في كتابه "الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنكبة: الموقف والدور"، الصادر حديثًا، عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يُضيء الأكاديمي والكاتب الفلسطيني محمود محارب على دور "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" في النكبة، راصدًا انخراطه في الاستراتيجية الإسرائيلية طيلة فترة حرب 1948، في جميع المجالات؛ العسكرية والسياسية والفكرية والإعلامية والدولية، لتحقيق هدفها.
يُبرز الكتاب، الذي يشتمل أيضًا على ببليوغرافية وفهرس، موقف الحزب من إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ودعوته إلى إنشائها قبل شهر ونصف من إصدار "الجمعية العامة" للأمم المتّحدة قرارها بتقسيم فلسطين إلى دولتين، متوقّفًا عند الأهمّية التاريخية التي أعطاها "الحزب الشيوعي" لهذا القرار، نظرًا إلى منْحه شرعية دولية لإنشاء دولة للمستوطنين اليهود في فلسطين، كما يوضّح تأييده، على نحوٍ علنيّ وفعّال، خرق "إسرائيل" هذا القرار خلال الحرب، ودعْم احتلال "الهاغاناه" والجيش الإسرائيلي أراضيَ عربية فلسطينية ضمن الدولة العربية الفلسطينية وفْق قرار التقسيم، وتأييده رفض انسحاب الجيش الإسرائيلي منها.
كما يقف العمل على المساعي المكثّفة التي بذلها الحزب مع الأحزاب الشيوعية الحاكمة في أوروبا الشرقية، للمساعدة في حصول "الييشوف" اليهودي و"إسرائيل" على السلاح والعتاد والمقاتلين والخبراء، إضافة إلى الهجرة اليهودية. ويتابع انخراط أعضاء الحزب وأنصاره في "الهاغاناه" و"البلماح"، ومن ثم في جيش الاحتلال، ومشاركتهم في الحرب التي شُنّت على مدن فلسطين وبلداتها وقراها، وطردت منها الفلسطينيين وارتكبت المجازر في حقّهم.
ربط الاتحاد السوفييتي بين "المسألة اليهودية" في أوروبا والقضية الفلسطينية
يُضيء الكتاب على التغيير الاستراتيجي في موقف الاتحاد السوفييتي، مبرزاً أنّ "الجمعية العامّة" للأمم المتّحدة شكّلت في أيار/ مايو 1947 لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين (UNSCOP) من أجل استقصاء الوضع فيها، وقد خشي الفلسطينيون من تشكيل هذه اللجنة، ومن إمكانية خضوعها للضغوط الصهيونية والاستعمارية، وخاصّة الأميركية، فقاطعوها عند وصولها إلى فلسطين في حزيران/ يونيو 1947، بمن فيهم "عصبة التحرّر الوطني".
وعشية توجّه اللجنة إلى فلسطين، ألقى أندريه غروميكو، مندوب الاتحاد السوفييتي في الأمم المتحدة، في 14 أيار/ مايو 1947، بيانًا بخصوص الوضع في فلسطين، ربط فيه بين المسألة اليهودية في أوروبا والقضية الفلسطينية؛ إذ ذكر، كما ينقل الكاتب، أن "تطلُّعات جزء كبير من الشعب اليهودي ترتبط بفلسطين"، وحاجج في ذلك بأنّ "اليهود اضطُهدوا وعُذّبوا وأُبيدوا في الحرب العالمية الثانية، وأن اليهود الذين نجوا وظلّوا في أوروبا لا وطنَ لهم".
وردًّا عليه، أصدرت "عصبة التحرُّر الوطني" المؤلّفة من الشيوعيين العرب الفلسطينيين بيانًا طالبت فيه بإلغاء الانتداب البريطاني على فلسطين وجلاء القوّات الأجنبية منها، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية التي تضمن العدالة والمساواة لجميع مواطنيها، وذلك من دون أن تعترف باليهود باعتبارهم شعبًا. وعارض بيان "عصبة التحرُّر الوطني" بشدّة إمكانية تقسيم فلسطين، بينما رحّب "الحزب الشيوعي الفلسطيني" بدعوة غروميكو إلى إقامة "دولة عربية يهودية متّحدة".
