يقدّم محمد عبد العاطي في كتابه "سياسة الدولة العثمانية في مصر (1801 - 1805) في ضوء 'دفتر مُهمة مصر' الرقم 11"، الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، نظرة جديدة إلى التاريخ المصري في مطلع القرن التاسع عشر، وفقًا لمعطيات مستمدة من وثائق لم تُنشر أو تُدرس من قبل.
ويشير الباحث المصري في تقديم الكتاب إلى أهمية الأرشيف العثماني بالنسبة إلى الوثائق العالمية الأخرى ذات الصلة، ومن أهم هذه الوثائق "دفاتر المُهمة"، ومن أهم "دفاتر المهمة" بالنسبة إلى هؤلاء الباحثين "دفاتر مُهمة مصر"، التي يشكّل أحدُها، وهو "دفتر مُهمة مصر" الرقم 11، مادةَ هذا الكتاب.
تركّز الأحكام الواردة في دفاتر مُهمة مصر على موضوعات توطيد الحكم العثماني في أنحاء البلاد، والتصدي للقوى المناوئة، المحلية أو الدولية، والتدابير اللازمة لاستتباب الأمن في مصر والحجاز، وتأمين خزينة الإرسالية في موعدها كل عام بلا نقصان، ورعاية شؤون الحرمين.
وقد تناول "دفتر مُهمة مصر الرقم 11" موضوعات كثيرة لم تخرج عن هذا الإطار؛ منها أحداث مصر في الفترة التي أعقبت خروج الفرنسيين منها عام 1801، والصراع بين القوى المختلفة لملء الفراغ، ومحاولة الدولة العثمانية استعادة نفوذها القديم، وهو ما تعلقت به غالبية أحكام الدفتر، عبر سياستها تجاه الأمراء المماليك الذين سعوا مدعومين من الإنكليز لاستعادة نفوذهم بعد خروج الفرنسيين، ودعم العثمانيين ولاة مصر بالقوى العسكرية للقضاء على المماليك وطردهم، ومنع دخول الجنود غير النظاميين إلى مصر وتخصيص أماكن ملائمة لإقامتهم، وإخراج الموجودين منهم بعد دفع مستحقاتهم المالية.
يناقش الدفتر دور مصر الاقتصادي تجاه إسطنبول، ودورها في رعاية الحرمين إداريًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا
ومن موضوعات دفتر "مُهمة مصر الرقم 11"، أيضًا، دور مصر الاقتصادي تجاه إسطنبول، والعلاقات الاقتصادية بينهما، ودورها في رعاية الحرمين إداريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، والتصدّي للحركة الوهابية.
ويكتسب الدفتر أهميته في أنه صادر عن الديوان الهمايوني، المركز الأعلى في اتخاذ القرارات داخل السلطنة بعد السلطان، لمناقشة أهم قضايا الدولة التي كانت تُقيّد في دفاتر وفقًا لموضوعها، وقد وُجد منها في أرشيف رئاسة الوزراء في إسطنبول - وفقًا للتصنيف الصادر في عام 2017 - 424 دفترًا، فيها نصوص متناثرة عن تاريخ مصر في الفترة 1553-1707. أمّا دفاتر مُهمة مصر الخمسة عشر، فهي تتناول حصرًا تاريخ مصر العثمانية بعد هذا التاريخ (1707-1915).
يتضمن الكتاب قسمين رئيسين: قسم الدراسة، وفيه ثلاثة فصول؛ وقسم الترجمة. تناول الفصل الأول من الكتاب صراعات مراكز القوى في مصر، متمثلة بالمماليك وعساكر الأرناؤوط والباشي بوزوق والولاة العثمانيين. وقد تمكّن محمد على باشا، في النهاية، من حسم الوضع لمصلحته وإجبار الباب العالي على قبوله واليًا على مصر. وكان كل فريق من المتصارعين يسعى لبسط نفوذه؛ فالمماليك أرادوا استعادة سلطتهم التي كانت لهم قبل الحملة الفرنسية، واتصلوا بالإنكليز والفرنسيين لتحقيق ذلك، والإنكليز أرادوا المماطلة أطول وقت ممكن في الخروج من مصر، وحتى لا تسقط في أيدي الفرنسيين من ناحية أخرى. أما العثمانيون الذين بذلوا أموالًا طائلة في الحملات البرية والبحرية لتخليص مصر من الفرنسيين، فكانوا يعتقدون بأحقيتهم في حكمها.
أما الفصل الثاني، فتناول سياسة الدولة العثمانية في مصر بعد خروج الفرنسيين، وقبل تولّي محمد علي، فضلًا عن جهودها في تثبيت حكمه بمساندته عسكريًّا ضد المماليك؛ فقد كانت تعتبر مصرَ، منذ دخولها تحت الحكم العثماني في عام 1517، ذات دور استراتيجيّ مهمّ في مناطق السلطنة الشرقية للدولة البعيدة عن إسطنبول، كما عُدَّت مركزًا مهمًّا في تعبئة الجيوش العثمانية، ومستودعًا لعتاد هذه الجيوش وبارودها في المنطقة؛ ولذلك قلب احتلال حليفتها فرنسا ولايةَ مصر معاييرَ تعاملها مع أوروبا، واضطرها إلى الاتفاق مع عدوتيها روسيا وإنكلترا لتخليص مصر من الفرنسيين.
ويضيء الفصل الثالث إنهاء حالة الفراغ السياسي في مصر بعد أن تمكنت الدولة العثمانية من إخراج المماليك منها بواسطة محمد علي باشا وتسليمه الحكم في عام 1805. ثمّ بدأ، إثر ذلك، تفكك الدولة العثمانية، والطمع الدولي والمحلّي لإعادة احتلال ولاية مصر الاستراتيجية المهمة، وذلك بإغراء الأمراء المماليك للقيام بذلك، ليتصاعد حينئذ أُوار صراع شديد بين هؤلاء وبين قوات الأرناؤوط والباشي بوزوق وأمرائهم.
في القسم الثاني (قسم الترجمة)، أفاد المؤلف من مناهج الترجمة الحديثة وأساليبها وطبّقها على وثائق "دفتر مُهمة مصر الرقم 11"، ناقلًا إياها من اللغة التركية العثمانية إلى اللغة العربية، بعد أن قسّم الوثيقة الواحدة إلى جُمل صغيرة وفقرات لييسّر على نفسه أمر الترجمة التي اتّبع فيها أسلوب التوقف عند بعض الروابط التركية لبدء الترجمة منها، ولجأ أيضًا إلى ترجمة متن الوثيقة كاملًا من دون النظر إلى المواضع المكررة في الحكم، بل إنه ذكرها كما جاءت في النص الأصلي، متوخّيًا الأمانة العملية في ترجمة الوثائق.