القطيعة الكبرى التي أرساها الإطار المرجعي الأوروبي المُشترك للغات، المعروف اختصارًا بــ CEFR هي التأكيد على الكفاءات التواصُليّة عوضَ المعارف النحوية النظرية، وعلى النجاح في أداء المهامّ الحواريّة، بدلَ التعمّق في المعلومات الذهنيّة. ولهذا، غدا التركيز منصبّاً، حسبَ هذا الإطار، على أدوات إنجاح هذا التواصل وتأدية الكفاءات فكان من ثِمار هذه القطيعة أنْ مالت مناهجُ تَدريس الضاد للناطقين بغيرها إلى التشديد على الكفاءات التواصلية ومَهارات التعبير والوصف والحوار، لا على بذل المجهود في المعرفة المعيارية لنظام اللغة وطُرق اشتغالها.
ومن آخر المؤلفات ظهوراً حسب هذا التوجّه كتابُ "مَرحبًا يا صبايا، يا شباب!"، الذي أصْدَرتْه مُؤخَّراً الباحثةُ الجامعيّة ماري باز- فاران عن دار نشر "ARADIC للعالم العربي"، ومَقرّها بمدينة ليون الفرنسية. ينقسم الكتاب إلى اثنتَيْ عشرة وَحدة بيداغوجيّة تنتظم وفق نفس المنطق، حيث تنفتح بحوار عربيّ مَنسوخ بالأحرف الفرنسية مع فراغات يُقام بملئها إثر نشاط سماعي يُصغي أثناءَه المتعلّمون إلى ذلك الحوار مُسجّلاً، من أجل فَهمه والتشبّع بعباراته ونَبَراتِه.
وعادة ما تكون المفردات الناقصة تلك التي دُرّست في الحِصص السابقة. وفي مرحلة موالية، نجد نفس النص تامّاً بالعربيّة وبنظام النَّسّخ يتبعه جدولٌ بأهم المفردات الجديدة التي تتألف منها الوَحدة، مع ذكر صيغ التأنيث والجمع للأسماء. ونقرأ بعدها التّرجَمة الفرنسيّة لنص الحوار وهي ترجمة تراعي قَيداً مُزدوجاً: فَمن جهة أُولى تَنقل الشُّحنات العاطفية والنبرات التواصليّة التي نجدها في محاورات النّاس العفويّة، ومن جهة ثانية تفي بِقَواعد الفرنسيّة المُعاصرَة.
إطار قصصي يدمج الحوارات ويُعطيها خيْطاً ناظماً
ورغم هذا التركيز على التواصل، خَصّصت الباحثة، وهذا مما يُحمد ويَجدر ذكره، فقرةً لتقديم القواعد النّحويّة ضمنَ منطقٍ تقدّمي متصاعد، فَقرة أُكمِلت بجداولَ لتصريف الأفعال في المُضيّ والحال، كما كُلّلت كلّ وَحدة بمجموعة من التمارين التطبيقيّة التي من شأنها تثبيت الكفاءة التواصليّة والتمكن التام من أبنيَة اللغة وتصاريفها. ومن الطريف أنّ الوَحدات الاثنتيْ عشرةَ قد صيغت ضمنَ قالَبٍ سَرديّ، أبطاله المتخيّلون فريد ومهدي وحياة، يتحَاوَرون تارةً في دمشق وتارة في فرنسا أو ألمانيا، بُعيد فترة 2011 في إشارة إلى وضع الهجرة والمنفى التي عانى منها السوريون. وهذا الإطار القصصي مما يُيَسّر دمج الحوارات وإعطاءها خيْطاً ناظماً ومشوِّقاً. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنَّ اللهجة المُدَرَّسة هنا هي اللّهجة المَحكيّة في المشرق العربي (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) في صيغتها المُعاصرة، وبقطع النظر عن بعض الاختلافات الصوتيّة والفروقات التداوليّة.
وقد راهنت ماري باز- فاران على اعتماد مَبدأ النّسخ بالأحرف الفرنسيّة، وهو خيارٌ يمكن أن يُناقَش، كما أنّه ليس الخيار الوحيد، إلا أنه يَنبثق من تجربتها الذاتيّة؛ حيث تعلّمت بهذه الطريقة المعتمَدَة منذ القرن التاسعَ عشرَ (في قاموس إدوارد غاسلان مثلاً)، وقد بَرّرتها بالرّغبة في كَسب الوقت الذي يمكن أن يُبذل في تعلّم رسم الأبجدية العربية وفي تَصحيح النطق بها. إذ لا ننسى أنّ الكتاب يُدَرَّس أساساً في مَدرسة سان- سير العَسكريّة ويتوجه إلى العسكريين الذين قد يَعملون في منطقة "الشرق الأوسط"، مع أنّه يَصلح منهجاً للتعلم العِصامي للكُهول واليافعين. كما يتنزّل هذا المنهج ضمن تقليد بعيد أرساه علماء اللسان والأساتذة الفرنسيون في تدريس محكيات الشرق الأوسط، ومن ذلك أعمال لاتور استبان وجون كسّاب وبطرس وديع.
يَضعنا هذا الكتاب أمام تحدٍّ حقيقيّ: كيف نُحدّد الكفاءات التواصليّة الواجب تَعَلُّمها؟ ثمّ كيفَ نحدّد السجلّ اللغوي الذي ينبغي استعماله في أدائها؟ لا شكَّ أنَّ التواصل الأساسي لا يجري في عالمنا العربي إلا بعبارات مَحكيات الأقاليم، ومَن يحاول استخدامَ الفصحى ربما سقط في مواقفَ مثيرةٍ للسخريّة. ولذلك، اصْطَفّت ماري باز- فاران إلى جانب لغة المحاورة الشفويّة الحقيقيّة والتواصل اللفظي المباشر دون المَكتوب وركّزت على تمثّل الأبنية الصوتيّة والعبارات المَحكية التي يتداولها الناس في معاملاتهم اليوميّة، مع التأكيد على أنَّ غايَة المتعلّم الأساسية هي تَعلم لغة التواصل الفعليّة أيْ اللهجة المحكيّة بِسماتها الصوتية وتعالقاتها الدلالية وحتى الأسلوبيّة. ولا يعود من المشروع التركيز على القواعد النظريّة والمعايير التي لا يستخدمها أحدٌ، وإن ظَل تعلّم تلك القواعد والمفردات ضَروريّاً للغة المكتوبَة.
كما أنها اختارت رسم الجمل الحوارية بالأحرف اللاتينية، إلى جانب العربيّة، مما قد يعطّل في نَظر البعض الاكتساب البصري لرسم الحروف، لكنّها برّرت ذلك بأن هدفها الاشتغال على مَلكَة النطق والاستماع من أجل الفهم والإفهام وهي غاية يكفي لتحقيقها الاعتمادُ على أي مُستَند لاستنساخ الصواتم وإعادة إنتاجها. ويمكن أن نعبّر عن احترازنا من خيار توظيف طريقة النسخ هذه، مع أنها سادَت في كلّ اللغات وتَعتمد كتابة الكلمات بما يقابلها من أحرف تلك اللغات تسهيلاً لنطقها وتمكيناً لمن لا يَعرف الخطّ من استخدام كلمات العربية دون المرور بمرحلة تعلّمها. وقد بَرّرت هذا الاختيار بالرغبة في كسب الوقت، وبتوخّي الدقة في نطق الكلمات المنسوخة. إلّا أنَّ مسار التعلّم لا يقتضي فقط تَخصيص وقت لاكتساب مبادئ اللغة المَدروسة، بل وبذل الجهد في تعلم أنظمتها العلامية والرسم أولاها. ولا ننسى أنّ تعلُّم نظام النّسخ يقتضي هو الآخر وقتاً غير زهيدٍ يحسن توظيفه في تعلّم الرسم العربي وهو أجدى وأنفع.
ولعلّ الكاتبة قد أهملت ما شَهدته العربية الوسطى من توسّع مستمرّ، وهي أيضاً محكيّة، تُستخدم أكثر فأكثر في التواصل وإنجاز مهام الترحيب والشكر والاعتذار وغيرها، وذلك بسبب ارتفاع نسبة التمدرس والحضور الطاغي لوسائل الإعلام وترسيم استخدام الفصحى في المجال العام.
أهملت الكاتبةُ ما شَهدته العربية الوسطى من توسّع مستمرّ
قد يناقش البعضُ في وجاهة اختيارات الكاتبة، ولكن لن يماريَ أحدٌ في أنّ تدريس المحكيات، الذي ظلّ مُبعداً عن الانشغال الرسميّ لرجال التربية والتعليم عندنا، سيُثرى بمثل هذا المنهج الجديد، وبما يتضمّنه من تمشٍ تصاعدي يَسير بالقارئ الهوينا على دَرْب الضاد الوعرة، ولا سيما لطلاب بالغين قد يتعلمونها بشكل عصاميّ، وهو ما يوفر أداةَ عمل يُمكن أن تغني منهجيات تعليم الفصحى، فالسجلّان يتعايشان بسلامٍ منذ قرون.
ماري باز- فاران من أصدقاء لغتنا الوفيّات، تَحصّلت على شهادة الدكتوراه سنة 2009، وهي متخصّصة في الألسنية العربيّة ولا سيما قضايا الاشتقاق ودلالة الأوزان الصرفيّة والقيم المعنويّة التي تنضاف عبر الزيادة، كما أنها تدرّس التطورات الدلالية التي يشدها المعجم العربي المعاصر والمَحكية السوريّة خصوصاً، وقد حَرّرت العديد من المقالات حول تَدريس الضاد لغير الناطقين بها ولا سيما من الفرنسيين المبتدئين، هذا إلى جانب نشاطها ضمن "جمعية AFDA" التي ترأستها ضمن اهتِمامها بِتدريس العربيّة في القطاع الفرنسيّ العام.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس