ماري ريج- ماكنتوش.. رحّالة بريطانية إلى عوالم نساء العراق

21 مايو 2022
أزياء نساء من كردستان في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

أمضت ماري ريج - ماكنتوش (1789 - 1876) شطراً مهماً من شبابها بين الهند والعراق، مسافرة براً وبحراً، برفقة والدها جيمس ماكنتوش، الذي عمل قاضياً في بومباي الهندية، أو زوجها كلاوديوس ريج الذي عين معتمداً مقيماً لشركة الهند الشرقية البريطانية في بغداد. ولذلك طافت هذه السيدة المثقفة في الكثير من دول العالم، ودونت جانباً من مذكراتها، وحررت ونشرت مذكرات زوجها حول رحلته إلى كردستان بعد وفاته بسنوات، أي في عام 1836، كما أوضحنا في مقالة سابقة.

وكانت ماري ماكنتوش قد سافرت في عام 1804 إلى بومباي للالتحاق بوالدها، عبر رأس الرجاء الصالح، وفي عام 1807، وصل عالم الشرقيات الشاب كلاوديوس ريج (1786 -1821) إلى بومباي لتولي منصب كاتب شركة الهند الشرقية، وسرعان ما تعرف على ماري وتزوجها في مطلع عام 1808. وبعد فترة وجيزة تم تعيين ريج في شركة الهند الشرقية مقيماً في بغداد، حيث قضت ماري أول شهرين من زواجها على متن السفن، فقد شقا طريقهما من بومباي عبر الخليج العربي ونهر الفرات وصولاً إلى مقر إقامتهما الجديد.

في بغداد حرصت ماري ريج على تبني العادات الإسلامية، بما في ذلك ارتداء الحجاب، وهو أمر سمح لها بتكوين صداقات مهمة مع نساء بغداد. استغلتها جيداً في معرفة دقائق أوضاع وعادات نساء الشرق. وفي عام 1813 أصيب زوجها بوعكة صحية فرافقته براً إلى القسطنطينية، ومن هناك إلى بوخارست، وفيينا، وباريس، ورافقت والدها في رحلة استكشافية إلى بازل في عام 1815.

في عام 1820 قرر زوجها زيارة كردستان، فرافقته ودونت مذكراتها عن هذه الرحلة التي تسببت لها بمشاكل صحية اضطرتها للتوجه إلى بومباي، على أمل أن يلتحق بها زوجها، لكنه فارق الحياة في شيراز بسبب الكوليرا. 
وتميزت يوميات السيدة ريج بأنها غطت جوانب لا تتناولها نصوص الرحلات التي يكتبها الرجال عادة، وهي تتعلق بالنساء وعاداتهن، وبيوتهن، وكل ما يتصل بذلك، ومن هنا أهمية ما كتبته في يومياتها.


على التختروان

تخبرنا السيدة ريج أنها زارت قبل رحلتها إلى كردستان صديقتها الكردية صالحة خانم، زوجة سليمان باشا الكبير الباباني التي حذرتها من السفر إلى تلك البلاد الموحشة كما قالت، وكذلك نقلت غضب حنيفة خاتون زوجة الكيخيا، بسبب هذه السفرة إلى "بلاد وحشية جداً مثل كردستان تاركين راحة بغداد ومباهجها".

وتلفت نظرنا إلى أن العادات الشرقية كانت تعيب على الرجل الاعتناء بزوجته أكثر من عنايته بأغراض رحلته، والسماح لها بمرافقته في موكبه أو قافلته، ولذلك قبلت دعوة إفطار جيدة ريثما يقطع زوجها وقافلته مسافة عن المدينة لتتبعه بعد ذلك في موكب منفصل. وتقول: "رحلت عند الساعة العاشرة من يوم 17 نيسان/ إبريل 1820، وصديقاتي الكريمات وحاشياتهن يبتهلن متمنيات لنا طيب الأماني. ركبت التختروان، وفي وصف التختروان أقول إنه محفة مثبتة على عمودين متوازيين في المقدمة، وعمودين متوازيين آخرين في المؤخرة، تُحمل على ظهور البغال، ويعلوها غطاء من قماش أحمر مزوَّق من الزوايا الأربع بالأكر المذهبة. أما خادماتي فقد ركبن "الكجوات"، وهذه أشبه بأقفاص يحمل اثنان منها على البغل الواحد، وعلى جانبيه كليهما لتعادل الحمل. وبسبب سمنة خادمتي أم ميناس، ونحافة تقي المسكين، فقد كان من الأمور الصعبة المضحكة أن يوضع في "كجاوة" تقي كمية من الأحجار لتعادل ثقل الجانب الآخر، ومهما كان الأمر فالسفر في "الكجوات" لم يكن مريحاً، إذ كان على الراكب أن يجلس فيها القرفصاء".

