استمع إلى الملخص
- خلال رحلة النزوح، تعيش رهام وأسرتها في خانيونس لخمسين يومًا تحفها المأساة والخسائر، مما يجبرهم على النزوح مجددًا بحثًا عن الأمان الذي يظل مفقودًا في ظل استمرار الحرب.
- عامر، مجنون الحارة، يبرز كشخصية تثير التأمل في معنى الجنون والعقلانية خلال الحرب، ويوفر لحظات من الراحة النفسية لرهام، لكن استشهاده يعكس الحقيقة المريرة للحرب التي لا تفرق بين عاقل ومجنون.
في الحروب الكبرى ثمة حروب صغيرة .. وفي الحروب الصغيرة هناك معارك أصغر، وفي نفس رهام حروبٌ ومعارك تُخيّم عليها الحرب الكبرى..
هي لحظة واحدة فقط وكلّ ما بعدها قد تغيّر، كساعةٍ رملية انقلبت حياتها، إنها الأنثى صعبة المراس العنيدة حتى في تقبّل الأفكار التي لا تُرضي رغباتها في الحياة، ورغم ما حدث فجر السبت إلّا أن صوت إنكارها لما سيتبع ذلك الحدث من ردود فعلٍ ومآسٍ كان أعلى..
صباح السبت، ولأن أصوات الصواريخ اختلطت بلحظات استفاقتها من النوم، اعتقدت رهام أن القيامة أزِفت، وشعرت أنها تُبعث من سريرها الذي لن تراه مجدّداً، سريرها الذي لن يتقبّل جسدها بعده أي دفء سرير آخر..
أمسكت رهام هاتفها، تفقدت الأخبار وأنكرت صوتها الداخلي حين همَس لها: إنها النهاية.. نهايتنا جميعاً.. نهايتكِ يا رهام. بكلّ هدوءٍ تناولت حقيبة الأوراق الثبوتية، وحقيبة يدها التي وضعت فيها غيارين صيفيين لا أكثر، فالأمر لن يطول.
الأمر لن يطول! .. هكذا اعتقدت رهام، أو هذا ما أرادته..
ولكنه طال..
في الحارة، كان يعيش رجل يتحدّث لنفسه طوال الوقت، يشرح لنفسه ما يحدث في مجلس الأمن
توجهت رهام إلى بيت والديها، فهي تخاف عليهما من النسمة فما البال بالقيامة تحل عليهم؟..
مرّ يومان والأمور تزداد سوءاً.. أحياء سكنية تُمسح ومناطق تُباد .. المدينة الصغيرة تستقبل عدداً من صواريخ لا تحتمله دولة، القتل مستمرّ، البتر متواصل والبكاء لا.. لم ينقطع.. في اليوم السادس أُلقيت الأوامر: "لا بدّ من النزوح نحو الجنوب، لم تعد مدينتنا آمنة"، لكن رهام وضّحت موقفها: ومنذ متى كانت مدينتنا آمنة؟
وجاءها الردّ: لكنّ هذه المرة غير!
كيف يُمكن لكلمة "غير" أن تتّسع لكلّ ما حدث وما يحدث؟
الصحيح أن أهل غزة عادةً ما يقارنون الحروب بعضها ببعض، فهذا يقول أن حرب 2008 صعبة، وذاك يردّ: لا يا عمّي شكلك نسيت حرب 2014، مسحوا فيها الشجاعية والشمال، وآخر يدحض كليهما ويقول حرب: 2021 هي الأشدّ رغم قِصر مدّتها.
وأمام تلك المقارنات، تصبح هذه الحرب مختلفة بوصفها "غير".
توجّهت رهام وأسرتها نحو الجنوب "الآمن" وعاشت وسط مدينة خانيونس خمسين يوماً.
ولكن الجنوب لم يكن آمناً، فالقصف متواصلٌ وعلى بُعد أمتار قليلة من البيت الذي تسكنه رهام، وكلّ ما يُحيطها هو قنبلة موقوتة بما فيه هي، فلا حياد لمدنيّ في هذه الحرب.
لم تعد في هذه الحرب أسماء الشهداء بعيدةً، بل إنهم معارف وأصدقاء وأقارب
في النهار، تغلب غريزة البقاء على مشاعر الخوف فيبدأ الشبّان النازحون مع رهام في البيت ذاته بالذهاب للاستطلاع، والبحث عن قوت يومهم وماءٍ صالح للشرب وما يمكن أن يحصلوا عليه من "مونة استراتيجية".
أما في الليل فتبدأ معارك النفس والمراهنات، هل هذه اللحظة التي سينفجر فيها البيت، هل هي اللحظة التالية.. هل سنرى صباح الغد، هل يمكن النجاة من قصف البيت، ما حجم الخسائر؟ قدمٌ، يدٌ.. قدمان ويد .. تشوّه أبدي؟
تلك التساؤلات أكثر ما أرّق رهام، فرهام لم تهتمّ لفكرة الموت قط، فهي تؤمن أنّ الموت هو الحقيقة الأكثر ثباتاً في هذا العالم، لكن مشكلة رهام كانت مع شكل هذا الموت، لم تُرِد رهام أن تموت أشلاءً مبعثرة ومتناثرة ستُجمع في كيس الموتى وربما يختلط الأمر على جامع الأشلاء ويضع في الكيس ذاته أشلاء آخرين..
هذه الفكرة بحدّ ذاتها كانت تجعل رهام تضحك بيأس، فما سيحدث بعد موتها في جسدها لن يكون لها فيه خيار، لذا فكلّ ما تفكر فيه هو الهبل بحدّ ذاته.
لرهام نصيب في الحراسة الليلية في المنزل، فبعد أن ينام الجميع تُفعّل رهام حواسها، فأيّ صوتٍ يصدر في المنطقة بعد الثامنة مساءً هو مصدر ريبةٍ وقلق، إلّا صوت مجنون الحارة..
في الحارة، كان يعيش رجل يتحدّث لنفسه طوال الوقت، يشرح لنفسه ما يحدث في مجلس الأمن، وينفي أيضاً لنفسه قُدسية القوانين الدولية. كان صوت مجنون الحارة يؤنس رهام، خاصة إذا اشتدّ القصف، فصوت حديثه العلنيّ مع نفسه يغلب صفير الصواريخ. كانت رهام تطمئن نفسها بذلك المجنون وتهمس في عمق ذاتها: هو مجنون إذن أنا موجودة..
في إحدى الليالي، سمعته رهام يناقش نفسه حول مدى إمكانية اجتياح مدينة خانيونس، لكن نفسه عاندته واستبعدت احتمال اجتياح المدينة، وفي هذه اللحظات يكمن جمال الجنون، فحين لا تقتنع نفس مجنون الحي بأفكاره يبدأ بشتم نفسه ويلعنها ويطردها ويصرخ فيها قائلاً: انقلعي من هنا، أنا حمار اللي عاملك بتفهمي وبحكي معك..
هذه واحدةٌ من اللحظات النادرة التي كانت تجعل رهام تبتسم..
من عاش في الظروف التي عاشتها رهام، يمكنه أن يجزم أن الخمسين يوماً مرّت كأنها يوم واحد لشدّة ما تشابهت الأيام، فالجميع إذا صحا، فإنه يصحو على صوت القصف والشظايا التي تتبعثر على سطح المنزل، ومن كان محظوظاً أكثر فإنه لا يصحو.. وبعد أن يراقب النازحون في البيت بعضهم بعضاً ليتأكدوا أنهم بالفعل اجتازوا الليل دون موت، تبدأ الحركة في المنزل، الشبان نحو الطعام والشراب، الفتيات للتنظيف، النساء للطبخ، والرجال لترصد أخبار الهدنة..
وأتت الهدنة..
لم تكن هدنة حرب كبرى فقط بالنسبة إلى فرح النازحة مع رهام في البيت ذاته، فثمة حروب صغيرة تعشش في جذوع الحروب الكبرى. إنها الهدنة التي تُهادن فرح فيها قلبها الذي شحب مثل وجهها، ورغم كلّ ما يحدث إلا أن العزيز.. عزيزها حظيَ بلحظاتٍ تساءلت فيها فرح عن حاله، هل نزح نحو الجنوب؟ أم رفض الانصياع للأوامر وعاند كعادته ومكث في بيته؟
لقد بدأت الحرب وهما على خلافٍ، فلم يُبادر هو بالسؤال ولم تُبادر هي، هكذا برّرت فرح سبب انقطاع تواصلها مع عزيز لرهام، وأكّدت وجهة نظرها بقولها: هذا الوقت ليس وقتاً للحب، وإن احتاجت الأنثى رغم كلّ ما يحدث إلى كلمةٍ واحدة تُحيي فيها الأمل.. الأمان، الإحساس بشعور جميل ولو لثوانٍ.
في الهدنة، استحوذ عزيز على أفكار فرح، حتى أنها لم تأبه بتحليلات استمرار الهدنة، لا ولم تُعر انتباها كما جميع النازحين معها إلى الكميات المستهلكة من المونة المخزنة في حال اجتاحوا المدينة وجوّعوا من فيها كما يحدث في الشمال.
في الهدنة، كانت فرح تختلي بأفكارها وذكرياتها مع عزيز على فرشتها التي تواجه باب الحمام، فقد كانت غرف البيت تطلّ على الشارع، فارتأى الجميع أن إخلاء الغرف والتموضع وسط البيت هو الأفضل، خاصة إذا تم قصف البيت وبدأ البحث عنهم كجثث أو مفقودين، وكان نصيب فِراش فرح أن يكون أمام الحمام، بحيث يُسلّم عليها كلّ نازح لبّى نداء الطبيعة.
في اليوم الأخير من الهدنة، استلقت فرح على فراشها وراحت تقضم أظافرها وتتحسر على الأيام التي تمنعت فيها وثقلت على عزيز، ولكنّ إحدى النازحات قطعت عليها خلوتها ورجتها أن تساعدها في تجميل حاجبيها اللذين يكاد يقف عليهما الصقر على حدّ وصفها، سندت فرح نفسها وتناولت ملقط الحواجب وساعدت النازحة ما استطاعت.. وبعدما فرغت فرح من مهمتها التجميلية عادت راكضة إلى كل فكرة تؤدي إلى عزيز، عند تلك اللحظة وصلتها رسالةً: أنا بخير.
وكانت تلك الرسالة كافية لتقوم فرح قفزاً وتشارك بقية الفتيات النازحات معها في الوقوف على الميزان لمعرفة كم كيلوغراماً قد خسرنَ في الحرب حتى اللحظة، رغم أنّ لقب الهزيلة يُتوِّج رهام في كلّ مرة لخفة وزنها.
في اليوم الأخير من الهدنة جاء قرار النزوح الجديد، فالأخبار تؤكد احتمال اجتياح المدينة.. حزَم جميع النازحين في البيت حقائبهم وأكياسهم التي تحتوي على ما حظي عليه بعضهم بشراء الملابس الشتوية، فقد حلّ الشتاء ولم يأتوا إلا بغيارات صيفية، لذلك زادت الأحمال وقت النزوح، رُبطت الفرشات والبطانيات على ظهر السيارة، جرة الغاز التي اشتروها بأضعاف مضاعفة عن سعرها أصبحت في الحقيبة الخلفية للسيارة، إلى جوارها حقائب مختصرة وأكياس اختلطت فيها مونة المعلبات.
رهام لم ترَ الشمس طوال الخمسين يوماً. لم تخرج من البيت أبداً، وكان هذا النزوح بمثابة فرصة لرؤية الشارع، عند باب الدار رأت رهام مجنون الحارة، بجلابيته الصفراء لشدة اتساخها فقد كانت بيضاء ذات يوم، رأته يُسند ظهره إلى جدار متهالك ويستلقي على الأرض وقد شمّر عن ساقيه، في يده عصاة يهُش بها الذباب، صفنت رهام فيه، فهذه المرة الأولى التي تراه فيها بهذا القرب، حاولت أن تحفظ ملامح وجهه التي بالكاد ظهرت من بين لحيته الشعثاء الكبيرة وحاجبيه الكثيفين وشعره الذي يغطي نصف جبينه، ولكنها دقّقت وحاولت أن تزرعه في ذاكرتها فقد آنس وحدتها في الليالي السابقة.. لم يخطر ببال رهام أن تسأل عن اسمه من قبل، ولكنها علمت أنّ اسمه عامر حين اقترب منه أحد أطفال الحارة ورماه بحصوة ليستفزّ جنونه وعايره باسمه: عامر المجنون.. عامر الأهبل..
لم يقُم عامر ليُلاحق الطفل، لا ولم يسُبه كعادة المجانين بل قال له: روِّح يا حبيبي بلاش تنقصف..
سكَن الولد، وذُهلتْ رهام وتساءلت: من قال إنه مجنون؟ من حكم عليه بذلك؟ إنه أعقل منّا جميعاً..
في طريق نزوح رهام إلى رفح، ظلَّ عامر العاقل في بالها، وتمنت أن يحفظه من يحفظ الناس برعايته وحمايته.
وصلت رهام لبيت جدّها في رفح، الحرب مستمرة، وأسماء الشهداء تتوالى على مسامع الجميع، فلم تعد في هذه الحرب أسماء الشهداء بعيدة بل إنهم معارف وأصدقاء وأقارب، والخوف كل الخوف من أن يصبح من يسمع الآن أسماء الشهداء في عِدادهم بعد حين.
بعد اجتياح خانيونس جاء نبأ استشهاد عامر، الصحيح أن عشرات الآلاف قد استشهدوا، ولكل شهيد وشهيدة حكاية وقصة وألف غصة. وقصة استشهاد عامر كما وصلت إلى رهام هي أن عامر كان كعادته يسير في الحارة في وسط الشارع، كان يصدر صوت شحطات بشبشبه البلاستيكيّ المهترئ وكانت طائرات الكواد كابتر تحاصر السماء وترصد كل ما يتحرك، وعلى لسان أحد الشهود فإن طائرة كواد كابتر اقتربت منه ونادته وسألته: بتعرف وين …..؟؟
فقال: أه، فردّت الطائرة: وين؟ فصرخ عامر مُتحدياً: هيّو قدااامك.. أناا …… !!
رشّت الطائرة جسد عامر برصاصاتها وأردته شهيداً...
* كاتبة من غزّة