قطيعةٌ في "صالونات" الذاكرة

20 يوليو 2022
جانب من المعرض، "انتشال من الركام" لـ رنا بطراوي في المقدمة، و"ماذا تبقّى" لـ لارا سلعوس
+ الخط -

مع مرور الزمن، تتراكم لحظات التحوّل التي تحدث أمام أعيُنِنا في العالم، بسبب التغيُّرات الاقتصادية أو السياسية أو التكنولوجية، وبفعل الأنظمة والحكومات، والحروب والأزمات، والتغيُّرات المناخية، والاستعمار، وسوى ذلك، وتؤثّر بكلّ مفصل من مفاصل حياتنا، بما فيها من ذاكرة ومكان. هذه التحوّلات، بِجُلِّها، تقود بشكل أو بآخر إلى تشكيل بنىً وأنماط جديدة، تمسّ الفرد والمنظومة الحياتية المحيطة فيه. أمرٌ يمكننا الوقوف عليه مع الأعمال الفنّية المُقدَّمة في معرض "صالونات: مقتنيات الذاكرة والفقدان"، الذي افتُتح في "مركز القطّان الثقافي" برام الله في 26 أيار/ مايو الماضي، ويستمرّ حتّى 23 من آب/ أغسطس المُقبل. أعمالٌ تستدعي قراءة تفكيكية، بغرض فهم التغيّرات التي عرفتها صالونات البيوت التي نسكنها، وفهم مدى الترابُط بين المقتنيات والواقع المتغيّر.

يُعدُّ الصالون مركز التقاء ذا أهمّية في البيت، وربّما الأكثر اكتظاظاً، كذلك فإنّه يحتوي على مقتنيات متعدّدة تشهد تبدُّلاً وتراكماً وتغيُّراً مستمرّاً، ولا سيما في حالة صالونات الفلسطينيّين حول العالم، وليس داخل حدود فلسطين فقط، لأنّها تشكِّل لهم، بمقتنياتها الرمزية، مصدراً لذاكرة جماعية، كذلك تعكس هوية البيوت الفلسطينية بما تحمله من مقتنيات، وفق ما يراه الفنّانون المشاركون المعرض.

ففي عمل لارا سلعوس المعنون "ماذا تبقّى؟" شكلٌ حقيقي لمعنى الذاكرة وما تفقده، ينعكس بسجّادة حمراء تنسَلُّ خيوطُها، دلالةً على الانسحاب البطيء للمقتنيات، وهذا له علاقةٌ بالتحوّلات الزمنية ومسبّباتها الكثيرة. فإذا بدأنا بشكل التحوّلات من عهد "الانتداب" (الاستعمار البريطاني) مثلاً، سنشهد تراجعاً لأنماط المُقتنيات ذات الصلة بالفترة العثمانية. أمّا مع مرحلة "الانتداب"، فنجد تراجعاً لكلّ أنواع المقتنيات، نظراً للأزمات المتعاقبة على فلسطين، والمتمثّلة بأشكال الاستعمار المقوِّضة للوضع الاقتصادي، وهو ما كان له أثرٌ على محتويات المنازل. في حين أنّ المقتنيات التي تلت مرحلة الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، أخذت منحىً آخر، خاصّةً في فترة ما بعد "أوسلو"، فأصبح هناك تنوّع أعمق وأشدّ اختلافاً تشهده صالونات العائلات، ويتمركز حول الهوية والذكريات.

