حتى أيامه الأخيرة، ظلّ الفنّان البلغاري الأميركي كريستو (1935 - 2020) مُخلِصاً لرؤيته الأساسية بتحويل الحياة اليومية إلى الفنّ، وجعْل الناس يعيدون التفكير في محيطهم وعلاقتهم مع الفضاء العام؛ رؤية لا يمكن فصلها عن السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي أثّرت على هذه العلاقة ومنحتها صيغتها الجمالية التي قدّمها في أعماله.
ومنذ أول مشاريعه في مطلع الستّينيات، اصطدم الفنّان بعوائق عديدة تتّصل برقابة السلطة على الأمكنة، خصوصاً تلك التي ترتبط برمزية تاريخية أو أيديولوجية، أو بحساسية المجتمع تجاه ذاكرته التي يسعى الفنّ إلى تعديلها أو التعامل معها على نحو مختلف.
تنعكس هذه المناخات في معرض "كريستو... أعمالٌ مختارة"، الذي يُفتتح في "غاليري غاغوسيان" بمدينة بازل السويسرية مساء الجمعة المقبل (25 الشهر الجاري) ويتواصل حتى الثامن والعشرين من تشرين الأوّل/ أكتوبر المقبل، ويضمّ مجموعة من أعماله الورقية، إلى جانب تنصيبات ومنحوتات.
اصطدمت مشاريعه برقابة السلطة وحساسية المجتمع تجاه ذاكرته
يضيء المعرض مراحل مختلفة من تجربة كريستو، التي كرّست توجّهاته المعروفة، رغم أن جزءاً كبيراً من أعماله التي مولّ بعضَها ذاتياً، جرت إعادة استخدام موادها أو تدوير جزءٍ منها لتُنفَّذ في مشروع ثان بعد انتهاء العرض في هذا المكان أو ذاك، لكن المشهد الذي وثّقته العدسة لتلك الأمكنة وضعت منظوراً حيّاً لها، لا يزال عالقاً في أذهان الذين شاهدوه عن قرب.
من بين الأعمال المعروضة سلسلة قُدّمت بين عامَيْ 1963 و1968، وقام فيها الفنّان، بالتعاون مع زوجته الفنّانة الفرنسية جين كلود دي غويلبون (1935 – 2009)، بتغطية واجهات المحلّات التجارية بعناصر معمارية تشبه شكل النافذة وتتكوّن من ألواح زجاجية تتضمّن ورقاً وقماشاً بغرض إعاقة الرؤية، لتستمرّ فكرتُه حول تغطية المباني بتنويعات لا حصر لها في معظم مشاريعه اللاحقة.
مشاريع تطلّبت وضع مخطّطات كثيراً ما جرى تعديلها، بحيث خرجت بشكل يختلف عن رسوماتها الأوّلية، واستدعت أيضاً مفاوضات حثيثة مع الجهات والمؤسَّسات المسؤولة من أجل تنفيذ هذه المشاريع، لضمان البدء بورشات بناء كبيرة أدارها كريستو، الذي يُقرّ أيضاً بأنّ الجانب الحرفي التطبيقي كان له تأثيره على طروحاته الفنّية.
يعيد المنظّمون تقديم واحدٍ من الأعمال التي نفّذها كريستو وكلود في بازل قبل خمسة وعشرين عاماً بعنوان "الأشجار المغلَقة"، حين قاما بلفّ مئة وثمانٍ وسبعين شجرة تُحيط بـ"مؤسَّسة ومتحف بايلر" بالمدينة، بقماش البوليستر المنسوج بطول خمسة آلاف وخمسمئة متر.
استخدم الفنّانان، اللذان التقيا لأوّل مرّة في آذار/ مارس 1958، الغرافيت والفحم والباستيل والشمع والفوتوغراف والنسيج والورق في التشكيلات التي رُسمت على القماش، في تعبير عن رؤيتهما حول تجاوز الحدود التقليدية للرسم والنحت والعمارة، وهي الرؤية التي تظهر في عشرات الأعمال التي حملت توقيعهما وتوزّعت على فضاءات في قارّات العالَم الخمس.
إعادة اختراع المكان، العبارة التي تختزل تجربة كريستو وكلود، يمكن تتبّعها في الدراسات التي اشتغلا عليها، ويحتويها المعرض، بالإضافة إلى رسوماتهما الأصلية لأعمالهما التي نُفّذت في الواقع، وملاحظاتهما المكتوبة بخط اليد على الخرائط الطبوغرافية التي استخدماها، وكذلك أعمال مختارة لهما عُرضت في برلين ومارين (في كاليفورنيا)، وبحيرة إيزيو في إيطاليا، وغيرها...