ويبدو أن الموسم كان ممطراً، فقد أخبرتنا عن المعاناة التي تكبدوها أثناء السير في تلك الأوعار؛ حتى وصلوا إلى جبال حمرين بعد أسبوع، وتصف المنظر بقولها: "امتطيت جوادي تخفيفاً عن البغال التي كانت تحمل التختروان، ولتغيير وسيلة السفر، أما حاشيتي فقد تبعتني على مسافة قصيرة لكي أستطيع الركوب سافرة عن وجهي، وما كان أحد بحراستي إلا ميناس، وهكذا بدأت بالانحدار من التلال. والمنظر من أعالي قمة الجبل يبعث الرضى في نفس من يحب المناظر التي تقترب في جمالها من حد الإبداع، في نفس من قد حرم من مثل تلك المشاهدة مدة طويلة. فالمروج الخضراء والقرى البعيدة، ونهر ديالى الفياض المتعرج في السهل وحتى الجبال النائية كلها كانت بديعة سارة على الرغم من تواضع هذه المناظر التي أثرت في نفسي التأثير الكلي، وبعد انحداري من التلال، وأنا على صهوة جوادي، وبعد التمتع بقليل من الراحة، دخلت محملي ثانية قبل العاشرة".


بحيرة حمرين

تتوقف القافلة في قرية "قرة تبة" شمالي بحيرة حمرين، وتحدثنا عن ابتلاء أهالي هذه الناحية بأمراض العين كسكان بغداد، وكيف أن النسوة كن يطلبن من الخادمات السكر المكرر كونه كان دواءً لأمراض العين في جميع أنحاء الشرق، كما تقول. وتصف لنا جلسة نسائية تجمعت بعد رحيل الرجال: "كانت إحدى النساء المسكينات في حالة بؤس وشقاء شديدين مما أصاب عائلتها من القسوة المخيفة التي تعرضت لها. لقد تزوجت ابنتها قبل مدة من ابن عمها الذي طلقها أخيراً برضا الطرفين، والطلاق أمر شائع بين طبقة العامة من المسلمين، وتزوج بعد مدة من امرأة أخرى، فاقتدت المطلقة به، وتزوجت من رجل آخر، ومن المؤلم أن نذكر بأن زوجها السابق قتلها إثر زواجها من دون أن يكون ثمة سبب لذلك، فأرادت الأم الشقية الذهاب إلى بغداد لترتمي عند أقدام الباشا، شاكية، ولكنها لم تجرؤ، إذ إن الجاني هددها بتعقبها وقتلها إذا سارت خطوة واحدة في تحقيق هذا الغرض، فهي أرملة ولها ولد وحيد لا يزال صبياً، وهو يسعى لتسليتها ويعدها بأنه سينتقم لأخته حين يبلغ أشده".

وتشير السيدة ريج إلى أن قرية "قرة تبه" كانت قبل 25 عاماً تضم أكثر من 700 بيت أما الآن؛ فلا تضم أكثر من 55 بيتاً بسبب هجرة الأهالي إلى بغداد، تخلصاً من مضايقة الحكام، وتقول إن هذا الأمر ينطبق على جميع قرى هذه الباشوية وغيرها من باشويات الإمبراطورية التركية.

وتصف لنا اكتشاف زوجها موقعاً أثرياً في المنطقة، وكيف نصبوا الشمسية وبدأوا بالحفر والتنقيب عن الآثار، وتقول إن الأهلين أتوا لهم ببعض المسكوكات البارثية والساسانية والكوفية، مع ختم روماني، وآخر ساساني، وتقول إن الكتابة على الأخير كانت واضحة أشد الوضوح.


