الخيار الغالب على الرواية السُّورية اليوم هو القول، أي أنّ قيمة الرواية، وقيمة الروائي، وشهرته، وتسويقُه بين القرّاء، قائمة على القول الذي يقدّمه، لا على الكيفية التي يقدّم بها هذا القول. ولهذا فإن الحياة الثقافية السورية تشهدُ انقساماتٍ كبيرة بين القرّاء والصحافيّين، بينما يغيب النقد والنقّاد، عن تصنيف الرواية، وتقدير قيمتها من الناحية السياسية، لا من الناحية الفنية، ومدى استجابتها لشروط الفنّ. بينما تشهد ساحة الرواية نفسها انقساماً بين الروائيّين بسبب اختيار الموضوع.
ومن غير المعروف، لي على الأقل، في ما إذا كان الروائي هو الذي "يختار" الموضوع، ويخلق جمهوراً من حوله، كي يشجّعه، ويصفّق له، أم أن قوّة الموضوعات، وصراعها العنيف، الظاهر أو الخَفيِّ، وسطوة الرأي العام، هي التي تفرض نفسها على اختيارات الروائيّين، أو اختيارات بعض الروائيّين.
غير أنّ الحال هو هذا اليوم؛ تغيب، أو تتراجع، إلى الحدود الدنيا، مسائلُ الرواية، أو فنُّ الرواية، وقد لا تجد في أيّ مطبوعة سوريّة، كلاماً عن هذا الفنّ من الناحية التطبيقية، ويستمدّ أغلب الروائيّين شهرتهم، أو جمهور قرّائهم من الموضوع الذي يختارونه، حيث تتقدّم السرديات الصغيرة، ويُعفى الإنسان في الجانب الآخر من الصراع، من وجوده كإنسان.
وإذا كان الموقف السياسي للروائي هو الذي يضع الموضوع بين يديه، فإنّنا نقفُ اليوم أمام صراع جديد، هو صراع الموضوعات، وهو انعكاسٌ أُحادي للصراع السياسي القائم في البلاد، فهناك مَن يختار موضوعه من جانب المُوالاة، ويصلُ هؤلاء الروائيون إلى نتائج مختلفة تماماً، بل مُناقِضة، لمَن يختار موضوعه من باب المعارضة.
مشجعو "الموضوع" لا يقرؤون إلّا ما يلبّي موقفهم السياسي
ولهذا فإنّ اختيار بعض الموضوعات فتح أُفقاً أمام بعض الروايات كي تكون مُحايدة سياسياً في الصراع، فاختيار الإرهاب مثلاً موضوعاً روائياً، يعفي الرواية، والروائي، من تَبِعة تحديدِ موقفه من الصّراع بين السُّلطة والمعارضة، حيث يتحوّل داعش والقاعدة إلى قوّة خارجية مُطلقة خالية من السِّياسة، وممتلئة بالجريمة والإرهاب فقط، وثمّة من يستغلُّ هذا الموضوع كي يضعَ الثورة السورية كلّها في الجيب الصغيرة للإرهاب.
والأمر الآخَر الذي يترتّب على تفضيل الموضوع، هو أنّ الروايات تتساوى جميعاً في القيمة التاريخية، كما أنها تقوم بمهمّة تسويغ الموضوع، والدفاع عنه، بصرف النظر عن إنسانيته أو لا إنسانيته، أو حقيقته الأخلاقية.
ولهذا تتراجع قراءة الرواية السورية، بعكس الأوهام التي يظنّها كثيرون، فمشجعو الموضوع سريعو العطب، ولا يقرؤون إلّا ما يريدون أن يلبّي مواقفهم السياسية، حيث تنتفي هنا الحاجات الوجدانية والجمالية، كما يختفي الجواب عن: "لماذا نقرأ الرواية؟"، أو السؤال الأعم: "لماذا الأدب والفن؟"، حين يحصره أنصار الموضوع في زاوية ضَيّقة تجعل من الرواية خادماً فقط.
وفي ظنّي أنها حالة خاصة قد لا تُشبهها أيّ حالة روائية، في أيّ بلد شهد حرباً أهلية، أو شبه أهلية، في عصرنا، ولم أقرأ من بين جميع الروايات الإسبانية، مثلاً، التي كتبت عن الحرب الأهلية الإسبانية مثل هذا، إذ كانت في مجملها مُنحازة إلى قضية الإنسان بكلِّيته، لا الإنسان السياسي وحده.
* روائي من سورية