لقمان سليم قارئاً إسكندر الرياشي

03 فبراير 2022
لقمان سليم في مكتبه
+ الخط -

هذا كتابُ ذكرى ووفاءٍ، طُبعَ بعد وفاة باعِثِه، لقمان سليم (1962 - 2021) ــ الذي تمرّ اليوم ذكرى مرور عامٍ على اغتياله جنوبَ لبنان ــ ليكونَ شهادةَ تقدير له، باحثًا كَلِفًا بالضّاد وصُويْحِباتها، عارفًا بمسالك الفكر، نَشطًا في مَضائق السياسة، حتى بذلَ حياتَه في ساحتها. ظَهرَ كتابُ "نِسوان من لُبنان" ضمن سلسلة "طِبْق الأصل"، التي تُصدرها "دار الجديد" اللبنانيّة، مستعيدةً من خلالها عيونَ الأدب والصّحافة، ممَّا نَفدَت نُسَخُها، كهذا الذي حبّره إسكندر رياشي (1890 - 1961)، وصدر في الستّينيات للمرّة الأولى، إلّا أنّه، ومنذ مدّة، غاب أو غُيّبَ من التداول.

لأمرٍ ما، أكبَّ عليه لقمان سليم بعد أن التَقَطه نصًّا يتيمًا، يحمل أسلوبُه أصداءَ ذاتِه وتروي قِصصه قصّة مُثقفٍ جسور أعاد طَبعَه وصدّرَه بمقدّمة شيقة، بعَثت حياةَ هذا الصحافي الماجن بعد أن صارت رَميمًا، ربما بِفعل مَن تَعمّدوا إنْسَاءَه وكُتَبَه وما بثّ فيها من رُوح الجُرأة والبهجة، بَريئها وماجِنها. تضافرت إرادات حميدة وأسْدِيت "أيادٍ بيضاء" لإظهار ما أتمّه لقمان، من تَشكيلٍ للنصّ وتحقيق فَقَراته والتعليق على جُمَله وغَريب تراكيبه، تحقّقًا من كلّ تَفصيل، حتى يصدر في حُلّة عِلميّة بهيجة، تُناسب ما كان عليه لقمان من دقّة وتَليق بشَغفه وأُسرته، بفرائد الآثار التي أزعجَت آفاق انتظارها في زمنٍ مضى، وأثارت فيها جدالاتٍ جَريئة غابت في دوّامة التاريخ، لا لأنّها مخطئة، ولكنّ لأنّ أجواء الثقافة لدَيْنا لم تَعد ــ لفَقرها وانغلاقها ــ تَتحمّلها.

تُصدر "الجديد" آخر ما كتبه سليم وشذّبه قبل اغتياله

ومن أجل الاضطلاع بمهمّة تَحقيق كتب الرياشي، ارتحل لقمان وصَحبُه إلى مَسقط رأس المؤلّف، واختلفوا إلى ما كان يرتاده من مواطن وملاعبَ حتّى يلقفوا أي تفصيلٍ يساعد في فَهم شخصيّة هذا التائه الذي لم يَستَتِر من فَعلاته ولم يتقيّد بقيَمٍ اعتبرها زائفةً في حقبة انتقاليّة، انتقلَ خلالها لبنان من العهد العثماني إلى "الانتداب" الفرنسيّ وما صحبَ ذلك من تَحوّل في النموذج المَعرفيّ والأخلاقي.

كُلّلت هذه الجهود بنصٍّ ــ مقدّمة عن مُنعَطَفات حَياته وقلمه. ولهذا النصّ مَنزلةٌ خاصّة في نفوس أُسرة لقمان، إذ لعلّه آخر ما كتبَ وَشذّبَ قبل اغتياله. لذلك يبدو إصدار الكتاب، في ذكرى رحيله، سِمةَ وَفاء ونظرة شُموخ: تَفنى الخلائق وتظلّ كلمة الفكر تُخاطب الأجيال، رغم بعد الدّيار والعصور. إلّا أنَّ السّؤال الذي لا يَهدأ لدى مُطالع الكتاب: ما الذي شدّ لقمانَ إلى إسكندر؟

غلاف الكتاب

أوّل عناصر الإجابة في هذه الجُرأة التي طَبعَت تجارب الرياشي: ألم يَخرق نواميسَ المجتمع الشرقيّ المنافقة وسائِدَ القيم المستهلَكَة؟ ألم يخترْ تَعْريتها من هالة قداسةٍ لم تَعد تصمد أمام هَول تحدّيات وتحوّلات طرأت على الشّرق وهو يَلج أعتاب الحداثة مودّعًا مبادئَ القرون الوسطى، على وقْع قوّةٍ غربيّة انتدبَت ذاتَها للإشراف على لبنان وجيرانه، تحمي أقلّياتٍ، كما زَعمت، ولكنّها، وقد انكشفت، كانت تَدفع.

عاش الرّياشي هذا الطور الحسّاس، وأراد لقمان فهمَه بما طواه من فِخاخٍ وألاعيبَ وارتجالٍ. وبهذه الإرادة انطلقت ريشة لقمان، العاشقة الحاذقة، تَتْبع آثارَ هذه السيرة منذ ولادِة صاحبها حتى وفاتِه، فإذا به يفتح باب ذكرياتٍ بعيدة، في منتهى القرن التاسع عشر مبتداها، ومن أهازيج الأدْيرة وتَعاليم الكهنوت وصرامة الآباء سَداها. لذيذةً ماجنةً، تترى القصص. ومن أمثلتها غرامياتٌ وإباحَة واستهتار، ترافقها مُطالعات في كتب المِلل والنّحل ومغامرات في الحَرام، تنتهي بفرار في "جنح الليل"... 

