محمود شقير.. كتابة الإنسان الفلسطينيّ داخل القفص المغلق-المفتوح

21 مايو 2021
(محمود شقير)
+ الخط -

"مشية نعومي كامبل"، "صورة شاكيرا" عناوين تأويليّة إحاليّة لافتة ومغوية سيقف عندها القارئ حين يتصفّح نتاج محمود شقير، ومثلها عناوين أُخرى تظهر فيها أسماء شخصيّات "شهيرة" عالميًّا مثل: كونداليزا رايس، رونالدو وحتّى جائزة نوبل؛ وسيتساءل القارئ عن علاقتها بالفلسطينيّ الذي من "المفترض" أن تدور حوله هذه القصص؛ سيكتشف القارئ أنّ هذا واحد من الأساليب التي يكسر من خلالها شقير نمط الكتابة؛ ليقدّم الواقع بأسلوب طازج، مثير، ساخر وناقد، مطعِّمًا تلك القصص بلهجة فلسطينيّة محكيّة تجعل القارئ يدرك المفارقة الحارقة التي يعيشها الإنسان الفلسطينيّ خصوصًا بعد أوسلو.

هذا الاشتغال على النصّ وجماليّاته وأساليب تقديمه ليس ابتعادًا عن الالتزام الفلسطينيّ، بل هو حفر وتنقيب عن القصّة الإنسانيّة للفلسطينيّ وفردانيّته قبل أن يكون قضيّة، وتسليط الضوء على نقد المجتمع الفلسطينيّ المحتل بموازاة نقد الاحتلال وممارساته، ونقد العولمة وثقافة الاستهلاك بموازاة وضع العالم الكبير أمام أخلاقيّاته ومسؤوليّاته عن الاحتلال.

حين تبدأ بقراءة شقير سيراودك، إذن، سؤال حول تلك الفضاءات أعلاه، والتي يفتحها كاتب فلسطينيّ يعيش اليوم في حّي ريفيّ ملحق بمدينة القدس... تلك الفضاءات التي تتكثّف على شكل قصص قصيرة من بضع صفحات أو أقصوصات بحجم الكفّ، لكنّها قادرة على تمثيل وقراءة انعكاسات النفس البشريّة في تعالقاتها مع مجتمع مأزوم، سلطة مروَّضة ومروِّضة، ومع الاحتلال قبل كلّ شيء. تلك التابوهات الثلاثة التي يتعامل معها نصّ شقير بحرفيّة قاصّ متقن لأدواته - في الجانب الثيماتي والجماليّ - مردّها ذلك الغنى في تجربته الإنسانيّة؛ فمن يتصفّح سيرة حياة محمود شقير الإنسانيّة والأدبيّة، يجد أنه عايش التجربة الفلسطينيّة من جوانبها المختلفة واستطاع أن يختزن مشاهد وخبرات هذه التجربة التي تستحقّ أن تُكتب.


العائد القلِق

وُلد محمود شقير في القدس في جبل المكبّر قبل حدث النكبة بسبعة أعوام (1941). وفي السابعة - ذلك العمر المفصليّ عند الأطفال، حيث تكون علاقتهم بالبيت الأوّل قد ترسّخت - عاين أولى تجارب التشرُّد والابتعاد عن البيت الأوّل، وكانت تراوما الطفولة تخطّ ما لن يستطيع الزمن لاحقًا مسحه، إذ يقول: "غير أنّ خوفًا فادحًا ممّا تعرّضنا له في تلك الليلة المشؤومة تسلّل إلى صدري وظلّ كامنًا [...] حتّى الآن" .

تجربة المنفى كانت رافعة جعلته يرى فلسطين من الخارج

ولم يكن هذا الابتعادَ الأخير عن البيت؛ فمنذ 1967 وشقير يُبعَد قسريًا عن بيته على يد الاحتلال، ثم يعود إليه: "كم كنت مشفقًا على هذا البيت الذي كنّا نتركه ليواجه مصيره وحده ثمّ نعود إليه؛ فيغفر لنا تخلّينا عنه في أوقات الشدّة، ثم نواصل العيش معًا في ألفة لا تنقص بل تزيد وتترسّخ على مدى الزمان [...] إنه وطني الأصغر الذي شهد كلّ التقلبات التي عشتها وعاشتها العائلة". ومن يقرأ قصة "عتبة" في هذه المختارات سيجد أنّها تحكي قصّة هذا البيت.

