ليس لي روح نمس ولا عقل ضِرْو، لم أذهب لإجراء بحث أو إعادة تشخيص تامّ على عين المكان لمسلك سجين فرَّ. وأنّى لي أن أزعم عيش ظروف الحياة في تلك الفترة الآن، وقد باتت تشيكا، و"مفوّضية الشّعب للشّؤون الداخليّة" مجرّد حلم رديء؟ ما أريده هو أن أرتاد مسالك الهروب التي هي طُرق سَناء لتحيّة كلّ مرتادي السّباسب، وملتهمي الآفاق، ومستصلحي الفضاء، وحمّالي الأنفاس الذين يعرفون أنّ التوّقف معناه الموت.
أضِفْ إلى ذلك أنّ هذا المسار يُبهرني، لأنّه في قطيعة مع الاتّجاه التقليديّ للحركات البشريّة في هذه الرُّقعة من العالَم. فقد انتقلت جحافل الرُّحَّل في آسيا العُليا من الشّرق إلى الغرب أو العكس، على مرِّ العصور، دون أن يغادروا القطاعات العَرضيّة المناخيّة الحيويّة التي ألِفُوها: التّيغة لدى صيّادي سيبيريا، والسّباسب لدى شعوب الفرسان، وتضاريس ألْتاي لسكّان الجبال الرُّحَّل. تجّار الحرير، والمغامرون، والغُزاة الكبار من الإسكندر إلى جنكيز، ثمّ الصّغار من نابليون إلى هتلر، اتّبعوا وجهة ذلك الترجُّح. في قلب أوراسيا كان رقّاص التّاريخ يتأرجح دائمًا من الشّرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشّرق. مع استثناء واحد: عندما يُريد حشدٌ جائع الإغارة على واحة، فإنّ هجومها يتمّ من الشّمال إلى الجنوب (لأنّ الرُّحَّل النّاهبين كانوا يسكنون في خطوط العرض الشّمالية، في حين أنّ الواحات كانت منتشرة في خطوط عرض أقرب إلى الجنوب). وكانت الذّئاب تُهاجِم أصحاب البساتين المُقيمين، وترسم على صفحة أوراسيا مساراتٍ غير مُطابقة للمسارات المعتادة. لا يوجد من لا يمشي في الاتّجاه العاديّ غير الذّئب، بوصفه مخلوقًا يعيش على هامش العالم. والهاربون، بوصفهم نوعًا من الحيوانات المطارَدة، اتّبعوا هم أيضًا هذا المحور الذي يمتدّ من شمال أوراسيا إلى سفوح الهيمالايا، "محور الذّئب"...
لا شيء يُفرحني بقدر أُفق يهرب ببطء من محاولاتي بلوغَه
ما أُريد الاحتفاء به هو "روح الهرب"، الذي يتمثّل في تجميع المرء كلّ قواه وآماله وكفاياته، أن يهيِّئ كلَّ شيء دون أن يترك اليأس يتسرّب إلى إصراره كي يستعيد الحرّيّة المفقودة. أن يهرب معناه أن يمرّ من حال تحت الحياة (الاعتقال) إلى حال نجاة (الفرار) حبًّا في الحياة. وأنا، ممدّدًا اليوم تحت غطاء لـ"شركة السّكك الحديدية الرّوسية"، أريد أن أقيس خطوة خطوة، في بطء ووحدة، ما كلّف ذلك غرقى القرن الأحمر، منفيّي سنوات الفولاذ، إبحارهم في الأراضي الشّاسعة لآسيا الوسطى كي يبلغوا سواحل الحرّيّة.