يَستعيد التاريخ الصغير ويضفي عليه منطقًا ومعنىً افتقدهما

واستمرّ الشاب يُطالع ويكتُب، بل وينشئ الصّحف مُصرًّا على المعابَثة والتفكير، يُطوّف بين مُدن لبنان وفرنسا وأميركا حتّى استوى له القلم، فاتّخذ لنفسه لقب "التائه". وبنَفس هذا التيه الجريء وَلج عالَم السياسة، دون تمرّسٍ سابق، قبيل الحرب الكونية، حيث سَرّه أن يعمل ضدّ السلطنة التركيّة المتهاوية فيسهم في تسريع تَهاويها، جنيًا لكَسبٍ ماديٍّ، لم يتَسَتّر عليه. وبعدها راوَغ حتى ارتقى في سلّم المناصب إلى نقابة الصحافيين سنة 1949.

فالذي شدّ لقمان إلى هذه السيرة، أنها مَدخل الى فهم تاريخنا المعاصر، حيث انطوت على تفاصيلَ وأسرارٍ، بعضها افتراضي، حفّت بنشأة الدّول العربيّة حيث زُرِعت بينها "إسرائيل"، وأبانت عن ارتِجال حدودها حَسَب حساباتٍ ساقطة، ما تزال المنطقة تعاني من ويْلاتها. وهي الويلات التي ما فتئ الرياشيّ ولقمان يخوضان فيها: شَرقًا دمويًّا غير نظيف؛ مارسَه الأول وعايش صَغَاراتِه في طيشٍ، وسعى الثاني إلى فَهمه وإعادَة ترتيبه في أناةٍ.

ولا شك أنَّ لقمان افتُتن أيضًا بلغة الرياشي الصريحة القاطعة، تلكَ الفاضِحة العابثة، التي كَسَرَت صروحَ القداسة وأعْرَضت عن الزيف البارد، فضلًا عن أنّها، في عقودها الأخيرة، باتت لسانَ الكادحين والفقراء التّعِسين، تَدعو الى حَركة ثوريّة، على أرض التّاريخ ضرورتها، تقطع مع روحانية السماء حين تُشير الى نضال العمّال الذين استنفد الاستغلال أجسادَهم. لغةٌ ترفّه عن القارئ وتنسيه آلامَ المَعيش العسير في لبنان، سَنواتِه العجافَ الماضيةَ، وتَهبه فسحة سَفرٍ في تاريخ قَريب لكنّه يسحر بتفاصيله الغامضة، التي غابت أو غُيّبَت عن التاريخ الرسميّ لأنَّ سَدَنَته لم يَقرؤوا هذه الأسطر الخفيّة الخفيفة، التي عَمرت بها أعمدة صحافة تائهة، صدَرت في مُدن صغيرة بدايةَ القرن المنصرم وسجّلت شهاداتٍ وأحداثًا، أغفلتها الرّواية العالمة. ففي قِصص "النّسوان" كم تَختفي من قراراتٍ اتّخذها رجال الانتداب وأمضاها، لا عن قناعةٍ، ثم حَدّث عنها أولئك الذين "قَبَضوا"، وهم يدّعون الإخلاص للأوطان.

يرى لقمانُ قاتليه يَقبضون ثم يَلغَطون بفَخر السيادة الوطنيّة. فتَساءل، طيّ المقدّمة، عن هَوَس هذا التاريخ الرسمي العالِم الجَماعيّ بِنسيان الرياشي وإنسائه، وكتم صَفحاته الضالّة، كأنها لم تكن، في حين أنها مُجرّد معابثةٍ، صُوّرت أدبيًّا، ولعلّ جُلَّها افتراضيٌّ لم يَكن. ألهذا الحدّ كان فضيحةً سياسية وأخلاقيّة لا يصحُّ أن تُقَدَّم للأجيال الحالية ولمَن بَعدها؟ هل ساسة اليَوم مِن البراءة حتّى يَكتموا هذا الصّوت الناشز؟ أليس مَقتل لقمان أبلج حجّة على وجاهة ما ذَهب إليه الرياشي وارتَضاه منهجًا في المتعة وشِرعةً في الكتابة حين انتقد بني وَطَنه وأدانَ زيفهم؟ ها هو لقمان يُقتَل بأيدي الذين لا يَقرؤون، أولئك نفسهم الذين تجرّأ عليهم الرياشي وندّدَ بهم. ما لقمانَ إلّا صيغة ما للرّياشي، مُتّزنة، يَستعيد التاريخ الصغير ويضفي عليه منطقًا ما، يُرجع إليه ما افتَقَد من معنًى، يَسدّ ثلماته بجهده، ليقدّم التاريخ الكبير في كلّيّته.

نَشْرُ هذا الكتاب بحثٌ في مجاهيل التاريخ المنسيّ وزوايا الخَبر المَطويّ، يَصل أسرار الماضي بألغاز الحاضر، ويعانق ألوانَ الطّيف من وراء أقنعة الوجوه العابرة. إصدارٌ برسم الوفاء لِجَهد التنوير الذي استَمرّ حتى آخر لَحظات عمرٍ، كان قد أهدِر جَرّاء ضغينة مَن لا يحبّ القلمَ ولا يَجنح للتفكير.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

 

موقف
التحديثات الحية
المساهمون