مكوّنات المعرض مبتورة الارتباط ولا تبني على بعضها

هذه التنوّعات نتاجُ مراحل صراع مختلفة لم تنعكس بوضوح في المعرض. وإذا كانت سلعوس تهدف إلى تدمير الارتباط بالزمن الأيقوني، فإن هذا الارتباط مبتورٌ في معظم الأعمال التي لا تعبّر عن الامتداد البنيوي لمقتنيات الصالون، فجميعها تُظهر وجهة واحدة لا توحي بالامتداد التراكمي، أو حتى الشكل الجديد للصالون، حيث تتداخل فيه عوامل متعدّدة مثل الاستعمار وما يُحدثه من عنف وتدمير، وأثر التهجير، والوضع الاقتصادي، والمستوى التعليمي، والدين، وسلطة النظام المُكمَّلة بالسلطة الأبوية. هذه الأخيرة مثّلها في المعرض عملٌ لعامر أبو مطر بعنوان "كبير العيلة"، وهو عبارة عن بورتريه لكرسيّ مخمليٍّ فاخرٍ ضخمٍ، محاطٍ بزجاج، للتدليل على أيقونة السلطة الأبوية داخلَ صالون العائلة وفكرة الرقابة. هذه الهالة الظاهرة هي رمزية تعكس سيطرة كبير العائلة، وتأتي نتيجةً لهيمنة الحاكم.

"ماذا تبقّى" لـ لارا سلعوس
"ماذا تبقّى" لـ لارا سلعوس

لكنّ واقع الحال هذا لا يمكن أن يكون بمعزل عن أثر الحداثة والنمط المعاصر، أو عن التوجّهات الفردانية وتأثيراتها بهويّة المجتمعات، التي تعدّ في وقتنا المعاصر صاحبة أكبر تأثير بصالونات منازلنا. على أنّ هذا لم ينعكس في أعمال المعرض. كذلك لم يظهر أي دور لوجود الأطفال من عدمه، ولا أثر العائلة الممتدّة ــ مثل عائلة الزوج ــ على المقتنيات، ولا إنْ تفكّكت هذه المنظومة أو لا. وينطبق الغياب ذاته على الانتماءات السياسية، حيث بدأ حضورها في صالوناتنا يشهد تراجعاً وتفكُّكاً، ويعود ذلك لأسباب مختلفة، نذكر منها، مثلاً لا حصراً، ما له علاقة بالطبقة الاجتماعية والمستوى المعرفي، أي إن الصالونات لا تحمل هوية ساكنيها الحقيقية بالضرورة، بل تحمل مجموع العوامل التي أثّرت في أصحابها.

كأنما ثمّة ضبابية في المشهد الكامل لصالوناتنا، وهذا ما يعكسه الصراع كما يطرحه مهدي براغيثي في عمله "المنزل الذي لا يذبل أبداً" إذ يُظهر الحلقة الأوسع للحاضر الضبابي، والحلقة الأصغر للماضي بحديقته الخضراء. هذا المكان اندمغ في "بصمة الجماعة" التي تحدّث عنها عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبواكس، حيث تُحاول خلق الذكريات في مساحات جديدة مثل البيوت في المخيّم بهدف المحافظة على هويتها، من خلال استحضار دائريّ للماضي في ظلّ واقع ضبابي. ينعكس الأمر بوضوح أكبر عند رنا بطراوي عبر الدمار في عملها المعنون "انتشال من الركام" إذ تطرح فيه فكرة خصوصية البيوت المُنتهَكة بعد القصف والدمار، لتصبح مفتّتة، دون أن تظهر هوية سكّانها، وكأنما حال الهوية لديها يعكس فقط حقيقة واحدة وهي تفتّتها ــ وهو ما يمكن الاختلاف معه.