وخلافًا لموقفَي "الحزب الشيوعي الفلسطيني" والاتحاد السوفييتي، استمرّت "عصبة التحرُّر الوطني" في رفضها الشديد لمشروع التقسيم، باستثناء تيّارٍ كانت تمثّله الأقلية في اللجنة المركزية للعصبة، فنظّم اجتماعًا لأنصاره من أعضاء العصبة في مدينة الناصرة، في شباط/ فبراير 1948، وقد قاطعه ممثّلو الأغلبية في اللجنة المركزية للعصبة، وقبِل هذا الاجتماع قرار التقسيم. وشرع هذا التيّار في العصبة، والذي كان يقوده فؤاد نصّار وإميل حبيبي وتوفيق طوبي، في تبنّي موقف الاتحاد السوفياتي بشأن قرار التقسيم وتطوّرات القضية الفلسطينية.
ويشير الكاتب إلى أن "عصبة التحرُّر الوطني"، التي كانت في نطاق المنطقة المخصّصة للدولة الفلسطينية واحتلّتها "إسرائيل"، قد حلّت نفسها واندمجت في "الحزب الشيوعي الإسرائيلي"، في تشرين الأول/أكتوبر 1948، أمّا القسم الثاني من "عصبة التحرُّر الوطني" في المنطقة المخصّصة للدولة الفلسطينية، والتي ضمّها الأردن إليه، فقد حلّت نفسها في سنة 1951، وأسّست مع نفر من الأردنيين "الحزب الشيوعي الأردني".
يذكر المؤلّف أنّ "الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي" أولى موقف دول أوروبا الشرقية (بقيادة الاتحاد السوفييتي) من القضية الفلسطينية أهمّية قصوى، وسعى بطاقاته كلّها لتجنيد مختلف أنواع الدعم من هذه الدول لإقامة دولة يهودية للمستوطنين الكولونياليين اليهود في فلسطين بقوّة السلاح، على حساب الشعب الفلسطيني.
أيّد الحزب الشيوعي الإسرائيلي بقوّة احتلال الأراضي العربية وتوسيع حدود "إسرائيل"
ويذكر، في هذا السياق، أن "الحزب الشيوعي"، أرسل في كانون الأول/ ديسمبر 1947، اثنين من قيادة الحزب، هما إلياهو غوجانسكي وروت لوبيتش، إلى دول أوروبا الشرقية، من أجل الاتّصال بالأحزاب الشيوعية في هذه الدول وبالمسؤولين فيها، وبالتجمّعات اليهودية، لتجنيد مختلف أنواع الدعم والمساندة للمستوطنين الكولونياليين اليهود في الحرب وإقامة الدولة اليهودية في فلسطين، مضيفًا أن "الحزب الشيوعي" لم يكتف بالجهود التي بذلها غوجانسكي ولوبيتش في دول أوروبا الشرقية لحشد مختلف أشكال الدعم لـ"الييشوف" اليهودي في حربه ضدّ الفلسطينيين، فقرّر أن يُرسل أمينه العام، شموئيل ميكونس، إلى هذه الدول.
وسعى ميكونس لتحقيق أهداف عدّة، اعتبرها الحزب على درجة كبيرة من الأهمّية، وهي: الحصول على مختلف أنواع السلاح من هذه الدول للمنظّمة العسكرية الصهيونية، "الهاغاناه"، ومن ثمّ للجيش الإسرائيلي، في الحرب ضدّ الشعب الفلسطيني؛ والعملُ على تجنيد اليهود في هذه الدول ــ وخاصّة الشبّان وذوي الخبرة العسكرية التي اكتسبوها خلال الحرب العالمية الثانية في جيوش دولهم ــ للمشاركة في الحرب؛ والعملُ على فتح أبواب الهجرة اليهودية من هذه الدول إلى فلسطين، ولا سيّما الهجرة المقاتلة، والعملُ على إقامة معسكرات في بعض هذه الدول، لحشد المتطوّعين اليهود من مواطني هذه الدول وتدريبهم، تمهيدًا لإرسالهم إلى فلسطين للانخراط في الحرب؛ وتنظيمُ حملة سياسية وإعلامية واسعة في هذه الدول، تهدف إلى تشويه نضال الفلسطينيين ومقاومتهم إقامة دولة يهودية للمستوطنين الكولونياليين اليهود في فلسطين على حسابهم، وتمجيد سعي المستوطنين لإقامة دولة يهودية في فلسطين، وطرح هذا السعي على أنه نضال من أجل التحرّر القومي.
