- المسرحية، بأداء عامر فياض، تستكشف إرث كارل ماركس الفلسفي وتأثيره على الثورات، مع التركيز على جدله مع معاصريه وجوانب من حياته الشخصية، محافظةً على نبرة ساخرة.
- تبرز الذروة الدرامية القدرة الفنية على ربط حياة ماركس المضطربة بالواقع اللبناني، مع استمرار العرض بأضواء الهواتف المحمولة عند انقطاع الكهرباء، مؤكدةً على الإصرار في مواجهة الصعوبات.
على جُدران عديدة في شارع الحمرا ببيروت، وُضعت مُلصقات مكتوبٌ عليها: "كارل ماركس راجع". قد يعتقد المارّة بالمكان الذي يشهد بتفرُّعاته منذ عام 2019 جولاتٍ من الصدام بين محتجِّين من صغار المُودِعين وبين قوى مصرفية وسلطوية، أنّ هذه الملصقات تندرج ضمن المواجهة المستمرّة مع السلطة، مثل مصلقات وكتابات مشابهة في شوارع العاصمة مناهضة لقوى الأمر الواقع وحُكم المصرف، وأُخرى ضدّ الإبادة الصهيونية في غزّة ومُناصِرة لقضيّة فلسطين.
لكنّ تلك الملصقات، التي تُنبّه إلى عودة الفيلسوف الألماني (1818 - 1882)، ليست تهديداً سياسياً ميدانه الشارع فحسب، بل إعلانٌ عن مواجَهة تمتدّ إلى المسرح وتستدعي الفنّ لتقرأ واقعاً مأزوماً، وهذا ما تشتغل عليه مسرحية "كارل ماركس: المجيء الثاني" للمُخرج اللبناني الشاب رالف العسراوي، والتي بدأ عرضها على خشبة "مسرح لبَن" في بيروت الأسبوعَين الماضيين، وتُقدَّم عند الثامنة والنصف من مساء اليوم الخميس وغداً وبعد غدٍ.
إشكاليّة العودة إلى ماركس بالذات، والنقض الساخر لمقولة "إن كان قد ماتَ حقّاً؟"، أتت على صيغة مرافَعة كوميدية مونودرامية أدّاها الممثّل عامر فيّاض، واستغرقت ساعة تقريباً. قد يبدو أنّ استحضار صاحب "رأس المال"، وارتباط اسمه بأكبر الثورات التي شهدها العالَم في القرنين التاسع عشر والعشرين، يسحب العرض إلى الاكتفاء بموقع معروف سلفاً؛ لذا نجد ماركس ذاته يَدفع عن نفسه القدرة على الإحاطة بـ"ماركسيّته"، أمام مريدِين متحمّسين لذلك، وثوريّين لم يلبثوا أن ينقضّوا على ثورات باتت عائقاً أمام طموحاتهم الفردية، وقبل كلّ هذا وذاك، أمام ديكتاتوريّين سلبوا معنى انتصار "أبي إليانور" للإنسان وحرّيته.
سخرية فنّية من واقع لبناني دون الوقوع في فخّ المُحاكمات
ولئن كان العرض ينتصر لماركس وبه ضدّ الرأسمالية وتمثيلاتها السياسية والفكرية التسليعية، فإنّه لا يخلو أيضاً من الالتفات إلى مواجهاته مع أسماء فلسفية وثوريّة مثل برودون وباكونين، أو إلى سلوكه وحياته الشخصية وحضور زوجته جيني وبناته الثلاث فيها، حيث يبدو ممتنّاً جدّاً لهنّ. لكن هل احتوت حياة الثائر المنفي إلى حيّ سوهو اللندني على فجوات ذكوريّة؟ يُلمّح العرض فنّياً إلى شيء من ذلك، من دون أن يُغرق نفسه في محاكمة تفرّط بالحسّ الساخر.
يبلغ "المجيء الثاني" ذروته حين يلتقط حساسية الحاضر الاستعماري الإبادي في غزّة، من خلال المشهد الذي يمثِّل "كومونة باريس" (1871) والطريقة الدموية التي قُمعت بها، وكلّفت قتل قرابة 20 ألف إنسان، (حتى تتخلّص "عاصمة الأنوار" من "الفوضويّين"). هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ خيار القائمَين على العمل، العسراوي وفيّاض، بسرد حياة صاخبة ومحتدمة، وتكثيفها بإشارات كاشفة مأخوذة من واقع لبناني، يذكّر إلى حدّ ما بالعمل المسرحي الأشهر عن حياة الفيلسوف الألماني: "ماركس في سوهو" لهوارد زِن. بعد هذا، ماذا يعني أن تنقطع الكهرباء ليُستكمل العرض بالاستعانة بأضواء الهواتف المحمولة لأكثر من 10 دقائق؟ يرتجل فيّاض: "حتى هَيْ ما حلّيتوها؟".
في "المجيء الثاني" يعودُ شريك فريدريك أنغلز (1820 - 1895)، بشكلٍ سريع ولمّاح ولمدّة ساعة واحدة فقط؛ عودةٌ ربّما أراد لها صاحباها أن تكون متزامنة مع "عيد العُمّال" في الأول من أيّار/ مايو، لكنّ الأكيد أنّه ما كان لها أن تتحقّق لو لم تضبِط نفسها بموهبة فنّية كالتي عايناها.