كبير العيلة - القسم الثقافي
"كبير العيلة" لـ عامر أبو مطر

أصبحت مقتنيات فترة ما بعد أوسلو تتمركز حول الهوية أكثر

في عملها "لا يرى"، تستكمل رنا نزّال حمادة السياق التفتيتي ذاته. ولا شكّ في أنّ هناك تفتيتاً في ما يُعرَض في صالوناتنا، لكنّه تراكميٌّ، وتأثيره بهوية سكّان البيوت يأتي بالمعنى التسابُقي للمشهد الحداثي، أكثر من كونه تفتيتاً ناتجاً من سياق معرفيّ. تهدف نزّال في عملها، حسب ما تقول، إلى تجسيد شَتات الشعور بالانتماء إلى الزمان والمكان في الصالون الفلسطيني، نتيجة التهجير والغربة، من خلال جبل المقتنيات المفتَّتة عبر التاريخ، في وسط صالة العرض. والسؤال هنا: إلى أيّ مدى أثّر هذا التفتّت بهويّة ذواتنا وإلى أي مكان يأخذها؟ هل يقودنا إلى الظل الذي تجد فيه علا أبو زيتون ملاذَ جموع الناس، الذين لا يرون بسبب ضوءٍ ساطعٍ ينعكس عنه ظلٌّ عميق هو مسكنٌ للجموع؟

"مقبرة مثالية للآمال المفقودة" لـ ريم مصري - القسم الثقافي
"مقبرة مثالية للآمال المفقودة" لـ ريم مصري

تُعطي أبو زيتون عملها عنواناً هو "حيث يوجد الكثير من الضوء يكون الظلّ عميقاً"، إذ يحرص الكثير من الناس على العيش في هذه الظلال، ومقتنيات الصالونات من وجهة نظرها هي انعكاس لهذا النمط، الذي يُظهر استمرارية الجماعة في سلوكها تجاه مكانها أو أمكنتها، وتمثّله مجسّمات من الصلصال فيها مادة فوسفورية، تعكس الضوء الساطع والظلّ العميق.

هذا الاختفاء في الظلّ نجده عند ريم مصري، ويتمثّل بغزو الطحالب للصالة، في عملها المعنون "مقبرة مثالية للآمال المفقودة"، وهو يجسّد الفقد والاختفاء من خلال الطحالب التي غزت المكان مع مرور الوقت، وقد أظهرت هوية المكان بامتداد الطحالب. يأتي ذلك على العكس من شام أبو صالح في طرحها هوية المكان عبر تكسّر مقتنياته، في عملها "نافذة"، الذي يطرح التحوّلات وتأثيرها، والمتمثّل باشتغالها بالزجاج الملوّن المُجمَّع من بواقي منزلها على لوحة مغطّاة بسياج حديدي. اشتغالٌ يعكس القيود المفروضة على مقتنيات الذكريات في صالوناتنا، التي لو أردنا التخلّص منها بعد تكسّرها، لَوَجدنا سياجاً حديدياً ــ أعمق من أن يُرى بالعين المجرّدة ــ يمنعنا من ذلك.

"لا يرى" - رنا نزال
"لا يُرى" لـ رنا نزّال

ورغم هذه الاستمرارية في الفضاء المكاني بتشوّهاته وتفتّته، إلّا أنّ الذاكرة تتموضع فيه، وتأبى الانسلاخ عنه حتى في خضمّ الأزمات المتتالية. وهذا ما يؤكّده عيسى غريب، في عمله "أزمات متتالية"؛ أزمات يطرحها في بورتريه الصورة للزوج والزوجة المُعلّق على حائط الصالون، في محاولة لتخليد لحظة الفرح وتجميدها.

طرحت أعمال المعرض زاويةً مهمّةً عن تاريخ صالون العائلة الفلسطينية، لكنّها لم تحمل ثيمة واحدة تربط بينها، ولم تعكسِ التراكمية وعمق التحوّل ــ الذي له علاقة بالذكريات ــ في المقتنيات، من خلال فترات تاريخية مختلفة، ما جعل الأعمال تظهر أقرب إلى القطيعة مع المراحل الماضية، وذلك بفعل التطوّرات والتكنولوجيا التي أصبحت، وفقاً للفيلسوف الألماني هربرت ماركوزه، "الناقل الأكبر للتشيُّؤ الذي بلغ أكمل أشكاله وأنجعها" في هذا العصر، وأصبح يظهر في المعارض الفنّية.


* كاتبة من فلسطين

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون