من بين النصوص النقدية الشيقة التي كتبها الروائي والناقد الإيطالي الشهير إِيتالو كالفينو (1923-1985) نص بعنوان: لماذا نقرأ الأعمال الكلاسِيكِيّة؟ وقد عمَّد به كتابه الذي يحمل الاسم نفسَه، وفيه يكشف عن قراءاته في أعمال العديد من أعلام الكتابة المنتمين إلى العصر الحديث والمعاصر، الذين هم ليسوا كلاسِيكِيّين، بالمعنى المدرسي المتعارَف عليه لدى كثير من القُرّاء، بل الكلاسيكيّون عنده هم، مثلاً: بلزاك، فلوبير، هيمنغواي، بورخيس، تولستوي، مارك تْوَاين، هنري جيمس...
هؤلاء كلاسيكيُّون -وَفق تعريف كالفينو- لأنه يقرأهم ويعود إلى قراءتهم باستمرار، طالما "أن قراءتَهم تَصلُح لنا لكي نَفهم من نحن وما بَلَغناه، ولهذا يَكون الإيطاليون ضروريّين تحديداً لمُقابَلتهم بالغرباء، ويكون الغُرباءُ لا مناص منهم تحديداً لمُقابَلتهم بالإيطاليين".
ويبرِّر كالفينو بعبقرية ساذَجة الدافع إلى قراءة أولئك بقوله إن "السبب الوحيد الذي بوُسعي الإدلاء به هو أنّ قراءة الكلاسيكيين أَفضَل من عدم قراءَتهم" بمعنى أنه يُسلِّم بأن معرفة الأشياء خير من جهلها. وواضح أن كالفينو يُعطي تعريفاً جديدا للكلاسيكي؛ فمن جهة، يتخطى الحدّ الزمني الخطي، لأنه يُدمج مِعيار القراءة المتكرِّرة للنص ذاته، تلك القراءة التي يغدو زمنُها دائرياً، مثلما قصص بورخيس التي لا تفتأ أحداثها تبدأ حيث تنتهي. ومن جهة أخرى، يُطلعُنا على الغاية من قراءة الأغيار، التي "تَصلُح لنا لكي نَفهم من نحن وما بَلَغناه"، لإسهامها في وعي الذات باختلافها عن الآخرين، وفي تَبيُّنُها ما يُمكن أن تُفيد منهم في شتى المجالات، لأن الأشياء بضدها تتبيَّن، وبالمختلِف عنها تغتني، ولأن معرفة الغريب خير من الجهل به، ودليلُه على ذلك شَغَف سقراط بالمعرفة حتى وهو يشرف على الموت، "فبينما كان سُمُّ نبتة الشوكران يُهيَّأ له كي يتجرَّعه، كان يتحرّى تَعلُّم لحن يُعزَف بالناي، فسُئِل "فيمَ سيُفيدُكَ؟". ردَّ "كي أَعْرِفه قبل الموت".
باتت الترجمة قدَرنا منذ أن أصبح عالمنا قرية صغيرة
ولا يخفى أن الغريب عند كالفينو هو اللسان حامل الثقافة ومرآتُها، أي اللغة التي كُتِبت بها أعمال الأعلام المذكورين أعلاه، الذين عَدَّهم كلاسيكيين، بالطبع، والذين قرأهم مترجَمين إلى الإيطالية أو إلى لغة أجنبية يُتقنُها، وهو بذلك يلتقي مع فيرجينيا وولف، التي أقَرَّت بأننا في قراءتنا للأغيار "نرتهن، في عمى وضِمنياً، إلى عمل المترجمين" الذين اعترف لهم الروائي البرتغالي ساراماغو بأنهم يكتبون الأدب الكوني، بينما الكُتّاب يكتبون الأدب القومي.
هكذا، نَكون جميعاً قُرّاءً للكلاسيكيين، الذين نتعرَّفهم بالضرورة بوساطة الترجمة الأدبية، التي تُعَدّ في حد ذاتها نشاطاً أدبياً، بل جنساً أدبياً كثيراً ما نُظِر إليه، من قِبل المحافظين وحُرّاس العتاقة، بصفته شَرًّا يتحيَّف الهوية ويترصَّد التّراث، لأنهم يرون فيه مُكرِّساً للتّبعية للأجنبي القويّ، الذي يُتيح له تفوُّقُه المالي والتكنولوجي تمويلَ ترجمة أدبه وفنه إلى اللغات الأخرى، فيُضيف بهما -إلى هيمنتِه العسكرية والاقتصادية والسياسية على تابعيه- هيمنتَه الثقافية، بإحكامه السيطرة عليهم عبر تصديره قِيَماً أخلاقية وجمالية غريبة على المجتمَع المُضيف، بها يَفرض على الثقافة واللغة المستقبِلتيْن معجماً وتعابير وأساليب وقِيَماً ورؤى غير مألوفة، فتكون في نظرهم شرًّا مستطيرًا.
ومع ذلك، فلا فكاك للبشر من الترجمة، لأنها الحياة، أو لأن فيها حياةً، ولأن كل ما تلمسه اللغةُ تلمسه الترجمة حتماً، لذلك حسم بُول إِنْغْل Paul Engle المسألةَ بقوله "الترجمة أو الموت". الترجمة قدَرُنا لأنّنا نعيش في عالَم يُعرَّف بأنه "قرية صغيرة". ونحن نُعرِب بإقبالنا على المترجَمات عن اعترافنا بالآخَر، وعن الرَّغبة في اللقاء به والتعايش معه، وعن استعدادنا للتعرُّف إلى ثقافته مجَسَّدة في أعلام من ماضيه البعيد والقريب، في فضاء "إعادة الكتابَة" أو "الفضاء الثالث" -وَفق هومي بابا- حيث يُستوْعَب المختلف، وتُتَجاوز استعارة الجِسْر المستهلَكة، التي كثيراً ما شُبِّهتِ بها الترجمة.
نقرأ الترجمات لكي نفك العزلة عن ذاتنا، ولكي نطَّلع على الجميل والجديد في أدب العالم وفكره، ولنواكب ابتكاراته واجتهاداته، فنلقِّح كتابَتنا بالجِدَّة، التي تفتح له في الوقت ذاته آفاقاً أرْحب. نقرأ الترجمات لأننا نطمح إلى أن نكون حاضرين في العالَم جماليّاً، ومُطَّلِعين على منجَزاتِه في الدفاع عن كرامة الإنسان، ومتطلِّعين إلى ما يُعرَف في فلسفة بول ريكور بـ"الاستهداف الأخلاقي" المتمثِّل في الحياة الجَيِّدة والخيِّرة، "مع الآخر ومن أجله في إطار مؤسَّسات عادلة".