كوليت (1873 - 1954) كاتبةٌ فرنسية ونسوية معروفة. ونسويتُها كانت استحقاقاً، لا من تصديرها لنفسها، إذ إنَّ سيدوني غابرييل كوليت (Sidonie-Gabrielle Colette) عاشت كنسوية، وألهمت الأُخريات من غير أن تكون منظِّرة نسوية؛ بل وقفت في حياتها ضدّ تصويت المرأة في الانتخابات ببلدها. والكاتبة، التي لم تكن ترى السياسة حقلاً نسوياً، أصبحَت رمزاً نسوياً مع الموجة النسوية الثالثة التي أعادت إحياءها، وصدّرتها كواحدة من رموز الحركة، وكأنّما مقولة وجود الإنسان ليست في الأفكار فقط، وإنّما بالرسالة التي تؤدّيها حياتُه نفسها.
وما جعل من كوليت نسويةً هو ميلُها، في تجربتها الحياتيّة، لدفع النساء إلى التعبير عن ذواتهن. لا ننسى أنّها انتزعت اسمها الأدبي من زوجها الذي نشرَت أعمالها الأُولى بتوقيعه، وانتزعت علاقاتها الخاصّة انتزاعاً من فضاء باريس في بدايات القرن العشرين. إنَّها نسوية، لا لكتابتها قضايا نسوية؛ بل لأنَّها عاشت حقيقتَها، الأمر الذي كان شاقّاً حينها. وقد نقلت لينا بدر عن الفرنسية مجموعة كوليت القصصية "المرأة المتخفّية" (نُشرت عام 1924) في كتاب صادر عن "دار فواصل" (2021). الكتاب فرصةٌ لقارئ العربية؛ فهو كتاب في غواية الانتزاع، كتاب في الملامة، وكتاب في شجاعة الحقيقة.
"المرأة المتخفّية" هي القصّة الأُولى من المجموعة التي أخذت عنوانها أيضاً. ومع العنوان مثَّلت هذه القصّة القصيرة فضاء المجموعة؛ فهي تدور في حفل تنكُّري، التواصُل يحدث بين الزوجة المتنكِّرة وبين زوجها من وراء قناع. ومن وراء قناع، تتكشّف حقيقة المرأة الوحيدة التي تجعل من كونها امرأةً وحيدة متعتها، بأن تمضي من رجُل إلى آخر. والقناع بهذه الصورة لم يعُد أداة احتجاب وإنّما مكاشفة. والتواصُل يحصل بواسطة القناع، لا العكس.
نساءٌ يستخدمن جمالهنّ بدل أن يعشنه لأجل أنفسهن
ما هو زائف يشير إلى ما هو حقيقي. المرأة المتخفّية، هنا، هي امرأة متصالحة مع جوارها الذي قسرها على أدوار قادتها لأن تشعر بالوحدة. لكنّها بمعونة القناع، امرأةٌ صادقة وحرّة وبريئة. تصف وحدتها بأنّها "وحدة بلا حياء". ما يُضمر قولاً آخر بأنّها وحدة بلا أسف. المرأة وحيدة لدى كوليت، لكنّ الرجل في قصّة "الفجر"، التي تتحدّث عن انفصال زوجة عن زوجها، رجُلٌ مهجور، يغادر منزله الذي عاش فيه رفقة زوجته لعشرين عاماً إلى الريف. وفي هذا إسنادٌ لمعنى حياة الرجل إلى المرأة التي تسكن حياته وتؤنّثها. الرجل مهجور، لأنَّ زوجته تركته. هو ليس وحيداً، وإنَّما ممتلئ بامرأة هجرته، ويعاني لكونه لم يعد مُختَاراً من امرأته.
أسوةً بالقناع في القصّة الأُولى، دائماً ما تتخفَّى حقيقةٌ ما في القصص؛ كما في قصّة "اليد" التي تستغرق امرأتُها في وصف يد الرجل، في وصف قبحها وثقلها؛ حدّاً تقول عندما تستيقظ على حياة جديدة هي حياة العرائس، وكأنّها كانت مستلقية فوق "حيوان"، هو زوجها، صاحب اليد. لكن تنتهي القصة بالمرأة بأن تقبّل اليدَ القبيحة؛ بادئة حياتها بالدبلوماسية الخسيسة.
تنتقي كوليت الكلمات لتؤدّي وظيفة تَنْهَرُ زيف العلاقات. في قصّة "الورطة"، تصف امرأةً بأنَّها "كلبة سلوقية لها رسن". وهي هكذا، لأنَّها امرأة قَبِلَتْ أن تكون منتزَعة. وقد انتزعها رجُلٌ من رجُلٍ آخر. مع أنَّها منتزَعة بسبب خديعة الحبّ، الفردوس المتوهَّم؛ إذ يعيشُ الرجُل الجديد في جحيم انتظار هروبها منه إلى رجُل آخر، حتَّى أنَّه يتقبَّل موت المرأة أكثر ممّا يتقبَّل هروبها منه.