في عام 1974، وبعد اعتقال إداريّ لمدة عشرة أشهر (والذي لم يكن الاعتقال الأوّل بالطبع)، تمّ إبعاده بالقوّة إلى الحدود اللبنانيّة، ومنها بدأ رحلة المنفى القسريّ التي دامت حتّى عام 1993. تنقّل خلالها بين بيروت وبراغ وعمّان التي استقرّ فيها أربعة عشر عامًا، كان يرافقه دومًا شعور بعدم الاستقرار وبأنه "معلّق" رغم قوله "إن تلك المدن لم تقصّر معي بأيّ حال من الأحوال". لكنّ هذا المنفى فتح له آفاقًا كانت محاصَرة في الوطن، فأصبحت الكتب في متناوله ينهل منها، ويطّلع على فنون الكتابة الأدبيّة والأعمال الفنيّة الأُخرى كالتلفزيون مثلًا، ويشارك في المؤتمرات الثقافيّة والسياسيّة، فتتوسّع آفاقه وتتعمّق ثقافته وتتلوّن، ويشارك في العمل الثقافيّ والصحافيّ العربيّ والكتابة للتلفزيون والمسرح. تجربة المنفى - على صعوبتها - كانت رافعة جعلته يرى فلسطين من الخارج، ويفكّر بطريقة جديدة انعكست في نصوصه.

لم تكن العودة سهلة، وكان عليه أن يقضي عامًا دون أن يكتب حرفًا، حتّى يتأقلم مع الحياة المختلفة التي عاد إليها، ويتكيّف من جديد مع المجتمع، ويرتّب أوضاعه المعيشيّة. عاد شقير إلى القدس بعد أوسلو، وعلى أثر عودته كتب "ظلّ آخر للمدينة"؛ لكن العودة كانت ناقصة، وقلق الطفل ابن السابعة في أن يُهجَّر أو يُنفى لم يفارقه، فكما يقول: زوال الاحتلال هو ما "يجعلني أكثر اطمئنانًا على استمرار حياتي في المدينة؛ على النحو الذي يحفظ لي كرامتي؛ ويحميني من التعرّض للسجن أو للنفي كما وقع لي من قبل. آنذاك، سوف أشعر بطمأنينة مؤكّدة، وسأجد وقتًا للتأمّل ووقتًا للعزلة ولممارسة الكتابة؛ سأجوب أطراف المدينة ومركزها من دون خوف أو قلق".

هذا التنوُّع في رحلة شقير الإنسانيّة والأدبيّة - رغم المعاناة وعدم الاستقرار - أتاح له رؤية التجربة الفلسطينيّة والإنسانيّة ضمن فضاءات أرحب وأعمق، ممّا جعله أكثر نضجًا في اختيار الموضوعات واللون الأدبيّ الملائم، وشحذ أدواته الفنيّة بعيدًا عن الأدلجة والمباشرة، وأكثر اشتغالًا على النصّ كوثيقة جماليّة قبل كلّ شيء. وعلى الرغم من أنّ شقير قد جمع في جعبته الأدبيّة تجارب أدبيّة مختلفة، منها الرواية والكتابة للأطفال والكتابة لمسلسلات تلفزيونيّة بالإضافة إلى العمل في الصحافة، إلاّ أنّه يُعتبر واحدًا من أهم الكتّاب العرب الذين طوّروا رؤيا منجزهم الأدبيّ، واستطاعوا أن يسيروا أشواطًا نوعيّة في كتابة القصة القصيرة والقصّة القصيرة جدًّا.