لن أستخدم للتّقدُّم في سَيْري أيّ وسيلة ميكانيكيّة. ليس لمُتعة عدم الدَّيْن للكيلومترات بغير طاقتي الذّاتيّة، وإنّما لأنّ التقدّم ببطء، مشيًا على القدمين أو على صهوة حصان، هو طريقةٌ جيِّدة للإمساك بذهنيّة هارب يلفي نفسه وحيدًا، أعزل من كلّ شيء، مسلَّحًا بعضلاته وحدها، على طرَف شسوع بستّة آلاف كيلومتر. ثمّ إنّ معاناة التّعب على ثنيّة هي كيفيّة لتوجيه تحيّة إلى أولئك الذين تعذّبوا قبلنا. للإنكليز عبارة رائعة للحديث عن تسلّق الجبال الشّواهق. يقولون إنّ تسلّق سُور دون استعمال رزّات أو حبال، معناه ممارسة تسلّق بوسائل عادلة. وأنا أردتُ على الدّوام أن أسافر كما يتسلّق الإنكليز، بوسائل عادلة، ما يعني: بأمانة. على حصان، على القدمين، على درّاجة. وفي رأيي أنّه من غير الأمانة أن نُقدّم أنفسنا للجغرافيا مسلّحين بمحرّك، وأعرف أنّ خطوة الإنسان وسير الحصان هُما أهمّ الأدوات لقياس شُسوع العالَم. مضت عشرة أعوام وأنا أجد السّكينة في نهب الطّرقات حتّى إنّه لا شيء يُفرحني بقدر أُفق يهرب ببطء من محاولاتي بلوغَه.
أحيانًا، كمثل المغول الذين هم أبناء الرّيح، أتخيَّل أنّ الأرض صلبة والسّماء بعيدة، ولكنّي أقدّر كثيرًا أن تكون تلك مهادي، وهذه كُنّتي حتّى إنّي مستعدٌّ أن أضحّي لأجلهما بشكاوى مفاصلي البائسة. لا أحبّ كثيرًا لذائذ كابْوا. وفي رأيي أنّ مورمانسك وأولان - أودي لها لذائذ أفضل. لا أحبّ أيضا الطّرقات المرسومة بإتقان. إذا رأيتُ طريقًا تنحرف مع السّباسب، تتملّكني رغبة مساندة السّباسب. الشّيء الوحيد الذي يُمكن أن أمنحه للمنظَر الطّبيعيّ هو وقتي، ولذلك أحبّ أن أمنح أيّامًا كاملة لمنحدر الثّلج المجلَّد، وأسابيع لصحارى مفتوحة للرّيح، وأشهرًا طويلة للثّنيّة.
خطّتي في شهر أيار/ مايو هذا - في روسيا ينبغي أن يكون للمرء خطّة - هي من البساطة ما يُشبه الطّموح الخالص للهاربين: الوصول إلى مدينة ياكوتسك، العثور على آثار غولاغ في المنطقة التي يصفها رافيتش، ومنها التقدّم مع المحافظة على اتّجاه الجنوب، دون استراحة، إلى أن تعلن لي أدغال البنغال، بعد ستّة أشهر أو سنة، عن نهاية الرّحلة، كما كانت تعلن للزّيك عن بداية حياة جديدة.
وصل القطار العابر لسيبيريا إلى المحطّة النّهائيّة نريونغري. نزلت، وقابلت في آخر الرّصيف يوري، ميليشيٌّ سابق وافق على نقلي في سيّارته اللادا إلى نقطة انطلاقي، على ضفّة نهر لينا، على مسافة تستغرق أربعًا وعشرين ساعة. سارت بنا السّيّارة بأقصى سرعة، في اتّجاه الشّمال، على ثنيّة بيضاء تشقُّ التّيغة الخالية. غابة تبعث على الغمّ. عند المغرب، تجاوزنا يافطة مغروزة على حافة الطّريق تعلن: "خطر! إشعاعات، الارتفاع: 1300 متر".
- "هذا غولاغ ألْدان القديم، الوقوف ممنوع". قال يوري وهو يُسكت المحرّك.