وفي الاستعارات القاسية التي تكتبها كوليت ما يشيرُ إلى احتقارها المرأة التي تظهر في حياة الرجل كي تشحن عالمه، ثمَّ تقيّده ببريقها. وما هو مكتوب للرجل أن يكون حظوته، يصير ما إن يمتلكه ورطته، وسجنه. يصير لعنته. المؤكَّد أنَّ المرأة التي يرتبط وجودها بموقف الرجُل منها هي امرأة محتقَرة في مجموعة كوليت، وهي محتقرة، كما نرى، لأنّها تتيح لنفسها أن تكون مُستخدَمَةً لقاء نيل السعادة، محتقَرة لأنَّها تطمح للسعادة بعون الرجال الآخرين. وفي تشابُك العلاقات التي ترسمها كوليت، ليس من المبالغة الاستنتاج أنّ الرجل لديها يقبل الخسارة، وسرعان ما يختفي. وغير ذلك، هو رجلٌ سهلٌ أن يَقع في حبائل الوهم أمام نساءٍ يَستخدمن جمالهن، بدل أن يعشنه لأجل أنفسهن.
في قصّة "المرأة الأُخرى"، التي أساسُها صدفة جمعت زوجةً مع الزوجة السابقة لزوجها في مطعم، يُغيّر الزوجُ مكان جلوسه رفقة زوجته الجديدة. وترى الزوجة من غريمة الماضي "بهيمة"، مع ذلك تبقى تنظر إليها بحسد، فقد استطاعت، في ما يبدو، النجاة من الزوج الذي يلحّ بالسؤال؛ إن كانا سعيدَين. إلحاحٌ يدفع القارئ إلى الشعور بأنّهما ليسا كذلك. والكلمات هنا ليست ما تقوله، بل ما تُخفيه. المهم نظرة الزوجة الجديدة إلى تلك القديمة المسترخية التي تَظهر سعيدة وتدخّن.
بدا أنّ المهمّ في القصّة هو نقيض الرجُل، لأقل غيابه، لأقل إنه إقصاؤه من بعد أن كان مختاراً. تدور القصص إذاً في عالم مضطرب؛ بل إنّ الشخصيات تبقى مسترخيةً وسط عالم مضطرب. فشخصيات كوليت تعاني الحب، وتعاني غياب الحب، كما في قصة "القاتل" التي تتحدّث عن رجُل يقتل عشيقته، ثمّ بدا أنّ يد الشرطي في النهاية تحرّره. القاتل يندم، لكنه يشبِّه لحظة القبض عليه بلحظة الحب. كما لو كان القتل ذروة الحب، لأنّه ذروة الاستحواذ.
شخصياتٌ ليس اضطرابُها إلّا جزءاً من تعريفها للوجود
شخصياتُ المجموعة في نزاعٍ على ماضي الآخرين. وفي هذا، عدا عن رفض الحاضر الذي أكثر ما يظهر في النزوع القهري إلى الفرار من شكل العلاقة التي تجمع المرأة بالرجل، أيّاً كان، والاكتفاء بجعل العلاقة سبباً للتحفيز من غير أن تكون هدفاً لتحقق الوِصال. فالتحقّق يعني الموت. وفي قصّة "القاتل"، لم يكن استعارة، كان موتاً حقيقياً.
أيضاً ما ردع الفنّان عن الانتحار في قصّة "اللوحة" هي اللوحة التي رسمها، والزهرة التي ختم بها المشهد المرسوم. ما ردعه ليس الحب، وإنَّما تجريده، وانفصاله عن الرجُل الذي كان يهمّ بالانتحار. عدا عن أنّ الشخصيات التي تريد الاستحواذ على ماضي الآخرين شخصياتٌ، الخوفُ من تقدّم العمر جزء من تركيبتها، ما نراه في قصص مثل "العادة" أو "اللُقية"، حيث لا يظهر الخوف من تقدُّم العمر خوفاً مجرَّداً، بقدر ما هو خوف من الوحدة التي تجيء برفقته.
إذاً، المجموعة ملأى بشخصيات مضطربة، واضطرابُها جزءٌ من تعريفها للوجود، جزءٌ ممّا تقترحه على نفسها في وجه الوجود الذي تتآكلُ فيهِ الروح بسبب الغيرة، والهوس بالامتلاك. ويتآكل فيها الجسد بسبب العيش نفسه، بسبب استهلاك الجسد وتقادُمه، كما لو أنّ المادّة تظهر عفيفةً لدى كوليت. وما يجعل من إنسان محتقَراً هو قبوله استخدام الجسد، أي نوازعه النفسية التي تبرع الكاتبة الفرنسية في تجسيدها، تجسيداً يضع الإنسان أمام حقيقته.
* روائي من سورية