يعود مَعلم "الكرّاكة" الأثري في مدينة حلق الوادي، شمال تونس العاصمة، إلى بدايات القرن السادس عشر؛ حيث شُيّد ليكون برج مراقبة صغيراً في زمن الإمبراطور الإسباني شارل الخامس، ثمّ حوّله القائد العثماني خير الدين بربروس إلى حصن عام 1534، ليسقط مُجدَّداً، بعد سنوات قليلة من ذلك، في أيدي الإسبان الذين قاموا بتوسعته وبناء حصون حول جهاته الأربع، قبل أن يتحوّل إلى سجن في زمن البايات الحسينيّين؛ وقد كان المكانَ الذي سُجن وعُذّب فيه علي بن غذاهم (1814 - 1867) الذي قاد ثورة شعبية ضدّ محمد الصادق باي سنة 1864.
خلال القرنَين السابع عشر والثامن عشر، أُعيد ترميم المبنى الذي دُمّرت عدّة أجزاء منه خلال الحروب مع الإسبان. وبعد الاستقلال، أصبح تابعاً لـ"المعهد الوطني للتراث"، وجرى ترميمُه عام 1965 وتحويلُه إلى فضاء ثقافي يحتضن عروضاً وتظاهرات ثقافية وفنّية؛ من بينها "مهرجان البحر الأبيض المتوسّط". لكن، وبعد ثورة 2011، اتّخذته بعض العائلات مأوىً لها، قبل أن يُخلى في 2017، لتستعيده وزارة الثقافة وتعِد بترميمه وصيانته حتّى "يسترجع دورَه الثقافي والسياحي".
لم تتحقّق تلك الوعود. وفي نهاية 2021، أعلَنت وزارة الثقافة عن توقيع "وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية" عقداً مع مستثمر خاصّ لترميم المبنى وتحويله إلى "متحف للخزف الفنّي"، مُشترطةً "الحفاظ على طابعه التاريخي والتراثي". وبينما كان يُنتظَر الانتهاء من الترميم، فوجئ مُتابعون بمقاطع فيديو نشرها المسرحي حبيب منصوري (وهو مدير مهرجان البحر الأبيض المتوسّط)، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في شباط/ فبراير الماضي، تُظهر تصاعُد ألسنة النيران في أجزاء من المعلم الأثري الذي قال إنّه يتعرّض للعديد من الانتهاكات بسبب تركه من دون حراسة.
شمل التخريب خلع جميع أبواب المبنى وهدْم جزء من أحد جدرانه
وفي الأيّام الماضية، جرى تداوُل أخبار، عبر منصّات التواصُل، عن تعرُّض المبنى لـ"حفريات عشوائية"، وهو ما نفاه "المعهد الوطني للتراث" و"وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية" اللذين أصدرا، الخميس الماضي، بياناً مشتركاً حول الموضوع. لكنّهما اعترفا، في المقابل - بناءً على تقرير أعدّه فريقٌ مشكَّل من ممثّلين عن الهيئتَين عايَن المعلم في السادس عشر من أيار/ مايو الجاري - بحدوث انتهاكات تمثَّلت في خلع كلّ أبواب المبنى وهدْم جزء من جدار كان يحمي إحدى تلك الأبواب، إضافةً إلى اقتلاع مُربّع رخامي في مدخله الشمالي، وإنزال الصقّالات التي كانت تدعم هياكل فضاء السجن.
وشهد المبنى عمليات تنقيب بين سنتَي 2009 و2011؛ وهو ما أوضح البيان، بشأنه، أنّ مصالح "المعهد الوطني للتراث" قامت بنقل كلّ البقايا الأثريّة التي أسفرت عنها الحفريّات إلى مخازن المعهد، قبل توقيع العقد مع المستثمر الخاصّ في كانون الأوّل/ ديسمبر 2021؛ وهو العقد الذي قال البيان إنّه "وفق الصيَغ القانونية"، مُضيفاً أنّه يتكوّن من شقَّين: الأوّل بحثي يموّله المستثمر ويُنفّذه "معهد التراث"، ويتعلّق الثاني بالترميم والصيانة بتكلفة تُقدَّر بثمانية ملايين دينار تونسي، إلى جانب تحويله إلى متحف للخزف.
وكان لافتاً في البيان تعهُّد "وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية" بمتابعة تنفيذ العقد والالتزام ببنوده، وتلويحها بفسخه "في حال حدوث تجاوُزات من قبل المستثمر"؛ وهو ما يعني ألّا أحد يتحمّل مسؤولية كلّ تلك الانتهاكات التي تعرّض لها المعلم؛ لا المُستثمر، ولا وزارة الثقافة والهيئات التابعة لها.