حين يتعلّق الأمرُ بالكتاب في تونس (وربّما في بلدان عربية كثيرة غيرها)، ستبدو "المركزيةُ الثقافية" مسألةً صارخةً أكثر ممّا هي عليه في مجالات ثقافية أُخرى؛ ليس فقط لأنّ العاصمة، ومعها بعضُ المدن الكبيرة، تكاد تحتكر كلَّ ما يمتّ بِصلةٍ إلى صناعة الكتاب (دُور النشر والمطابع) وتسويقِه (المكتبات ومعارض الكتاب واللقاءات مع الكتّاب)، بل لأنّ ما يَصل إلى الأطراف؛ إلى المدن والقرى البعيدة، قليلٌ جدّاً وغيرُ نوعي غالباً.
للوهلة الأُولى، قد يبدو هذا الاستنتاج متناقضاً مع حقيقة توزُّع التظاهرات الثقافية على امتداد البلاد. لكنّ تلك التظاهرات تتمثّل أساساً في المهرجانات الفنّية والموسيقية والفولكلورية، مع مساحاتٍ جيّدة نسبيّاً للمسرح بفضل احتضان العديد من الولايات "مراكز للفنون الدرامية والركحية" التي جرى تأسيسُها منذ بداية التسعينيات وبلغ عددُها اليوم أكثر من خمسة وعشرين مركزاً.
إلى جانب ذلك، ثمّة مساحاتٌ أقلّ للسينما، وأُخرى أقلّ بكثير للكتاب؛ على الرغم من انتشار المكتبات الجهوية العمومية في جهات البلاد، وعلى الرغم ممّا يمكن اعتبارُه مُحاولاتٍ من المؤسَّسة الرسمية، متمثّلةً في وزارة الثقافة، لتخفيف حدّة المركزية باستحداث تظاهُرات خاصّة بالكتاب خارج العاصمة؛ ومن ذلك "معرض سوسة الدولي للكتاب" الذي انضاف في 2014 إلى "معرض تونس الدولي للكتاب" في العاصمة، وقد أُقيمت دورتُه الثامنة قبل أيّام (بين 11 و21 أيار/ مايو الجاري).
تحتكر العاصمة والمدن الكبيرة كلّ ما يمتّ بِصلة إلى صناعة الكتاب
من تلك المُحاولات أيضاً تظاهرةٌ تحمل اسمَ "كتاب على الحدود"، بدأَت في 2020 بتنظيم من "إدارة المطالعة العمومية" في وزارة الثقافة، بالتعاون مع شبكة المكتبات العمومية القارّة والمتنقّلة وعدد من المدارس والمؤسّسات والجمعيات المحلّية. ومثلما يُخبرنا اسمُها، تُقام التظاهُرة في المدن والقرى التونسية على الشريط الحدودي بين الجزائر وتونس، بهدف "التحسيس (التوعية) بأهمّية الكتاب والترغيب في المطالعة" فيها.
انطلقت الدورة الثانية من التظاهرة من قرية حمّام بورقيبة في ولاية جندوبة الخميس الماضي، على أن تستمرّ حتى السادس عشر من كانون الأوّل/ ديسمبر المقبل، ضمن ستّ محطّات؛ تشمل الأُولى طبرقة وعين دراهم وفرنانة، قبل أن تمتدّ إلى مدن ومعابر حدودية في ولايات الكاف والقصرين وقفصة وقبلي وتطاوين وتوزر. وإضافة إلى عرض الكتب، تتضمّن التظاهرة فعاليات تتمثّل في العروض التنشيطية والفنّية والمسرحية، وعروض الحكواتي، وورشات الرسم والخطّ العربي، والمسابقات الثقافية.
لعلّ المشكلة الأساسية في مثل هذه التظاهرات هي أنّها تنطلق من عقلية لا تنظر إلى الثقافة على أنّها جزءٌ أساسي وطبيعي من الحياة اليومية في القرى والمدن البعيدة، وإنّما كضيف موسمي يأتي لأيام قليلة ثمّ يغادر، بعد أن يترك للسكّان المحلّيّين ما في جيوبه من "هدايا" يغلب عليها الفولكلور والتنشيط الثقافي.