استمع إلى الملخص
- يوضح أبو سل تأثير الأحداث الأخيرة على أدواته الفنية ومخيلته، مشيرًا إلى شعوره بالعجز أمام الإبادة الجماعية، مما دفعه للتخلي عن توثيق أفكاره الفنية.
- يستعرض أبو سل رؤيته الفنية لحل أزمة التنقل في غزة عبر مسرحية "مترو غزة"، معبرًا عن حلم فني يعكس تطلعات أهل غزة في مواجهة الاحتلال.
عبر حسابه على فيسبوك، أعاد الفنان الغزّي محمد أبو سل، مؤخّراً، نشر صورة "منزل العائلة والمرسم والحديقة وكلّ المحتويات والذكريات" التي حوّلها الاحتلال إلى رُكام، وعنوَن الصورة المنشورة بـ"الفقد الكبير"، ثمّ وثّق في فيديو آخر تفاصيل ما حدث في البريج، وسط قطاع غزّة، في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، وكتَب: "حيُّنا الذي كان جميلاً.. أضحى مدينة أشباح".
حوارٌ بين الفنان ومكانه في زمن الإبادة يفرض تساؤلات كثيرة يجتهد في الإجابة عنها، تارة عبر توثيق معايشاته بالحبر والرصاص على الورق، حيث الخيمة والأشواك على أجساد الأطفال وأكفان الجثامين المتراصة ومشاهد النزوح، وتارة أُخرى باستعادة أعمال قديمة تمثّل مراحل مختلفة من تجربته التي تعود إلى منتصف التسعينيات.
الرسم والكتابة للتخفيف من شدّة تأثير المَشاهد القاسية
يتحدّث أبو سل المولود عام 1976، والحائز على درجة البكالوريوس في الإدارة والمحاسبة ودبلوم التصميم، لـ"العربي الجديد"، عن أدوار الفنّ في مقاومة العدوّ، وعن نصوصه، وكذلك عن مسرحية "مترو غزّة" للمخرج الفرنسي هيرفي لواشمول التي لا تزال تُعرض، والمستوحاة من عمل تركيبي متعدّد الوسائط نفذّه أبو سل منذ سنوات.
عن تأثير الإبادة على أدوات الفنان ومخيّلته ورؤيته، يقول: "اعتدتُ الاستلهام من القضايا المعاصرة التي أعايشها، خاصّة الأزمات التي عكست مفاهيم ترويض الإنسان وإجباره على منهجية تدبُّر الأمر في شتّى شؤون حياته. التصعيدات العسكرية المعتادة كانت مُلهماً أساسياً لي. لكن هذه المرّة، لم يكن تصعيداً كما تعوّدنا، بل إبادة جماعية بكل ما تحمله من وحشية وتفاصيل تفوق الإدراك، ومنذ لحظاتها الأُولى كانت واضحة وطاولت كلّ شيء بلا استثناء، كموج تسونامي نراه يقترب، أدركت حقّاً أنّها ستنال من أجسادنا وأحلامنا وكلّ إرث صنعناه لمستقبلنا".
ويضيف: "اعتدتُ تسجيل كلّ ما يخطر ببالي من أفكار وخطط لإنتاج مشروع فنّي ما. حاولتُ فعل ذلك هذه المرّة، ولكنني فشلتُ، لأنه لا يمكن قراءة المشاهد المهولة فنّياً إلّا في حالات الاستقرار الذهني والجسدي. شطبتُ ما قمت بتسجيله من يوميات وأفكار، في قرار لإعادة قراءة المشاهد من حولي. تحوّلت من فنان إلى نازح مكتوف الحواس كباقي الناس، يحترق يومي كغيري في تدبّر أمور الحياة من ماء وطعام وملبس ودواء، وتدور الأيام في تكرار رتيب؛ تكرار مخيف يحذوه التآكل والعجز. بعد سماع خبر قصف منزلي ومرسمي واحتراق كلّ أعمالي وأرشيفاتي وتدويناتي، وقع عليّ ما هو أشدّ من الصدمة، كيف لكلّ هذا أن يندثر أو يختفي؟ قدر كبير من الاستباحة خلال الإبادة المستمرّة على غزّة".
حول تلك الخيمة "متعدّدة الاستخدامات" والأكفان في "مستشفى شهداء الأقصى" بدير البلح، وحشود النازحين في رسوماته الأخيرة، يُبيّن أبو سل أنّه "من شدّة تأثير المشاهد القاسية المتكرّرة، والتي أصبحت نمط حياة، كان لزاماً التخفيف من هذا الكمّ المتراكم من المشاهد وآثارها، فلجأتُ إلى الفضفضة والبوح على الورق، وقمت بتسجيل يوميات النزوح من كتابات ورسومات بالحبر على الورق، لعلّها تخفّف من ألم كبْتِ تلك المشاعر المُخبَّأة، تلك الرسومات صاحبَتها تفسيراتٌ لسياقات جديدة عمّا تعوّدته أبصارنا ومسامعنا".
دمّر العدوان أعمالي التي أنجزتُها على مدار ثلاثة عقود
ومن تلك الكتابات ما سجّله مع رسم الخيمة: "هذا ليس ديكوراً أو عمارة جميلة! بل هو الألم الممزوج بالراحة الزائفة. تدبّر الأمر من أجل البقاء والأرض. لمقاومة الإبادة في قطاع غزّة".
وعن "مستشفى شهداء الأقصى"، كتب: "هذا الاصطفاف غير الرتيب! هو آخر لحظة تبصرها العين لمحو العائلات من السجلّ المدني، أُمٌّ يعتلي جثمانَها طفلُها، وأخوان، وجدٌّ مع أبنائه وكلّ أحفاده ورضيع. من ذاكرة مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح". وإلى جوار رسومات لأكفان يُدوّن: "المشهد الأخير لأبطال فيلم شاهده كلّ العالم، أدّوا أدوارهم بكلّ كفاءة حسب رغبات المخرجين وكتبة السيناريو، يُغادر المشهد كلّ يوم مئة بطل، جلّهم من الأطفال البارعين، ويحلّ محلّهم مئة آخرون بل ويزيد، وتستمرّ المشاهد حتى تشبع رغبات الشياطين".
من جهة أُخرى، ينظر أبو سل إلى عرض "مترو غزّة" للمخرج الفرنسي هيرفي لواشمول بأنّه حالة تواصل مع القطاع، لـ"يكون المسرح هو الجسر بين مكانين فصلَهما الاحتلال والسياسة. يبدأ العرض بحُلم فتاة كانت نائمة على مقاعد تشبه مقاعد القطار أخذها المترو من جنين إلى غزّة لتبدأ من هناك أحداث المسرحية، والعرض يقدّمه 'مسرح الحرية' في مخيّم جنين عن قصص وأحاديث افتراضية لرُكّاب رحلة على متن مترو خيالي في منطقة وهمية تحت الأرض بقطاع غزّة، والتي ستكون المادة الأساسية للعمل".
وقد استُوحيتْ قصة المسرحية من عمل تركيبي متعدّد الوسائط للفنّان، وهو يعبّر عن حلّ بصري مؤقّت وحالم لتغيير حالة أزمة التنقّل داخل قطاع غزّة وخارجه من خلال افتراض وسيلة مواصلات متطوّرة (قطار المترو) بشكل بصري، عن طريق التدخّل بجغرافية وتاريخ القطاع من خلال عمل فنّي يربط زمن قطار الحجاز واستكماله بصورة فوتوغرافية وتفاعل للمشاهدين مع مجسّمات وتصاميم متعدّدة.
يتابع أبو سل: "على أساس أنّ أهل غزّة أصبح لديهم خبرة ولو بسيطة في حفر الأنفاق، واستكمالاً لحالات الحلم التي يعيشونها... فهنا حلم آخر ولكن بمقترح فنّي. تكمن أهمية عرض المشروع في إعادة ربط أوصال المدن الفلسطينية، والاعتراض على تفكيك خريطة فلسطين التي يعمد الاحتلال إلى الاستمرار في تجزئتها من خلال احتلال أكثر للأراضي وتهجير أهلها وإقامة المستوطنات عليها".
تُلقي اللحظة الراهنة ثقلها على مجمل الحديث مع محمد أبو سل، الذي يُشير إلى أنّ "هذه الإبادة تخلق العديد من الأسئلة، وربما تجعلنا في حيرة وجدل، لأنّنا نجزم بألّا أحد سيجيب عن تلك الأسئلة، بل نحن من يقع على عاتقه أن يختلق الإجابات، لأنّنا من مُورست بحقّه الإبادة الجماعية. كنتُ كثير التأمّل والملاحظة على كلّ ما استجدّ في حياتنا حيث تُنفّذ الإبادة بحذافيرها وبكلّ ما تتطلبه كي تتحقّق، فكانت تفاصيلها على مرأى أعين العالم، وباتت وكأنّها أمرٌ أو قدرٌ لا مفرّ منه... حتى وجدتُ نفسي أقرأ أدب الإبادة".
باتت الكتابة أيضاً حاضرة بعدما تطابقت اللوحة مع الواقع، حيث يبثّ الفنان تأمّلاته ومشاعره في نصوص عدّة، منها نصّ يقول فيه: "أن تُغتال في شغفك، وفي حُبّك للطبيعة، وفي صنعك للجمال! لا أستطيع الاستفاقة من هذه الصدمة، ولا أستطيع تحديد حجم قذارة هذا الاحتلال. أستذكر حديقتي، وسطح المنزل المقصوف كلّياً خلال إبادة قطاع غزّة، فكيف لهذا الشغف أن يُنتزع منّي. أن تُغتال في تاريخك، عندما تفقد أرشيف إنجازاتك ومذكّراتك، حتى الأعمال التي كانت على موعد مع التوثيق ستبقى فقط في ذاكراتنا الشفوية. أستذكر كلّ لحظة أعمالي التي أنجزتها على مدار ثلاثة عقود، حين وجدت آثاراً منها وقد احترقت وتلفت كلّياً".