كنّا على مرتفع نطلّ منه على منخفض أوحال منتفخ واسع. لعلّه حُفرة ملآنة بالدّموع. في الخلفيّة، لا تزال هناك تيغة قاحلة، تشوبها غدران سَبِخة في لون الفضّة الكابية. أشجار السّرو العارية تلوح مثل حِراب بنادقِ جيشٍ ابتلعته طبقة من الزّئبق. بعض القنوات التي يغذّيها ذوبان الثّلوج، تتلوّى على السّفوح الجرداء قبل أن ترتمي في الحوض. صليبٌ أرثوذوكسيّ بارتفاع مترين مغروز، يتصدّر المكان هناك، ربّما كذكرى لأعوام الشّقاء. لو حوى هذا المنظر حنجرة لكانت مخنوقة. بلغتُ أسفل التّلعة التي تحمل الطّريق، واقتربت من آثار المباني السّجنيّة. ينبغي اتّباع ألسنة الثّلج مخافة الغوص حتّى الرّكب في دبق الرّاسبوتيتسا. لم يبق من المعتقل الذي ظلّ يشتغل حتّى وفاة ستالين عام 1953، أيّ شيء؛ عدا الجدران وبعض قوائم النّوافذ المشمّعة. ثمّة نشيج يحوم في ما وراء الأفق. بإشارات واسعة من يديه، صاح فيّ يوري بأن أعود.
- "سيلفان! لا تتغابَ! ستصاب بالإشعاعات!".
استأنفنا طريقنا بسرعة فائقة، دون حذر؛ وأنا أكره السّرعة.
- "يوري! خطير أن تسير بمثل هذه السّرعة". قلت له، وهو يعدّل السّيّارة بعد انزلاقها على عرض الطّريق.
- "لا تخف". أجاب، "أنا شرطيّ قديم".
أُلاحظ قدوم اللّيل، ما يعني، في تلك الأنحاء القريبة من القُطب الشّماليّ، أنّي أرى نزول الشّمس على قمّة شجر التّنّوب، تلتفّ بِذُراها، تتوارى قليلًا، ثمّ تبدأ صعودَها البطيء. أركّز نظري على الضّياء الغريب، وأنا أفكّر في شعوب الضّوء الشمالي التي تجذب الشّمس، المنبعثة كلّ صيف، عُيونها المغسولة، ذات لون الجمَد الميِّت. في الضّوء النصفي، الذي لا ينتمي إلى ليلٍ أو نهار، يرفض الجسد النّوم؛ أمّا الذّهن، فإنّه يغوص، بالرّغم من صحوه، في نزوة أرق ليليّ تسكنه مفازع، وتقبّضات في الصّدر وتساؤلات مُعتمة: موجٌ من أفكار مُظلمة تصّاعد من عمق الرّوح.
ثمّ إنّ الشكّ، الآن وأنا أتّجه نحو البداية، لم يعد يفارقني. كيف سأتغلّب على ستّة آلاف كيلومتر من الأراضي الموحشة؟ من أين أستمدّ قوّة المُضيّ قُدُمًا؟ كيف أدّعي الانتصار بمعيار الخطوة وحدها على تلك التّيغة، والسّباسب والقِفار التي تمدّها، المحرومة من البشر، الخالية من كلّ صوت، والتي هجرتها حتّى الألوان؟ الهارب هو مثل طريدة: يلاحقه قتلةُ السّلطة المأجورون الذين يحاول التملّص منهم، يحثّه مِنخس الإحاشة. يستثيره الخوف من اللّحاق به، يرقص على حبل مشدود. يجلده القلق، الذي يحفظ بداخله كلَّ صباح تعجّل استئناف المشي. ولكنّي، بخلاف الهارب، ليس لي من مثل هذه المغامرة غير الخسران. فما الذي يحدوني؟ من الصّعب أن يضع المرء نفسه على شفير الهاوية بلا مبرّر. فالاختيار يكلِّف طاقة أكثر ممّا يكلّفه الخضوع.
- "نهر لينا!". صاح يوري.
نزل على العدوة، وركن السّيّارة على ضفّتها المجمّدة. ننتظر العبّارة. النّهر يحمل كُتلاً من الجليد تحفُّ عند مرورها مثل "المَرَنْغ". الرّبيع تأخّر هذا العام، ونهر لينا ما يزال غاصًّا بقطع جليد كانت العّبارة، عند رسوّها، تدفعها أمام جُؤجئها.
في ياكوتسك تبرز بعض المداخن، ورافعات الميناء المزوَّدة بمفاصل وتمثالٍ لِلينين. يشير بذراعه إلى الجنوب: محور الحرّيّة، الطّريق التي ينبغي اتّباعها! هنا، نحن على بعد خمسمائة كيلومتر من القطب الشّماليّ، ولكن بما أنّ الفصل صيف، فإنّ الفتيات، وقد تعجّلن اغتنام شهرين من الدّفء، استعضن دون حلقة وصل عن معاطف الفرو بالتّنانير القصيرة. قادتني الوديعة فيرا ذات الوجه اللّطيف كوجه فقمة قطبيّة إلى المدينة طيلة الأيّام القليلة التي قضيتها فيها. ألكسيس رومانوف، مدير "استوديوهات السّينما الياقوتيّة"، يُعدّ مشروع فيلم عن الغولاغ. دعاني إلى العشاء مع سينمائيّ روسيّ، غينالي، يحنّ إلى سنوات حكم بريجنيف. عينا رومانوف حزينتان. ربّما من كثرة إبقائهما ملتفتَتين إلى العهد القديم.
- "ياقوتيا، قال، هي قلب نظام المعتقلات، سجن بلا قضبان. الصّقيع، البرد، المستنقعات، الجبال، كلّها تحجز الزّيك أفضل من أيّ شبكة أسلاك شائكة. منذ قرنين، بدأ القياصرة يرسلون منفيّين إلى هذا المكان. في أذهان قادتنا، هذه الأرض منذورة لأن تكون صندوق القمامة البشريّة للإمبراطوريّة، مصبّ مارقين".
- "غريب أن يقع الاختيار على أفضية مترامية مفتوحة للرّياح، وآفاق بلا أعماق، وسماوات بلا نهاية لحبس النّاس. هل كانت ثمّة عمليّات فرار كثيرة؟".
- "من هنا؟ مستحيل تقريبًا، دون مساعدة. ثمّة آلاف الكيلومترات من الغابات، وذئاب، ودببة...".
- "... وهمج... قالت ماشا، عالمة أنثروبولوجيا في الجامعة كانت قد انضمّت إلينا".
عاد الرُّبّان إلى مركز القيادة ليشغّل المسجّل: سترافينسكي بشكل عالٍ
الشّيخان اللّذان التقيتُ بهما في اليوم التالي في مكتب أرشيف "مفوّضية الشّعب للشّؤون الداخليّة" لهما مهابة. شعرٌ أبيض، سترات سوفييتيّة ذات ميداليّات وخاصّة تلك الكيفيّة في الوقوف باستقامة. حاولا الطّفوّ على سطح محيط الوثائق والأوراق التي أغرقتهما، عند سقوط الاتّحاد السّوفييتيّ، حين رفعت كلّ المؤسّسات سرَّ الدّولة وفتحت بالوعة أرشيفها. يتولّى السّيّدان العجوزان في صبر منذ عام 1991 إحصاء منفيّي ياقوتيا والمعفيِّ عنهم، يفتّشان بلا هوادة في صناديق الإضبارات المختوم عليها "سرّيّ". وينشران، علاوة على ذلك، كلَّ عام نوعًا من الدّليل الدّقيق عن الغولاغ. نقرأ فيه أسماء المحكوم عليهم لدوافع سياسيّة، الذين تمّ العثور على آثارهم، ومعها، تاريخ ولادة كلّ معتقل، وتاريخ إيقافه، ومدّة عقوبته، وتاريخ العفو عنه. تُظهر الصّور المنشورة وجوهًا كابية – وجوهًا مشوّهة لمساجين نصف مجانين ذوي نظرات شاردة: صورة عن "الأرواح الميّتة" لغوغول. بحثت عن اسم رافيتش. عثرتُ على بولنديّ بحرف ر: ستيفان رافالسكي. ولا شيء سواه. لم يسمع متعهّدا الأرشيف قَطّ عن هروب حتّى الهند.
- "عليك أن تلتقي بإيرينا، لاتفيّة منفيّة تسكن في وسط ياكوتسك".
امرأة عجوز، ولكنّ لها ذاكرة جيّدة. قضّت عشرين سنة في الاعتقال. تعرف أحد الهاربين.
بيت من الألواح الخشبيّة. ثلاثة طوابق ببسطات مُظلمة تفتح على شقق فرديّة (الحُلم السّوفييتيّ). لا شكّ أنّ الشّتاء فيها قاسٍ حين ينحدر المِحرار إلى 40° تحت الصّفر خارج البيوت. كانت إينينا جالسة على أريكة، وعلى ركبتيها غطاء مثنيّ. طفلة في الثّانية عشرة، حفيدتها، أصيلة مثل جنّيّة الخرافة، تسقي الشّاي. وقبل أن أفتح فمي، مضت العجوز تقول:
- "لم أعرف قطّ لماذا أُرسِلتُ لقَطْع الحطب طيلة عشرين عامًا على ضفاف نهر أَمورْ".
لم تكن تنظر إليّ وهي تتكلّم. مع أن عينيها جميلتان: زرقة غامقة، ولكن بتركيز تراجيديّ نوعًا ما كأنّهما لا تقدران على الخروج من اللّيل.
- "جاؤوا للقبض علينا، أنا وأختي وأمّي. أبي كان قد اعتُقل قبلنا. قالوا لنا إنّ لنا هكتارين ونصفًا من الأراضي، وإنّنا غنيّات. أغلقوا الباب خلفنا ونهبوا كلّ شيء. في الغولاغ، أجبِرتُ على حَمْل أكياس بطاطا زِنَتُها خمسون كيلوغرامًا. ما زلت أتساءل كيف استطاع ظهري تحمّل ذلك... ثمّ أُرسِلتُ إلى مزاولة الاحتطاب. كان عليّ أن قطع الأشجار مقابل حصّة بمائتي غرام من الخبز في اليوم. كان النّاس يموتون من حولي. يرمونهم في حفرة. وأنا، طوال تلك السّنوات، كنتُ أبكي كلّ يوم".
- "والفرار، إينينا؟".
- "فكّرت في ذلك. ولكنّ أمّي كانت مريضة. فكيف يُمكن أن أتخلّى عنها؟ أحد أصدقائي، يهوديٌّ أشكناز، هرب واستطاع أن يصل إلى الولايات المتّحدة. كان يراسلني من نيويورك، ولكن منذ بضع سنين، لم أعد أتلقّى شيئًا. لعلّه مات...".
- "والآن؟".
- "الآن، أنسى، أعرج في مشيي وأنتظر".
لقاء آخر: ألمانيّ يُدعى بوك، تمّ نفيُه حين كان في الخامسة من عمره إلى الضّفاف المتجمّدة لبحر لابتيف في مارس 1942. للحديث معي، ارتدى ربطة عنقه وقميصه الأبيض: "ينبغي أن يكون المرء لائقًا حينما يُعيد إلى زبد الذّاكرة ذكرى العهود اللّعينة. وصف الإبعاد في قطار الماشية، والجدّ الذي مات جوعًا في العربة ، ودُفن تحت رصّة السّكك، والوصول إلى شاطئ القطب الشّماليّ، كوخ الحطب العائم والتُّرب المتجمّد الذي بُني بمساعدة التّشوكشي، وكان قد قضى فيه عشر شتاءات، كتل الجليد التي قُطعت بالمنشار في شكل نوافذ ("أوه، تلك النّوافذ التي كانت شفّافة بشكل عجيب!").
ذات يوم، نظّم المُبعَدون حفلًا، فبعضهم كان قد أنقذ آلته الموسيقيّة. كان الفصل شتاء، وكنتُ صغيرًا. درجة الحرارة في الخارج 50° تحت الصّفر مع ريح هائجة. في الدّاخل، كان الرّجال يعزفون على الكمان، والأكورديون. والنّساء يرقصن. أحدهم خرج للتّبوّل، في العاصفة. لم يعد أبدًا. لا شكّ أنّه تاه، برغم الحبال الممدودة بين الملاجئ. عزف الموسيقيّون بقوّة ولوقت طويل ليرشدوه في اللّيل. المفوضّيّة لم تكلّف نفسها البحث عنه. وُجد في الرّبيع تحت الجليد على مسافة ثلاثين مترًا من بيوتنا. أُطلق عليه "ميّت الحفل".
في اليوم التالي، زرت آثار غولاغ حطّابين، في قلب التّيغة، على بعد مائة كيلومتر غربيّ ياكوتسك. موظّفو أرشيف مكتب التّبرئة وإعادة الأهليّة هم الذين قادوني إليه. سارت بنا السّيّارة طويلًا في أخاديد ثنيّة إلى أن بلغنا مجازًا إلى الغابة.
- "هنا!".
قد يكون المعسكر 303 حيثُ طبع رافيتش على الثّلج أوّل خطوة في مسيره الطّويل، ولكنّه لم يُحدّد مكانه في مرويّته. المكان يُشبه كلَّ تلك الأراضي المُرهقة بحمل ثقل جحافل من النّفوس المعذّبة. يحدث أحيانًا أن تنضح الجغرافيا بالحُزن كما يرشح الجلد تحت الشّمس. هناك أربعة صفوف من الأسلاك الشّائكة تؤطّر أرضًا واسعة خالية من الشّجر. لا شيء نبَت على صفحة المعسكر القديم. الشّجر لا يعود إلى حيث سالت الدّموع. ما يزال يظهر للعيان السّلك المعدنيّ - الهادي الذي كانت توثق إليه كلاب الشّرطة التي لا يستطيع حتّى مسيِّروها الاقتراب منها. بقي أيضًا سياج خيول في شكل إفريز، وعشرة أكداس آجرّ وأثر سبيل الطّواف الخارجيّ. هنا وهناك يلوح سرير مخيّم صدئ، قدر، قطعة منشار، حاجز نافذة مشبّك منزوع من قائمه: "ذكريات بيت الأموات". الباقي احترق.
غداة رحيلي، قادتني فيرا إلى المستشفى لتلقيحي ضدّ التهاب الدّماغ المنقول بالقراد، مرض التّيغة: تعضّك الحشرة، فتتسرّب إليك العدوى، ويصعد الفيروس إلى الرّأس، فيكون الموت. طبيبة من كراسنويارسك لها رائحة المطّاط الجديد لقّحتني بإبرة في الظّهر. ثمّ قالت لي إنّه لقاح جديد لم يسبق لها أن جرّبته، ولا تعرف تضادّ استطبابه، وليست واثقة من كونه يتناسب مع الحقن التي تلقّيتها في باريس. بيد أنّها هاتفت فيرا مساء (وقاية لطيفة من الأطبّاء الرّوس الذين ليسوا واثقين جدًّا ممّا يصفون لك، ولكنّهم يكلّفون أنفسهم عناء الاهتمام بتطوّرات العلاج بعد حدوثه).
عند الفجر، قبّلتُ فيرا. نحن في بداية شهر حزيران/ يونيو: حان وقت الرّحيل. في لحظة الوداع، أهدتني غالينا، صديقة فيرا، جُلجلًا.
- "كي تعلن حضورك للدّببة". أوضحت.
- "ولكي يرنَّ من يفترسُك"، قالت فيرا.
