فرضت التغيّرات المستمرّة في وظيفة المتاحف، التي تأسّست لحفظ الآثار وعرضها، ثم أصبحت مؤسّساتٍ اجتماعية وتعليمية تعكس القيم الوطنية والتاريخية وأنماط إنتاج المجتمع، تحوّلاتٍ أيضاً في عمارتها، سواءً على مستوى الشكل أو الوظيفة، من أجل تحقّق الوظائف الجديدة المناطة بها. وبات إنشاء المتاحف معتمداً على كيفية التعامل مع التراث الثقافي والظروف المناخية والتخطيط الحضري للمدن وغيرها من العوامل التي يدرسها الباحث المصري محمد جمال راشد في كتابه "تصميم وعمارة المتاحف"، الصادر حديثاً عن "العربي للنشر والتوزيع" في القاهرة، في سياق فلسفي متحفي وليس من منظور هندسي معماري.
لا يفصل الكتاب مسألة اختيار الموقع المناسب لإقامة المُتحف عن البعد التنموي الذي يلعب دوراً مباشراً وحاسماً في تحديد موقعه من حيث التوزيع السكّاني، وخطوط المواصلات والخدمات اللوجستية، ومجالات التوسّع لاستثمارات جديدة، والجذب السياحي، وتوجيه التنمية السكّانية لمناطق جديدة، وإعادة إحياء لمناطق تراثية أُهملت في أوقات سابقة.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يشير راشد إلى أن "المتاحف حازت مكانتها التاريخية لارتباطها بأمرين: دورها المسؤول والمتفرّد في صون التراث المادّي واللامادّي، واستدامته للأجيال المتعاقبة، وكذلك ما شهده هذا الدور من تطوّر ملحوظ منذ النصف الثاني من القرن العشرين من تحوُّل المُتحف لمؤسّسة تعمل بشكل فعّال على خدمة وتنمية المجتمع".
تحوّل المُتحف إلى مؤسّسة تعمل على خدمة المجتمع وتنميته
ويرى أن "الصورة التاريخية للتصاميم الكلاسيكية المستوحاة من العمارة اليونانية الرومانية ظلّت موسومة بالمتاحف في كل أرجاء العالم وليس في أوروبا فقط، قرناً من الزمن على الأقل. ومع التطوّر السريع الذي شهدته المتاحف، ودورها في المجتمع، والتوسّع في أدوارها، تطورت عمارتها تدريجياً لتظهر ملامح الفلسفة المعمارية الحديثة بمدارسها العديدة ما بين التصميمات الإبداعية والتجريدية والتصميمات المستوحاة من البيئة والثقافة".
ويوضح أستاذ علم المتاحف أنه "يدخل في عملية التصميم العديدُ من العوامل البصرية والثقافية والبيئية والأيديولوجية والاقتصادية، خاصّةً في حالة التعامل مع متاحف كبرى تمثّل بُعداً من أبعاد الهوية الخاصة بالدولة"، حيث "كانت تُختار مواقع في وسط المدن لبناء المتاحف تاريخياً، وتتمّ إعادة تصميم الموقع بشكل متكامل كوحدة واحدة متكاملة بين مبنى المتحف والمنشآت الرسمية الأخرى للدولة كالقصور، والبرلمان، ومجلس الحكم أو المجلس المحلي للمدينة".
التخطيط للمتحف في موقع جديد خارج المدينة أو في ضواحيها، ربما يكون نواة لتوظيف العمارة الحديثة واستلهام روح العصر، بحسب راشد، الذي يبيّن ضرورة النظر في التنمية الشاملة للمدن والقرى، ليس عبر إقامة المتاحف فيها فقط، أو صون تراثها، إنما من خلال استدامة عناصر التراث وإشراك المجتمع المحلّي، ودمج أرباب الحرف والصناعات التقليدية في هذه الدائرة.
ويتطرّق صاحب كتاب "فلسفة ونشأة المتاحف" إلى سؤال مهم يُطرح دائماً على المعماريين أولاً، ثم على مصمّمي العروض المتحفية، حول كيفية تنظيم فضاءات المتحف بما يساهم في إظهار والتعبير عن كلّ الأفكار والرسائل التي يتبنّاها المُتحف وصنّاع العروض المتحفية، بمعنى أن التصميم المعماري للفراغات وتنظيمها الداخلي، سواء تلك الخاصة بالعروض المتحفية أو بخدمات الزوار خلال زيارتهم، يلعب دوراً في تشكيل الخبرات والتجارب التي يخرج بها الزوار وتساهم بشدة في تعظيم الاستفادة من التجربة، وتقليل احتمالات إضاعة الوقت والجهد بلا مبرّر، كما تقلّل من فرص تفويت الزائر لمعارض مهمّة قد يضلّ الطريق إليها بسبب تعقد مسارات الزيارة.
التصميم المعماري لفراغات المتحف يساهم في تشكيل خبرات الزوّار
ويفصّل راشد أبرز الوحدات في حالة تصميم متحف جديد، ومنها صالات العرض الدائم، وصالات العرض المؤقّت، وفراغات متعدّدة الأغراض (استضافة العروض والأنشطة والفعاليات)، والمعامل، وحجرات الدراسة، واستديو التصوير، وحجرات الورش والأنشطة التعليمية، ومخازن المجموعات المتحفية، وحجرات الأرشيف والمكتبة، وحجرات قواعد البيانات والرقمنة، والمكاتب الإدارية، ومسرح المتحف والسينما ثلاثية الأبعاد، وغيرها من فراغات تُستحدث في المتاحف لتقديم خدمات وأدوار جديدة.
يشتمل الكتاب على تسعة فصول، هي: النشأة والتطور التاريخي للمتاحف، واختيار وتخطيط موقع المتحف، والأسس التصميمية لعمارة المتاحف، ومدارس وطُرُز عمارة المتاحف، والمتحف كأثر متحوّل، والطرز المعمارية الحديثة للمتاحف، والتصاميم الإبداعية في عمارة المتاحف، وتصميم وتنظيم الفضاء الداخلي بالمتحف، وفراغات العرض المتحفي.