جماعة مهرجين

على مقربة من قرية "طوزخورماتو" مر ركب السيدة ريج بجماعة تدعى بالتركية "دلي دومان". وتقول في وصفها لهؤلاء الناس إنهم: "جماعة متشردة مهرجة تحترف الغناء، وكانت جماعة مضحكة جداً. وفي حال ظهورهم تعالى الفرح والطرب في نفوس أتباعنا. لقد كانت الجماعة مؤلفة من سبعة أو ثمانية أشخاص يمتطون الحمير الصغيرة الهزيلة، وعليهم الأسمال البالية، وهم نحاف هزيلون أيضاً. وكان أحدهم، ويظهر أنه المهرج الأول بينهم، واضعاً على رأسه قاووقاً قديماً، قطن بطانته بارز من خروقه. لقد كان يمتطي حماراً قزماً حتى ظهر كأنه يمشي على الأرض من فوقه، إذ إن قدميه لم تكونا تعلوان عن الأرض إلا عقدتين تقريباً. لكز كل من علي آغا، ورئيس الخدم جواديهما، وأغارا عليه ليلعبا معه الجريد، وطاردا حماره وهو عليه، وأوقعا قاووقه على الأرض، وصارا يداعبانه قفزاً ونطاً لتسلية الناظرين".

بعد معاناة في بعض محطات الطريق من المزعجات، يصل الركب إلى مضرب يوسف آغا في وداي ليلان قرب كركوك، وتقول إنه مملوك جورجي من عبيد باشا بغداد وحاكم هذه المنطقة المسماة قرة حسن، وهو صديق قديم للمستر ريج، حيث أظهر كرماً كبيراً حين أصر على استضافتهم جميعاً رغم وفرة عددهم. وقد نصب لهم خيمة فوق مرتفع صغير يعلو النهر.

تقول السيدة ريج: "كان كل ما حولنا منعشاً، الأمر الذي جعلني عاطفية على حد تعبير كلاوديوس، على الرغم من أنه كان يشاركني هذا الشعور وإن بذل جهده لإخفائه. ويظهر أن حرماننا منذ أمد بعيد من مشاهدة مثل هذه المناظر هو الذي جعلها تسحرنا وتؤثر نفوسنا أكثر من غيرها من الأماكن الشهيرة التي رأيناها في إنكلترا أو سويسرا أو إيطاليا. تمشينا في الوادي بين الأنجم، وجمعنا الأزهار والورود البرية، ثم فوجئنا بعليقة زهر بري، فنسينا كل شيء غير هذا الزهر. وكدنا ننسى منفانا الموحش إذ شعرنا بأننا أصبحنا في إنكلترا".

وتضيف: "عند المساء زارتني عقيلة يوسف آغا، وكانت متحجبة حجاباً متقناً، فدخلت خيمتي زاحفة من تحت سجوف الخيمة، لكيلا يشاهدها أحد. ولقد تملكها هذا الحرص على ما أعتقد إثر زواجها من التركي وهي عربية، وليس فعلها ذاك من عادات العرب".


الوصول إلى كردستان

يتابع ركب السيدة ريج وزوجها مسيره إلى أن يصلوا إلى كردستان كما تقول: "ولجنا الآن كردستان بعض الشيء، فأحاطت بنا جبالها، أما اللغة المعروفة فيها فهي الكردية فقط. لقد بدأنا تواً بملاحظة الفرق في ملامح الكرد من أبناء العشائر والقرويين. فالعينان عند أبناء العشائر متباعدتين والأنف أقنى، والجبين واسع، والأبدان ضخمة، والأعضاء متناسقة، وهم ذوو هيئات عسكرية. أما سيماء القرويين، فإنها منتظمة، وعيونهم ناعسة، وملامحهم ألطف من ملامح أبناء العشائر. ولكن القروي لم يكن طويل القامة، أو حراً في السلوك والاستقامة مثل أخيه العشائري. وهذا ليس من الأمور العسيرة على الفهم، فأبناء العشائر هم الأسياد، وأبناء القرى هم العبيد".

بحيرة حمرين - القسم الثقافي
بحيرة حمرين (Getty)

في هذا الوقت وصلهم نعي الملك البريطاني بالبريد، وكان قد مات في 29 كانون الثاني/ يناير، وهي فترة طويلة، تشير إلى صعوبة وصول البريد في تلك الأوقات.

وتحدثنا السيدة عن دخول قافلتهم الكبيرة إلى مدينة السليمانية، عاصمة كردستان في ذلك الوقت، في موكب كبير بعد أن انضم لهم رجال الباشا. وقالت في وصف ذلك الدخول: "كان للموكب عند دخوله المدينة استعراض كبير باهر لكثرة المشتركين فيه وتنوع أزيائهم. لقد تألف الموكب من الكرد والأوروبيين، وهم جميعاً في بزاتهم المبهجة، فالجنود الهنود بطبولهم ومزاميرهم، والخيالة الروس بأبواقهم، والضباط من الأتراك والمسيحيين، وحتى اليهود، والخدم التابعون لدار المقيمية. كل هؤلاء كونوا شارة للعظمة البدائية الخليطة. وكان الأوروبيون في مظهرهم الموحد المنسق يسترعي الأنظار بوجه بارز، والموكب بكامله لم يكن إلا رمزاً ناطقاً عن أوروبا وآسيا".


في قصر باشا السليمانية

ونزولاً عند إلحاح باشا السليمانية وافق السيد ريج على أن يقيموا في المدينة التي تصفها بأنها كانت كومة من البيوت والخرائب الكئيبة، وإنها دخلت بعد أن أحكم إغلاق التختروان عليها كي لا يراها أحد، رغم ارتدائها المئزر كما تقول. وقد تميزت إقامتها في السليمانية بالعزلة ولذلك لم تدون شيئاً في يومياتها.

وتقول إنه كان عليها أن تقضي يوم 6 حزيران/ يونيو بصحبة عائلة الباشا، فقد اصطحبت حاشيتها معها وسارت متحجبة حجاباً كاملاً إلى القصر.

وتصف لنا هذا الاستقبال: "استقبلتني القهرمانات، ومن ورائهن رهط من الجواري، وقد سارت قهرمانة عن يميني، وأخرى عن يساري، وقادتاني إلى السلم، فصعدناه، وعند باب غرفة واسعة استقبلتني زوجة الباشا نفسها، ومن ورائها شقيقات الباشا وعدة سيدات من العائلة. وأديرت القهوة والحلوى والشرابات والغلايين كما هو متبع. وقد ضاق صدري وانهدت قواي لمراسيم المجاملات المعتادة هذه. ولكني رأيتهن بعد انتهاء هذا الفصل من المجاملة الضرورية قد تخلين عن كل المراسيم، ورجعن إلى دماثة أخلاقهن وبشاشتهن، وعدم تكلفهن وهن يسعين سعياً حثيثاً لإراحتي".

وتسترسل السيدة ريج في الحديث عن زوجة الباشا التي وصفتها بأنها طويلة وجميلة، ولكن الحزن كان غالباً عليها بسبب وفاة أبنائها الصغار بمرض الجدري، حيث لم يبق لها سوى طفل واحد كانت تنتظر موته في أي وقت كما تقول السيدة ريج: "كانت إذا نظرت إليه ترقرقت عيناها بالدموع وقالت: إنه ليس لي، إنه لله، ولا مرد لأمره. وقد حدثتها عن فوائد التطعيم، ولكن اليأس كان لا يزال بادياً عليها في توقع عدم جني أية فائدة منه. لقد شجعتني وأحيت أملي في قبولها العمل بما قلت لها إذا جلبت لها اللقاح، ولكنها أنهت قولها بالكلمات التالية: لا بد من الانصياع إلى إرادة الله، فالله أعلم، وعلينا أن نثق به. ولقد عزمت على الكتابة فوراً ليرسلوا لنا التطعيم مع ساع سريع، وإنني سأفرح الفرح كله إذا استطعت تخليص هذا الطفل الصغير الجميل من ذلك المرض القاسي القاتل. إن آلاف البشر يذهبون ضحية هذا المرض في كردستان. ويحتمل أن الناس إذا علموا بأن الباشا لقح طفله الوحيد ضد الجدري، فإنهم سيرغبون بالسماح لنا بتلقيح أطفالهم أيضاً".

المساهمون