اخترتُ نقطةَ انطلاقٍ؛ قريةَ صيّادين، تقع على الضّفة اليُسرى لنهر لينا، على مسير نهار من الملاحة عند مدَبّ ياكوتسك، في اتّجاه بلدة أوليوكمنسك. لبلوغها، ركبت سفينة ذات طاحونة مائيّة من الخمسينيات، على متنها رُوسٌ في عطلة، يزجّون وقتهم وانطباعهم البغيض بالطُّفوّ على سطح الماء العَذب وهم يشربون كريستال من النّوع الجيّد بنسبة 45°. الرُّبّان، الذي يُشبه تروفيري شابٌّ من بايرويت تحوّل إلى البحريّة المكسيكيّة (شعر أشقر، نظر رقيق، زيّ بنياشين مطرّزة وأزرار ذهبيّة)، يبثُّ بانتظام وبصوت عالٍ عَبْر مُكبّرات صوت السّفينة إيقاعاتٍ سيمفونيّة مُثير للشّفقة لتشايكوفسكي أو مارشات عسكريّة، وكانت عجلة الطّاحونة المائيّة تضبط الإيقاع. على متن السّفينة، يشرب الرُّكّاب. نمت مرّة أُخرى.
أعلمتُ الرُّبّان بموقع المكان الذي أُريد النّزول فيه: ماركا، خطّ العرض الستّون شمالًا، الضّفّة اليُسرى. في صبيحة اليوم الثّاني، أوقفت المحرّكات بعد القرية بقليل. ألقت السّفينة المرساة على مسافة بعض أقلاس من السّاحل البرّيّ المأهول بأشجار تنّوب عالية، لا تزال كتل الجليد تعيش فوقه أيّامَها الأخيرة. هناك نزلت.
- "الفرنسيّ! إلى الأرض". قال الرّبّان مودّعًا.
وضع نوتيّان زورقًا في الماء. كان الرّكّاب يتابعون المشهد وهم متّكئون على دربزين السّفينة، والرُّبّان الذي كان يراقب المناورة من الجسر السُّفليّ عاد إلى مركز القيادة ليشغّل المسجّل: سترافينسكي بشكل عالٍ. صعدتُ المركب. حيَّيت المسافرين الذين لوّحوا بأيديهم ردًّا عليّ. انزاح المركب عن السّفينة. انزلقنا على نهر لينا، مخفورَيْن بالموسيقى. ابتعدتِ القوقعة الكبيرة، وكلّما ازددنا اقترابًا من الضّفّة، ازداد إحساسي بأنّي غادرت ملاذ بطنٍ رؤوم لأُلقي بنفسي في شدق العالم. كان النّوتيّان يجذّفان بقوّة. قفزتُ إلى الطّمي. سحب إيفان، أحد النّوتيَّين، المركب إلى الأرض وقال:
- "اجلس على حافة المركب". في روسيا، نظلّ برهة هكذا قبل أن نفترق: جالسين بهدوء خلال بضع ثوانٍ.
سُمعت أصداء السّيمفونيّة تنزلق على صفحة الماء. كان لها في سمعي رنين مارش جنائزيّ. أمامي: حافة التّيغة يفصلها عن السّاحل شاطئ رمليّ. لا أثر لحياة آدميّة. هنا، تبدأ الطّريق.
قمتُ وقصدتُ المدبَّ. عاد المجذّفان إلى السَّفينة. منذ نصف عام وأنا أنتظر هذه الثّانية، وها إنَّ الحُمّى وكلّ تلهّفِ الأشهرِ الأخيرة يتحلّلان فجأة، حالما قمتُ بالخطوة الأُولى، في عجلة اللّحظة. بعد ربع ساعة، تجاوزتني السّفينة وهي تنشر في مرورها نتفًا من سترافينسكي.
أنا وحيد، أنطلق في طريقي، طريق الحرّيّة. لن أتوقّف قبل أن أبلغ الهند.
* مقتطف من كتاب "محور الذّئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي