أغلبنا يعرف تنويعات هذه الحكاية: حكاية الشاب الذي يجوب الأرض بحثاً عن كنز، أو عن حياة مثالية، ليكتشف، في نهاية المطاف، أنّ الكنز كان موجوداً بالقرب منه قبل رحلته، وأنّ مكانه الحقيقي، وحياته المثالية، تقع هناك، في المكان الذي جاء منه، لا في الأرض التي حلم بها. لا يتوقّف المعنى الذي تحمله هذه الحكاية عند حدود السرديات الشفوية ذات المغزى الأخلاقي، أو عند حدود التخييل الأدبي، كما في رواية "الخيميائي" لـ باولو كويلو، الذي ينوّع على هذه القصّة.
ذلك أنّ لهذه القصة جذوراً فكرية وفلسفية تعود بنا قروناً من الزمان إلى الوراء. وتكفي هنا ــ لإعطاء مثال ــ الإحالةُ إلى نظرية أرسطو حول المكان، والتي يعرض لها في الجزء الرابع من كتابه "الطبيعة"، عندما يتحدّث عن "المكان الطبيعي" الذي يتوق إليه كلُّ جسدٍ (بشريّ) وجسم (طبيعي: كالكواكب)، ولا يهدأ له بال إلّا بالوصول إليه.
في كتابها "أن يكون المرء في مكانه"، الصادر قبل أسابيع لدى "منشورات لوبسرفاتوار" في باريس، تناقش الباحثة الفرنسية كلير ماران مثل هذه التمثّلات حول المكان والمكانة والمنزلة. وتأتي فكرة "المكان المثالي" بين أولى الأفكار الشائعة التي تذهب المؤلّفة إلى تفنيدها، قائلةً بأن مكاناً كهذا غالباً ما يكون من صنع التمثّلات والأحلام الجميلة، أي أنه أقرب إلى "الوهم" منه إلى الحقيقة، وهو ما تعطي مثالاًَ عليه حكايةُ الشاب الباحث عن الكنز.
ليس المكان المنشود جغرافياً بالضرورة، بل قضية جوّانية
فالمكان الذي نبحث عنه لا يقع بالضرورة في الحيّز الجغرافيّ، الخارجي، بل هو في الغالب قضية جوّانية وإحساسٌ شخصيّ، أو "مكانُ الداخل"، في لغة ماران؛ وهي حقيقةٌ أُخرى يعطي الأدب صوراً كثيرة عنها تذكّرنا بها المؤلّفة، كقصص الأغنياء، وأبنائهم، التعيسين، والشاعرين بغياب معنى ومكان حقيقيين لوجودهم، رغم البذخ المادّي الذي تتّصف به حياتهم.
تُفضّل كلير ماران الحديث عن "أماكن"، بالجمع، لا عن مكان واحد، باعتبار أن تجربة العيش ــ كما تقول، مقتسبةً الكاتب الفرنسي جورج بيريك ــ هي "انتقالٌ مستمرّ من مكانٍ إلى آخر"، و"مخاطرةٌ بتغيير مكاننا" وفق ما تتطلّبه تغيّرات الواقع الذي قد يفرض علينا أن نعيش في أماكن، أو نمارس مِهَناً، أو ننتمي إلى حلقات اجتماعية قد لا تتناسب مع ما نتوق إليه. هذا البحث المستمرّ، وهذا التنقّل، هو ما يميّز الحياة البشرية عمّا تعيشه الكائنات الأُخرى من حيوانات ونباتات، والمحكومة في بيئةٍ محدّدةً مسبقاً، "فقيرة بالعيش"، كما سبق لهايدغر ــ الذي تقتسبه ماران ــ أن قال.
بإخراجها لمفهوم المكان من حيّزها المساحيّ، الجغرافي، تفتْح المؤلّفة النقاش على مختلف التجارب التي قد يُسائل المرء خلالها نفسَه إذا ما كان في المكان الصحيح أو لا: من العلاقات العاطفية إلى العلاقة مع الآخر، المختلِف، بشكل عام، وصولاً إلى تجربة الحمل، والعمل، والمسكن، والطبقة الاجتماعية، والطفولة، واللجوء والهجرة.
قد يختلف المكان الذي نشغله في كلّ واحدةٍ من هذه التجارب؛ قد يتّسع وقد يضيق، قد ينهار ونضطرّ إلى البحث عن مكان آخر؛ غير أن حقيقة العيش، كما تقول، تكمن في أن جميع هذه الأماكن، التي هجرناها والتي نسعى إليها، تجتمع في مكان واحد هو تجربة الإنسان الداخلية وعلاقته بذاته وبالآخر. والإقامة في الذات تتطلّب، بحسب الكاتبة، مواجهةً مستمرّة للتمثّلات التي كثيراً ما تقود إلى التهويم أو إلى الوهم: إن كان حول أماكن وتضاريس وبلدان نحلم بها وتصدمنا بحقيقتها عندما نصلها، أو عن الآخرين، "الأجانب"، الذين تمنعنا أفكارنا المسبقة حولهم من اكتشافهم على حقيقتهم وبالتالي من اكتشاف حقيقتنا من خلالهم.