لطالما كان خالي أحمد هو المفضّل لديّ. كيف لا وكلّ ذكرى معه متعلّقةٌ بلحظةٍ جميلة! كان خالي أوّلَ من ركبتُ الطائرةَ معه، لمّا أخذني وأمّي إلى العمرة للمرَّة الأولى في حياتي، وأوّلَ من أذاقني "الفلافل" وأنا طفلة في سيارته الكابرس السوداء وهي مركونة على الرصيف مقابل "دودو"، وأوّلَ من أخذني يومَ العيدِ إلى خيمة السّيرك الإيطالي في السالمية لمشاهدةِ البهلوانات والمهرّجين والأفيالِ والأسودِ المُرَوّضةِ في الحلبة. كنتُ أحبّ خالي أحمد؛ كان دائماً يُشعرني بأني "حبيبة خالها"، وظلَّ إلى أن كبرتُ يناديني بـ "أميرتي أبرار".
خالي، الذي لم ينجب من زيجتين لم تستمرّا، كان يعوّضني عن يُتمي باهتمامه. لولاه، لما كنتُ الليلةَ هنا، في محطة كينغ كروس، على مقعدِ انتظارِ قطارِ عودتي إلى نيوكاسل، بعدَ أن تركتُ خالي سليمان وابنه داوود يمسحان دموعهما في مستشفى لندن حيث ألقيتُ على خالي أحمد نظرتي الأخيرة.
هو من شجعني على الالتحاق ببعثةِ دراسة الطبّ في إنكلترا. كان حاضراً دوماً لأجلي، وبرحيله سأفتقدُ جزءًا من حياتي. أتذكرُ صباحاً أعقبَ انتهاء اختبارات الثانوية العامّة، قبل أعوامٍ ثلاثة، لمّا انهالت علينا اتصالاتُ الصحفِ تدعونا إلى مقارّها. جاء خالي إلى بيتنا، أخذني في سيارته السوداء القديمة، وطار بي إلى شارع الصحافة وهو يقرص خدّي ممازحاً: "طالعة على خالك شاطرة يا الشيطونة!". في اليوم التالي، كانت صورتي وخالي يحيطني بذراعه منشورةً في أربع جرائد ضمنَ مقابلاتٍ مع الطلبة والطالبات الأوائل.
لكنّي لَمْ أبكِ في المستشفى مثل خالي وداوود! كيف طبعتُ قبلةً أخيرة على جبينه الباردِ دون أن أذرف عليه دمعة؟ ألا إنّ الحزنَ يبلغ مدى تغرقُ فيه العينانُ بالدّمعِ دون أن تفيضا، ليرتدَّ غصةً تنحبسُ في القلب، تخرمُ في باطنِه ثقوباً، ولا تتحرّر منه.
يُقلعُ القطار في الحاديةِ عشرةِ قبل منتصفِ الليل. أنظرُ في ساعتي السواتش؛ مثل كلّ شيء، تذكّرني به، اشتراها لي في "الفنار" مع قلادة من سواروفسكي قبل ابتعاثي. قطاري سيتحرّكُ بعد عشرين دقيقة. على صدري يجثمُ كمدٌ لا يزحزحه إلاّ إطلاقُ غَصّتي بالبكاء. في حنجرتي شهقةٌ لا تنبجس، وعيناي لا تسعفاني.
يا لحزنِ كينغ كروس المكتظةِ أبداً وهي تبدو الليلةَ أقلّ ازدحاماً. عجيبة مفارقاتُ اللحظةِ، فقدي بخالي، وجودي في محطةِ القطار، عازفُ الفلوتِ الفضيّ، يصلني لحنه شجيّاً من بهوِ المحطةِ. كان لخالي "ناي" من القصب، يعزف فيه ما بدا لي من أغانٍ. "صوت السّهارى" لحنٌ يُفضّله على الناي ويجيده، وإذا ما دندن بها بصوته توَقّفَ عند مقطع لا يتجاوزه: "أبطا ركابه وراح". نقلَ إليّ خالي شغفه بالنّاي، وبالقطاراتِ القديمة، منذ أن أحضرَ لي قطاراً بخارياً صغيراً في عيد ميلادي السادس. ركّبَ معي السكة الدائرية على الأرض، ثم وضعني في وسطِها، وجعل القطارُ يدورُ حولي، يطلقُ صافرته، ورنين جرسه يخالطُ دمدمةَ عجلاته.
القطارُ الذي رَحَلَ بوالدي لا بدّ أن يكملَ دورته عائدًا إليّ
لكنّ ولعي بالقطارات ربّما يتجاوزُ شغفاً نقله إليّ خالي، إلى تعلِّقٍ برحيلِ والدي. تخيّلتُ في صغري أبي مسافراً يركبُ قطاراً يبتعدُ فيه عني دون التفاتة. أدري في داخلي صورةً خياليةً كوّنتها طفلةً، لقطارٍ يعودُ وأنا أنتظرُ في المحطة، يتوقفُ عندها، ويترجّلُ منه أبي. القطارُ الذي رَحَلَ بوالدي، لا بدّ أن يكملَ دورته عائدًا إليّ في نقطةِ انطلاقه. كانَ الخيالُ مجرّدَ أملٍ لا يزال يكمن منذ الصِّغَرِ في داخلي.
