رغم الحضور الواسع لماكس فيبر في العديد من اللغات، إلّا أن أعماله الكاملة ما تزال بعيدةً عن أن تكون متاحةً خارج اللغة الألمانية، وذلك حتى في بلدٍ مثل فرنسا عرف فيه عالِم الاجتماع الألماني تلقّياً ونقاشاً واسعين، حتى خلال حياته.
ضمن هذا السياق يأتي صدور النسخة الفرنسية من كتابه "ما معنى علوم الثقافة؟"، بترجمة الباحث المختصّ بأعماله وولف فويرهاهن، عن منشورات "بيبليس" في باريس.
يشمل الكتاب 12 نصّاً شارك من خلالها فيبر بالنقاش الذي عرفه المشهد الفكريّ الألماني خلال نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بين المدافعين عن فهمٍ تاريخيّ للوقائع الاجتماعية، وبين ساعين إلى دراسة هذه الوقائع من خلال مناهج تستقي من العلوم الطبيعية وتسعى إلى تطبيقها على الحقل الثقافي.
ويتموضع عالم الاجتماع الألماني بين الداعين إلى إيجاد مناهج بحثية خاصّة بالثقافة، سمّاها "علوم الثقافة"، مُعارضاً بذلك اثنين من أبرز المدافعين عن المنهج التجريبي (أو الإمبريقي) الذي يدعو إلى الانطلاق من الوقائع الفردية لإطلاق أحكام وقوانين عامّة، على غرار علوم الطبيعة: والحديث هنا عن فيلم روشر (1817 ــ 1894) وكارل كنيس (1821 ــ 1898)، اللذين يخصّص لتفنيد أطروحاتهما المقال الأطول في هذا الكتاب.
ويرفض فيبر موقف هذين الباحثين لما فيه من تجريدٍ للأحداث الثقافية والأخلاقية والنفسية من بُعدها النسقيّ، حيث قال روشر وكنيس باستحالة وضع نظرية يمكنها شرح الدوافع الثقافية والاجتماعية وراء بعض الظواهر الاجتماعية والاقتصادية، مثل الرأسمالية، لأنّ الظاهرة تختلف بحسبهما بين سياق اجتماعي وتاريخي وآخر. أمّا فيبر، فيقترح هنا منهجاً قائماً على الربط بين جذور الظاهرة وحاضرها في الوقت الراهن وتبيان الوحدة النسقية التي تقوم عليها، وهو منهج سيثبته من خلال تطبيقه في كتابه الأساسي "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" (1904).
ويُحيل المؤلّف، في هذه السياق، إلى منهجه الداعي إلى إنشاء "نموذج مثالي"، أي إلى نظرية توضع بشكل قَبليّ، وفقاً لفهم سوسيولوجي للمجتمع وتاريخه وثقافته، ويجري من ثمّ النظر إلى الوقائع وفقاً لهذه النظرية.