محتوى واقعيّ لمشهد سرياليّ

يمكننا القول إن اعتناء شقير بجماليّة النصّ يبرز جليًّا جدًا في القصص القصيرة جدًّا، حيث تغلب الفنيّة على كلّ الأدوار الأُخرى للنصّ الأدبيّ؛ فمعظم القصص القصيرة جدًا يمكن قراءتها دون معرفة سياق التأليف أو المؤلّف؛ وذلك لعدّة أسباب أسلوبيّة تتيح ذلك، وتخصّ هذا النوع من الكتابة. أوّل هذه الأساليب هو غياب السياق الزمكانيّ المحدّد في معظم هذه النصوص الفنيّة التي تُركّز على سرديّة الحيّز اللحظيّ للحدث، وعلى التفاعل والأثر النفسيّ للشخوص داخل إطار النصّ، كما أنّ النصوص تستدعي قارئًا ضمنيًّا فعّالًا، فهي تعتمد على التكثيف والانزياح في اللغة والدلالة، إضافة إلى الإغراب في الوصف والسرد، والانتقاء الدقيق للجمل القصيرة المتلاحقة، ووحدة المقطع. وفي أغلبها، يوظّف الراويَ الغائب العليم بكلّ شيء أو تعدّدَ الرواة أحيانًا، كلّ ذلك يتيح للنصّ أبعادًا قرائيّة متعدّدة، ويمنح القصّة حريّة الخروج عن رصد الواقع مع الانغماس الوثيق به. على سبيل المثال قصص مثل: "شعرة"، و"زجاجة ماء"، و"فراق"، و"الشجرات الثلاث" هي قصص تنزاح في سرياليّتها عن الواقع، وتمكّن القارئ - كلّ قارئ - أن يذهب بها بعيدًا في الدلالة.

كَتَبَ المفارقة الحارقة التي يعيشها الفلسطيني بعد أوسلو

لكنّ هذا الأمر لا يُغيِّب تمامًا هويّة النصوص، فهي تشي بالواقع الذي نشأت من رحمه. مثل قصّة "قتل"، حيث يتجلّى حرمان الإنسان العاديّ من أبسط ملامح الحبّ، ومن أحلامه الصغيرة، أو رغباته وحقوقه الطبيعيّة تحت الاحتلال. مثلًا، توحي قصّة "حافلة" للقارئ أنّها من عالم فنتازيا آخر، كلّه سلام وطمأنينة، لكنّ نهايتها تعيده مباشرة لواقع الأبارتهايد: "البنت تكفّ عن الثرثرة مع المرأة البدينة ثم تنام [...] ينتشر شعرها على صدري وقريبًا من وجهي، لكنّني أحاذر من ملامسته، رغم رغبتي الخفيّة في ذلك، لأنّنا لسنا أفراد عائلة واحدة، ولأنّني هندي أحمر على أيّة حال". كما أنّ الفساد والقمع والملاحقة السياسيّة تظهر في كثير من القصص عبر التلويح بشخصيّة "الشرطيّ" أو "المخبر" الذي يطارد خفية أو علانية الراوي أو شخوص النصوص، كما في قصّتَي "مدى" و "غسيل". كما لا يغيب عن القارئ ما تكشفه القصص من فساد في صفوف صفوة القياديّين السياسيّين والمثقّفين، كما في قصّتَي "بيان" و"الحفلة" على سبيل المثال.

يسعى شقير إلى كسر الأيقونات، وجعل الفلسطينيّ إنسانًا له حيزه الصغير ومشاعره الحقيقيّة. ففي قصّة "اقتحام"، نجد الغرفة التي كان يعيش فيها المعتقل وأغراضه الصغيرة التي تشتاقه، وفي قصة "الأمّ" تظهر المفارقة بين الصورة الأيقونيّة التي يسوّقها الإعلام ويريدها الجمهور لأمّ الشهيد، وبين مشاعر الأُم الثكلى الحقيقيّة. في كثير من القصص يغيب سياق التأليف، وتغيب معه الأسماء، لكن يبرز بالمقابل الواقع القامع المروّض الأكثر ضراوة؛ ففي قصّة "كلب" يلعب التكرار "يشهد الله" دورًا محوريًّا في ترسيخ صورة الواقع، وفي التأكيد على أنّ ما يحدث هو حقيقة تحت أعين العالم "الأخلاقيّ".

يستعمل شقير أيضًا تقنيّة القصص "المتّصلة المنفصلة" في بعض القصص القصيرة جدًّا، حيث يمكن لكلّ قصّة أن تشكّل نصًا مستقلًّا، وفي نفس الوقت نجدها متّصلة بقصص أُخرى تأتي قبلها أو بعدها كنوع من التناصّ الداخليّ. ويمكن للقارئ أيضًا أن يلمح النفَس الشعريّ في بعض نصوص القصّة القصيرة جدًا، كأنها ومضات شعريّة أكثر منها سرديّة. فعلى سبيل المثال قصة "خوف" تصف مشهد النكبة متكاملًا وصمت الضحايا عبر إيقاعيّة الجمل الفعليّة المتوالية وإيقاعيّة الأصوات، والتركيز على مشهد النسوة وهن "يجلسن في الصمت بعد أن أحكمن إغلاق الأبواب والشبابيك، وأحكمن سدّ المسالك المؤدّية إلى فراغ القلوب المربك الذي يكبر في ليالي وحدتهن القاسية".

