لولا الترجمة

23 أكتوبر 2024
الروائي المكسيكي كارلوس فوينتيس، 1988 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تلعب الترجمة دورًا حيويًا في نقل الثقافات والأدب العالمي، مما يتيح للقراء التعرف على مؤلفين وثقافات متنوعة، وقد أبدى العديد من الأدباء تقديرهم العميق للمترجمين.
- رغم أهمية الترجمة، هناك من يقلل من شأنها مثل كونديرا، الذي يرى أن قراءة الأعمال بغير لغتها الأصلية لا تعني قراءتها حقًا، مما يعكس ازدراءً للترجمة.
- لم تؤثر الآراء السلبية على اهتمام القراء بالترجمات، حيث تظل وسيلة سريعة لاكتشاف الثقافات، مؤكدة دورها كجسر للتواصل الثقافي.

نقرأ كتُباً كثيرة في غير لغتها الأصلية، ونستمتع بها، وفي الوقت نفسه نُفيد منها بتعرُّفنا إلى مؤلِّفين متميِّزين، وإلى ثقافات مختلفة، وما كان لنا أن نكتشف الاثنين لولا فضلُ المترجِمين قبل الناشرين، لأنهم الأساس في نشر الأعمال ووصولها، ذلك أنه قبل ظهور المطبعة على يد غوتنبرغ كان الاستنساخ هو المعوَّل عليه في الترويج للأعمال المتنوِّعة، بما في ذلك المترجَمة؛ ولذلك أبدت فيرجينيا وولف امتنانها للمترجِمين لمّا أقَرَّت بأننا في قراءتنا للأغيار "نرتهن ضِمنياً إلى عمل المترجمين"، مثلما امتدحهم كثيرون، وعلى رأسهم ج. ستاينر، الذي قال عنهم: "المترجمون هم أناس يبحثون عن آخرين مُتحَسِّسين، وهم مُنغمِسون في ضباب مُشترَك"، وعضده في رأيه ساراماغو بذهابه إلى أن "الأدباء يكتبون أدبَهم القوميَّ، بينما المترجمون هم كُتّاب الأدب الكوني".

وعلى الرغم من ذلك، لا نَعدم من المؤلِّفين المُبدعين والنُّقّاد أسماء ذات صيت عالٍ تَبخسُ المترجم عملَه، بل قد تستخف بمن يقرأ الترجمات، كما هي حال الروائي والناقد التشيكي كونديرا، الذي سأل الرِّوائي المكسيكي كارلوس فوينتيس، في لقاء جمع بينهما، مُستفسِراً إيّاه إنْ كان قد قرأ كافكا، فأجابه الثاني بأنه قرأه بالفعل، وكان كونديرا قد رغب في معرفة إن كان فوينتيس قد قرأ أعمال كافكا في لغتها الألمانية، فلمّا أجابه الثاني بأنه لا يعرف الألمانية، أكَّد كونديرا للمكسيكي أنه على هذا الأساس لم يقرأ كافكا.

ولا يَخفى أن نظير هذا الحُكم فيه ازدراء للترجمة، ولِجَهد المترجِمين، وحتى للقُرّاء الذين يُقبلون عليها، وأنه ينمّ عن سذاجة صاحبه، وعن عدم صدوره عن موقف علميّ رصين، بل قد يعني أنه يُكرِّس الانصياع لتلك الآراء التي تلوك، في تسرّع، أحكاماً جاهزة ومُنتقِصة من الترجمة، والتي مؤدّاها أنها أدب من الدرجة الثانية، بل خيانة في شِقّها الأخلاقي، بينما الترجمة فعل إبداعي أصيل، وقد نبَّه كثيرون إلى قيمته، فهذا ج. ستاينر يُؤكِّد أنّ "كلَّ فِعل ترجمة، خصوصاً عندما يُتوِّجُه النَّجاحُ، يتضمَّن جرعةً من الخيانة"، التي يُحبِّذها القُرّاء، على اعتبار أنّ اختلاف الأنظمة والأنساق اللغوية والثقافية يقتضي تغييرات تستحيل معها إعادة إنتاج الأصل ميكانيكياً.

لم يكترث القرّاء ولا دُور النشر بالتبخيس من شأن الترجمة

لكنّ كونديرا نفسَه لم يقرأ الملاحم اليونانية والكوميديا الإلهية ودون كيخوتي وروائع الأدب الروسي في لغتها الأصلية، ومع ذلك فقد أشار إليها في أعماله النقدية والروائية مثلما أحال إلى أعمال أُخرى تنتمي إلى العصر الحديث، وإلى ثقافات لا يُتقِن لغتها، ومنها الفرنسية قبل أن يتعلَّمها ويُبدع فيها؛ فالبديهي، إذن، أن يكون قد اعتمد الترجمة في قراءتها ومُقارَبَتها، وأن يكون معنيّاً بقولة ج. ستاينر، مرّة أُخرى، إنه "في الترجمة، يُحَسُّ بطريقة درامية جَدلُ الواحد والمتعدِّد"، أي جدل النصّ "الأصل" والترجمات التي تتفرّع عنه، والتي هي بالطبع إنتاج لمُترجِمين ذوي حساسيات مختلفة ومعارف متنوعة ومتفاوتة.

هل صدّ رأيُ كونديرا في الترجمة القُرّاء عن الإقبال عليها؟ أَتَخلّى المترجمون عن نشاطهم؟ وأيّ أثر كان لرأيه على دُور النشر في استمرارها بإصدار الترجمات والبحث عن كُتب تستحقّ الترجمة؟

الواقع أنّ الإقبال على الترجمات في العالَم لا يزال متواصلاً وبوتيرة عالية، ويكفي هذا المُعطى مؤشِّراً على عدم اكتراث القُرّاء من جهة، ودورِ النشر من جهة أُخرى، بمثل حُكم كونديرا أو أحكام غيره التي تُكذِّبها الوقائع، ذلك أن البشر، خاصة في الغرب المسكون بالمغامَرة والاكتشاف، لا يكتفون بالسفر للاحتكاك بشعوب العالَم مُباشَرة، بل إنهم يسعون إلى التعرُّف إليها بوسائل مختلفة، لعلّ أبرزها القراءة، وتكون الترجمة هي الطريق السريع والمُختصر لبلوغ ذلك المُراد، قبل القيام بالرحلة، أو أثناءها.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون