني.
نموذجٌ باهر لكثافة السرود القصيرة عند كواباتا
قصّةُ "الصمت" نموذجٌ باهر لكثافة السرود القصيرة عند كواباتا. قصّة لا تنفتح عقدتُها فقط على هواجس روائية، وإنّما تجعل من شخصية الروائي العجوز "أكيفوسا"، وما ابتُلي به من مرض أشل يمناه ولسانه، أفقاً لضفر متخيّل يزاوج بين شعرية الخوف وأطيافه الشعبية، وبين فيض الجنون وغيره من أنواع العجز، التي تعرقل مشروع الروائي، سواء في بدايات تحقّقه أو في لحظة بالغة من النضج والدفق. وفي سياق ذلك، تنبثق مشاعر أمومية تجسر علاقة الابن المجنون بالكتابة، عبر ملء بياضات المخطوط، بتخييلات ترتجلها الأمّ على مدار الأيام، موهمةً صغيرها بأنّها من إبداعه المدوّن في مخطوطه الأبيض، الذي لم يستطع، بمشفاه العقلي، أن يسجّل عليه أيّ كلمة، بسبب المرض، واحتراز الإدارة بإبعاد كلّ الأقلام عنه.
لحظة "الصمت" التي دخلها الروائي الشاب، في ليل الجنون، استنطقتها الأمّ مندفعة بغريزتها الأمومية، واستعدادها الفطري لترداد أغنيات الطفولة ومحكيها المترع بالحنان. بهذه الصيغة استأنفت الأمّ المشروع الروائي لابنها باسمه. إنّه الوفاء المفجِّر للرواية الأمومية لمصلحة الابن وتغذية لأمل يشرق من ليل جنونه الكبير. صوتُ الأم، حتى وهو يتماهى مع لعبة خلق الإيهام عند الابن، المحتاج إلى تغذية شره السرد بداخله، تنحرف به الحكاية، فيما هي تتكرّر وتبتدع بعض التفاصيل، جهة تمتين قواه السردية الدفينة، وذلك ليبقى القلب الروائي للابن قيد النبض. هذا هو موضوع الرواية، التي كانت أناملُ العجوز المريض "أكيفوسا" قد أبدعتها لحظة فورانها القديم، تُذكّر به ابنته الكبرى (تشرف على رعايته) الراوي، الكاتبَ، الذي جاء لعيادة والدها ـ صديقه القديم، وخاصّة أنه مدين له بالرعاية الأدبية في ميعة الشباب.
في صدر قصّة كواباتا ينبض قلب روائي كبير. الروائي المصاب بسكتة يعيش متخيّلا روايته السابقة "ما يمكن للأمّ قراءته" على نحو واقعي. لقد أدخله الشلل بيت "الصمت" ومنعه من استئناف حياته الروائية، مثل بطله الروائي المجنون. وما دامت الزوجة قد استأنست بموتها القديم، فإنّ الابنة البكر، هي التي بدأت تنتابها أعراض رغبة كتابة رواية الأب، نيابةً عنه، وذلك باستلهام غرامياته الأخيرة، التي كانت على علم بتفاصيلها. كشفت الفتاة البكر "توميكو" لصديق والدها، عن أعراضها الروائية، في الوقت الذي بدأت أقداح الساكي تلعب برأس الصديق الكاتب، لينفلت من خيطه السردي "رسن" الحقيقة. لعلّه "الهذيان" الذي انظمّ ليفاقم من وضع خوف، ينشره طيف امرأة تتسلّل من محرقة الأموات بالمدينة، لتندسّ في المقعد الخلفي لسيارات الأجرة العابرة. (هل يكون شبح زوجته الميتة؟).
في قلب قصّة كواباتا، تتفرّع شرايين روائية مترعة بالغموض الإنساني النفيس، الذي تتقاطع في بنائه حكمة الشيوخ وأحلام الشباب وطفح الأمّهات ويأس الأبناء. ذلك وعد القصّة، في البقاء قريباً من الجوهر الإنساني، القريب والنائي بلا مسافة. تشييد قصّة بهذه الجواهر السردية، النفيسة والنادرة، الملتمعة من عمق بعيد يتعذّر سبره وقياسه، يعادل حقّاً بناء عمارة روائية منقطعة النظير في المتخيّل الأدبي الإنساني.
* شاعر وناقد من المغرب