يرصد شقير أيضًا في القصص القصيرة جدًا علاقات مركّبة بين الرجل والمرأة، وفي معظم هذه القصص تغلب فكرة اللاتلاقي الفكريّ والاجتماعيّ أو اللاتواصل النفسيّ كما قصة "المطر"، وتظهر المرأة في داخل عدد من القصص كرمز لمعنى الحياة، بالإضافة إلى تمجيد المرأة الأمّ وإعطائها أهميّة بالغة وجعلها رمزًا إنسانيًّا متفوّقًا كما في مثل قصّة "تماثيل"، كما تظهر المرأة في عدد من القصص متفوّقة على الرجل بثورتها في وجه الواقع المرير، كما في قصّة "صمت النوافذ".


قفص مغلق/ مفتوح

يتميّز المنجز النصّيّ بعد أوسلو لدى شقير بالتقاطه مشاهد من الواقع المركّب للإنسان الفلسطينيّ، من زوايا لافتة، حيث يستطيع أن يحوّل اليوميّ والعادي إلى كولاج سرياليّ متعدّد القراءات لمجتمع فلسطينيّ لا يزال يحاول أن يعيش ويحلم رغم اختناقه بمظاهر الفقر والتقوقع والقمع والعزلة والاحتلال. أو بكلماته: "أحاول الذهاب إلى كتابة حديثة [...] تلقي الضوء على الحياة اليوميّة بكلّ ما فيها من سيّئ وحسن، كتابة تنأى عن البلاغة الزائدة، وعن إثارة عواطف الشفقة [...] كتابة تعبّر عن جوهر الواقع الفلسطينيّ، وتكشف عيوبنا، باعتبارنا بشرًا لا ملائكة [...] من حقّنا أن نكتب عن امرأة حقيقيّة لا يذهب النقد إلى تأويلها باعتبارها فلسطين".

وهو يستخدم عدّة أدوات لتشكيل هذا الكولاج، ومن أهمّها السخرية التي تلعب دورًا فنيًّا هامًّا في تسهيل نقل المأساة لكنّها لا تلغيها، يوظّف شقير السخرية كميكانيزم دفاعيّ مزدوج، يتيح له التعالي على الواقع مع التركيز عليه بنفس الوقت: فمن جهة توفّر له هذه السخرية "التركيز على الجلّاد والسخرية منه والاستهانة به وبكلّ إجراءاته القمعيّة"، ومن جهة ثانية فإن "السخرية من نواقص الذات وأخطائها [...] تسعى لخلق روح معنويّة تمكّن الفلسطينيّ من الاستمرار في الصمود". ومن الجهة الفنيّة الجماليّة "الكتابة الساخرة ليست سهلة دوافعها مثلما في ممارستها" - هكذا يقول شقير - وهو يعي أنها وسيلته للابتعاد عن الأدلجة والنقل المباشر فتخفّف من وطأة الواقعيّة والمباشرة في النصوص التي تأتي أساسًا من عمق الواقع.

انعكاسات النفس البشريّة في تعالقاتها مع مجتمع مأزوم

ينبش شقير أيضًا في لا أخلاقيّة الاحتلال وفي ممارساته اليوميّة المحبطة، ويسخّر التجربة الخاصّة ليجعلها تجربة عامّة؛ فلعلّ وقوفه اليوميّ على حاجز قلندية كان مادّة أساس لقصّة "شاربا مردخاي وقطط زوجته"؛ ذلك العنوان الذي يصلح أن يكون عنوانًا للوحة كاريكاتوريّة ساخرة، يشدّك للقراءة ويحفّز صورة ذهنّية تجمع مردخاي والقطط والشاربَين والزوجة في إطار واحد، حتّى ليظنّ القارئ أنّ الفلسطينيّ غير موجود، وأنّ القصّة هي قصّة مردخاي، إلّا أّن القصّة تُبرز معاناة الفلسطينيّ اليوميّة مع الاحتلال، دون نقل مباشر لهذه المعاناة، فكلّ ما يفعله شقير - عبر راوٍ عليم بكلّ شيء - هو عكس اتجاه الكاميرا.

فمن خلال المنولوغ الداخليّ ومفارقاته والوصف الكاريكاتوريّ، والسرد الساخر تتكشّف معاناة هذا الفلسطينيّ الذي تتوقّف حياته تمامًا على الحاجز كلّما قرّر مردخاي أن يمشّط ويمسّد شاربيه اللذين يشبهان "جناحَي طائرة". حيث تظهر ساديّته وعنجهيّته حين يقف لأوّل مرّة "وجهاً لوجه أمام الفلسطينيين [...] رآهم صامتين متوجّسين وهم يصطفّون في طابور طويل أمام الحاجز، ينتظرون فرصة للمرور [...] تضاربت في رأسه المشاعر والأفكار، كاد يعلن شفقته على هذا الجمع الأعزل من البشر الذين ينتظرون إشارة من يده، لكنّ أمن الدولة، الذي هو فوق كلّ اعتبار، دفعه إلى دحر مشاعره الرقيقة، لأنّ هؤلاء في التحليل الأخير هم أعداء إسرائيل". جهلُ مردخاي بالفلسطينيّ الإنسان وخوفه من مجرّد وجوده الديموغرافيّ (هو يرى أنّ الدولة ملزمة بمراقبة الحدود جيدًا كلّما طبخ سكّان تل أبيب الملوخيّة) يجعلانه ساديًّا قاسي القلب، فتصبح السخرية ميكانيزم دفاعيًّا، من خلاله يستطيع شقير أن يسخر من القامع ويجعله قزمًا في أخلاقه وأفكاره وسلوكه، فهذان الشاربان لم يجعلا من مردخاي - ومن يرمز إليهم - رمزًا للفحولة والقوّة والشجاعة، بل حوّلاه إلى رمز للتندّر والسخرية من قبل زملائه الجنود، ومن قبل الفلسطينيّين، حتّى يقرّر التنازل في النهاية عن شاربيه ويقدّم بعض التنازلات للعابرين من الحاجز.

في نفس الوقت، فإن شقير لا يتورّع عن توجيه سخريته اللاكزة الواكزة في خاصرة المجتمع الفلسطينيّ نفسه؛ فكثير من قصصه - كما أشرنا في البداية - اتّخذت منحى أسلوبيًّا سيميائيًّا في عناوينها كما في شخوصها، من خلال كسر النمط وتوظيف أسماء شخصيّات أو "نجوم" عالميّين. هؤلاء "الأبطال" (أمثال شاكيرا، ونعومي كامبل، ورونالدو، وكونداليزا) لا يظهرون كشخوص فاعلة في النص بقدر ما يوظّفهم شقير ليكشف بواسطة غيابهم المقصود الواقع المأزوم والمركّب الذي يعيشه الإنسان الفلسطينيّ في زمن العولمة والاستهلاك على ثلاثة أصعدة: داخل المجتمع الفلسطينيّ، تحت ومع الاحتلال، وإشكاليّة علاقته المغلقة- المفتوحة مع العالم.

في قصّة "مقعد رونالدو"، على سبيل المثال، يظنّ القارئ أن القصّة تدور حول رونالدو لكنّها في الحقيقة تتمحور حول "كاظم"؛ الإنسان الفلسطينيّ الذي لا يزال يتمسّك بالحلم ويفسح له مكانًا في سيارته، ولا يريد أن يجلس أحد في المقعد الأماميّ من سيارته الأجرة؛ لأنّه محجوز لرونالدو الذي وعده - وفق كلامه - بأن يزوره في فلسطين. يعدي كاظم زوجته بهذا الحلم، فهي التي تطبّب جراحه وتدفعه للاستمرار في حلمه عندما يتكالب المجتمع على خطف سراب الحلم منه، ويتّهمونه بأنه عميل للاحتلال ومارق زنديق، ويسيء إلى سمعة العائلة. ومن هنا تظهر القوى الداخليّة التي تلعب دورًا هامًّا في قيادة هذا المجتمع: قوى دينيّة شكليّة ومتطرّفة، قوى سياسيّة مدجّنة ومؤدلجة، وقوى عائليّة قبليّة متخلّفة تتكالب على قمعه وضربه وترهيبه وزوجته.