الفلوت عذبٌ، يزيدُ شجني ويخفّفُ عنّي في آن. أُدْخِلُ أصابعي في وشاحي، وتحتَ القميصِ أتلمّسُ قطارَ قلادتي المرصّع بالبلّور، هديةِ خالي التي لا تفارقُ عنقي، أراهُ فيها كلما نظرتُ في المرآة والتمعَ بلورها الملوّن على جيدي. قبل أشهرٍ من اشتداد مرضه، زارني خالي في غربتي، أهداني لوحةً زَيْتَيَّة قال إنّ اسمها "قطار الليل". علّقها على الجدارِ المقابل للمدخلِ، لتستحوذ على نظري، كلّما عدتُ إلى شقّتي وأنا أعلّق على المشجبِ وشاحي وقبعتي الصوفية وراءَ الباب.
الغصّةُ تحوسُ قلبي؛ آهٍ لو تذرف عيناي، لو أبكي فَأَسْتَرِيح! صوتُ امرأةٍ، عبر مذياع المحطة، يحثُّ المسافرين إلى نيوكاسل على التوجه حالاً إلى الرصيف "خمسة".
***
ثلاثُ ساعاتٍ ونصف تستغرقُها الرحلةُ إياباً إلى الشمال، تتَخَلَّلُها وقفاتٌ قصيرة، كنتُ أغفو وأصحو بينها، والركّابُ يتناقصون بعدَ كلّ محطة. عجباً! أليستِ الحياةُ قطاراً منطلقاً بنا بلا هوادة، يتوقّفُ بين محطةٍ وأُخرى، وفي كلّ مرّةٍ يترجّلُ منه نفرٌ مسافرون معنا؟ في الساعةِ الأخيرة، كنتُ في المقطورة وحيدةً مع حزني وملامحي تتلاشى في ظلمةِ الريف وراء النافذة. أسندتُ رأسي إليها، فشعرتُ باهتزاز القطارِ ناعماً في صدغي. "نيوكاسل محطتنا التالية.. وجهتنا الأخيرة لهذه الليلة" أعلنها قائدُ القطار عبر الراديو.
أغمضتُ عينيّ بين حلمٍ ويقظة، رأيتُ لوحة خالي التي جلبها لي، كما لو كنتُ في صالةِ سينما واللوحة شاشة بانورامية تحيطُ بي. أرى فيها القطارَ البخاريّ القادمَ من الشفقِ الآفلِ في العمقِ ينفثُ دخانه، المشكاةُ في مقدمته شمسٌ صغيرة، وثمّة رجلٌ يطلُّ من مقطورةٍ بالخلف، بِيَدِهِ سراج يهزُّه لظلالٍ يكتنفها الضبابُ فوقَ رصيفِ المحطّةِ المُبلَّل، ومصابيح ثلاثة تتدلى بشكلٍ سحريّ من السماء، بينما القطار تحتها يكبحُ عجلاته استعداداً للتوقفِ على يمين اللوحة، وفي يسارهاِ رجلٌ واقفٌ يُشَكّلُ بمعطفه الأسود وقبعته الدائرية عنصرَها القريبَ مني، وكلّ شيءٍ بعده خلفية له؛ ظهره إليّ، ووجهه إلى نافذة كشكٍ لبيع القهوة الساخنة والصحف تطلّ على السكة.
تباطأ قطاري. الغصةُ لا تزالُ في صدري. بانت بضعةُ نوافذ مضاءة لبيوتٍ قريبةٍ من السكة، ولاحَ ضوءُ النيون القرمزي لفندق كراون بلازا المجاور للمحطة. صوتُ قائدِ القطار عبر المذياع يعلنُ الوصول مُخَفِّفاً وحشتي. توقّفَ القطارُ تماماً.
***
وحدي على الرصيف، باستثناء أحد عمالِ سكة الحديد يدفع عربة خالية، شددتُ قبعتي الصوفيةَ إلى أذني، وأحكمتُ لفّ وشاحي حوْلَ عنقي. شقّتي تبعدُ خمسةَ دقائقَ مشياً من المحطة.
في العتمةِ سرتُ بخطى سريعة مكتوفةَ اليدين. رأيتني ثانيةً في بانوراما "قطار الليل"، ثمة كلبٌ برفقةِ الرجلِ ذي المعطف، ومثل صاحبه ظهره إليّ. يبدو وحيداً مع كلبه الذي يقعى بقربه، وهو واقفٌ يقرأ من جريدة مطوية عندَ شباكِ الكشكِ، كما لو كان بانتظارِ قهوةٍ ساخنة، غير مكترثٍ بوصولِ القطار المدوي.
أخيرًا، طفرت دموعي، وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل
وللمرّة الأولى، لاحظُت أني لستُ أدري يقيناً، أَكان قطار الليل يصلُ فعلاً إلى المحطة تلك اللحظة، أم كان يقلعُ منها؟ أم الأمران سواء، بالنسبة لهذا الرجل على الأقلّ، مادام القطار يكملُ دورته عائدًا إلى نقطةِ انطلاقه في النهاية؟
الغصةُ تخنقني، تكادُ تنبجسُ من صدري، أدرتُ المفتاح في قفلِ باب الشقة. دخلتُ وأغلقته سريعاً ورائي، هرباً من الوحشةِ والبردِ بلا جدوى. اجتاحتني "قطارُ الليلِ" في المدخل، خطوتُ إليها، وسقطتُ عندها على ركبتيّ. أخيراً، طفرت دموعي، وبكيتُ كما لم أبكِ من قبل.
* كاتب من الكويت