وينقل المؤلّف عن يتسحاق رابين، الذي كان قائد لواء في منطقة القدس في حرب 1948، قوله في مذكّراته، تعليقاً على وصول الأسلحة التشيكية إلى دولة الاحتلال في بداية نيسان/ أبريل 1948: "مهما كان حساب دولة إسرائيل وحساب الشعب اليهودي مع العالم الشيوعي، فإنه ينبغي الكتابة على رأس الصفحة بأحرف بارزة وواضحة: من دون السلاح التشيكوسلوفاكي الذي من المؤكّد أنه كان (قد أُرسِل) وفق تعليمات من الاتحاد السوفياتي، من المشكوك جدًا فيه إذا كان بقدرتنا الصمود في حرب استقلالنا، عندما أغلقت جميع دول الغرب مخازنها في وجهنا. وعندما حصلنا على البنادق والرشّاشات والمدافع والطائرات من تشيكوسلوفاكيا، تمكّن جيش الدفاع الإسرائيلي من الصمود في المعركة الصعبة".
ويذكر المؤلّف أن "الحزب الشيوعي الأرض - إسرائيلي" شنّ حملة واسعة ومستمرّة لإشراكه في مؤسّسات الأمن لـ"الييشوف" اليهودي في فلسطين وفي "مجلس الدولة اليهودية". وفي بداية آذار/ مارس 1948، أبلغت اللجنة القومية وإدارة الوكالة اليهودية اللجنة المركزية لـ"الحزب الشيوعي" موافقتها أن يكون للحزب ممثّل واحد في مجلس الشعب، وطلبت من اللجنة المركزية للحزب تسمية ممثّلٍ لها في هذا المجلس. وقد استجابت اللجنة فورًا، وعيّنت شموئيل ميكونس، أمين عام الحزب الذي كان حينئذ في أوروبا الشرقية، ممثّلًا لها في مجلس الشعب.
ويضيف بأن الحزب لم يكتفِ بذلك، بل استمرّ في مطالبته من أجل إشراكه في قيادة قوى الأمن لـ"الييشوف" بعد انتهاء فترة اتفاق وقف إطلاق النار الأول، في 9 تموز/ يوليو 1948، شنّ الجيش الإسرائيلي هجمات كبيرة على مدن وبلدات وقرى فلسطينية كثيرة في مناطق واسعة تابعة للدولة العربية وفق قرار التقسيم، واحتلّها وطرد سكّانها الفلسطينيين منها. وقد أيّد "الحزب الشيوعي" بقوّة احتلال الجيش هذه الأراضي التابعة للدولة العربية وتوسيع حدود "إسرائيل"، وشارك أعضاء الحزب وأنصاره الذين انخرطوا في صفوف جيش الاحتلال، من دون تحفّظ.
يُذكر أنّ محمود محارب باحث وأستاذ جامعي فلسطيني، وُلد في مدينة اللدّ. حاصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من "جامعة ريدينغ" في بريطانيا (1986). انخرط في العمل السياسي منذ صغره، وساهم في تأسيس "حركة أبناء البلد"، ولاحقًا، شارك في تأسيس "حزب التجمّع الوطني الديمقراطي".
له العديد من الكتب، وعشرات الدراسات المنشورة في مجلّات محكّمة حول القضية الفلسطينية، والمواجهة العربية لـ"إسرائيل"، وحول الصهيونية. من كتبه: "سياسة إسرائيل النووية وعملية صنع قرارات الأمن القومي فيها" (2013)، و"العلاقات السرّية بين الوكالة اليهودية وقيادات سورية" (2021).