الأعمال القصصية - محمود شقير - القسم الثقافي

لكنّ المأساة الثانية ليست فقط في أنّ هذا المجتمع يروّض نفسه بنفسه ويقمع نفسه بنفسه؛ إنّما تكمن في أنّ حلم كاظم يتمحور حول وهم "بطل" خارجيّ لم ولن يأبه لهذا الإنسان الفلسطينيّ البسيط الذي ربط حلمه وعائلته ومقعده الأثير بهذا "النجم"، الذي لن يأتي لزيارته والاعتراف بوجوده وبحقّه. ومن جهة أُخرى تَبرز المأساة الثالثة في أنّ الحلم الفلسطينيّ عمومًا، على سذاجته وبساطته، إلا أنّه صعب التحقّق في الواقع الفلسطينيّ. وفي نفس الوقت لا شكّ أنّ هناك إشارة مبطّنة إلى أن البطولة الفلسطينيّة في أزمة حقيقيّة، أدبيًّا واجتماعيًّا، وأن الإنسان الفلسطينيّ الذي يعيش اغترابًا عن ذاته، بات يفتّش عن نموذج بطولة استهلاكيّ يجعله قادرًا على الحلم. رغم أنّ هذه القصّة تكشف عمق الأزمة والمأساة الدائمة التي يعيشها الفلسطينّي في قفصه الكبير بعد أوسلو، إلّا أن شقير يقدمها مطعّمة بالسخرية في المواقف وفي الحوارات، ومطعّمة باللهجة الفلسطينيّة التي ترفدها بالواقعيّة وتشدّها إليها، وتجعل القارئ يبكي ويضحك في آن واحد.

يصوّب شقير أيضًا شوكة واخزة إلى العقليّة الذكوريّة المجتمعيّة، ففي القصص القصيرة تظهر قضّية المرأة في المجتمع الفلسطينيّ -بعد أوسلو- وانعكاسات ذلك على مكانتها بشكل أكثر وضوحًا بعيدًا عن الرمزيّة.

في قصّة "مشية نعومي كامبل" يكشف شقير ازدواجيّة المجتمع الفلسطينيّ في تعاطيه مع المرأة، ويُسقط أقنعة المثقّفين - المتعلّمين في الغرب - أيضًا ويضعهم في نفس خانة العقليّة القبليّة. يسخر شقير من هذا المجتمع الذي يكيل بمكيالين، فالدنيا تقوم ولا تقعد بسبب "بنطلون" نهلة ابنة التاجر الغنيّ، لكنّ السبب الحقيقيّ ليس "بنطلون" نهلة الذي لم يلتفت إليه والدها بداية، بقدر ما هو تعليق ومشادّة بين رجلين أحدهما "مهبول" والثاني "أزعر"، أما الأب التاجر الغني الذي "وجد أنّ السكوت على الأمر سيلحق به عارًا حتّى الممات" فما هو إلا تاجر في النهاية و"يخاف على "المرسيدس" الجديدة أكثر من خوفه على ابنته؛ فيخرج مؤترًا سيفه القديم مع أربعين من "قبيلته" (تذكّرنا بعلي بابا والأربعين حرامي)، وحين يلتقي بجنود الاحتلال تظهر هشاشته وبطولاته المزيّفة وهو يخفي سيفه إلى أن يمزّق رجله.

في النهاية، يمكننا القول إن محمود شقير، كاتب ملتحم بالواقع الفلسطينيّ لكن بعيدًا عن الشعارات والمباشرة، وإنّما عبر التزامه بنقد الواقع ومحاولة فهمه من زواياه وتفاصيله الأكثر عمقًا، وتقديم الجميل والأقل جمالًا فيه، بحميميّة من يحبّ وينتمي، وبعقليّة من رأى، وبمهارة قاصّ متمكّن من أدواته وحريص على إمتاع قارئه؛ فيأخذ القارئ معه بخفّة عبر دهاليز النصوص، بلغة سلسة طيّعة، وأحيانا مطعّمة بالمحكيّة الفلسطينيّة، ينقل القارئ من الفانتازيا إلى الواقع، ومن الواقع إلى الفانتازيا دون أن يُشعر القارئ أنّ الأمر مقحم، بل يصدّقه ويعيش معه في العالمين، فيُضحكه شقير حينًا ويبكيه حينًا، لكنّه في كلّ ذلك يجعله يستمتع بما يقرأ، ويفكّر أبعد من حدود النصّ الصغير الذي يعكس عالمًا مصغّرًا عن فلسطين اليوم والآن. 


* أكاديمية فلسطينية تقيم في حيفا. نُشرت هذه المقالة بالإنكليزية في مجلّة "باينبال"، العدد رقم 70 ربيع 2021، ضمن الملف الخاصّ عن تجربة محمود شقير

المساهمون