في مساء 22 من حزيران/ يونيو، وصلت إلى بلدة أرتيموف، واحدة من تلك الأماكن في العالم التي تُشبه المحطّات الأخيرة لخطوط مهجورة. عبّرت لسيّدات النادي الثقافي اللاتي وفّرن لي المأوى عن استيائي من البلاد:
- "النّاس عندكم يشربون كثيرًا... لا يُمكن أن يبقى المرء صاحيًا فقط ليومين مُتتاليين".
أيّدنني قليلًا ثمّ غيّرن الموضوع، وسألنَني عن رحلتي، ثمّ دعَونني إلى أن أفرغ معهنّ قارورة فلاغمان ذات 40 درجة. إحداهنّ، نينا، نحو مائة وعشرين كيلوغراماً، أسرّت إليّ:
- "إن كنتُ ضخمة الجثّة، فلأنّني ولدتُ في كازاخستان، في قرية معرّضة للإشعاعات النووية. بسببها انتفختُ. ولكن على أيّ حال، لا أحبّ ولعَكم في فرنسا بالهياكل العظْميّة. الجمال الحقّ في رونوار (نطقت ريينُووار)، وليس في هياكل عارضات أزيائكم!".
تذكّرت ناتاليا فجأة أنّ اليوم هو 22 حزيران/ يونيو.
- "اليوم ذكرى عمليّة باربروس!".
- "ينبغي أن نشرب على نخب جنودنا!".
- "وضدّ الفاشيّة!".
- "على نخب الجيش!".
عندئذ نهضت ربّات التغنّج الأربع الأرتيموفيّات في حركة واحدة، وأنشَدن، والكؤوس مرفوعة، "نشيد الأمميّة"، الحقّ. في ديكور طرف العالَم المدمَّر ذاك، كان للنّشيد الرّهيب للثّورة الكبرى رنينٌ أشدّ فخامة ممّا هو عليه حين يزعق به، تحت لافتات ذات شعاراتٍ، البورجوازيّون الصّغار النقابيون في فرنسا (الذين قد لا يحتملون يومًا واحدًا ظروف عيش المُحسِنات إليّ...). صديقات أمسيتي ستالينيّات، وهذا على أيّ حال أكثر رفعة ممّا لو كان المرء شيوعيًّا. حوالي العاشرة، انضمّ إلينا عجوز. هرم.
- "هو مُبعَد سياسيّ قديم، قالت نينا. في كامل جهة بودايبو، كان هناك آلاف المُبعَدين الذين تمّ تشغيلهم في مناجم الذّهب".
أجلسوه على كنبة حيث جعل يعزف بحمِيّة على البالالايكا حتّى منتصف اللّيل، وهو يهزّ رأسه يمنة ويسرة. انصرفت النّسوة، والعجوز لا يزال يعزف على عوده. وهو أمرٌ لا يحرجني لأنّي صرفت نظري عن النّوم على أيّ حال بسبب عائلة قِطَط سوداء تعيش هي أيضًا في النادي الثقافي، وقد قرّرت قضاء الليلة في كيس نومي.
من الغد، عبرت مرّة أُخرى بعض القرى التبرية. خلف الأسيجة، كان النّاس ينظرون إليّ شزرًا. هل بسبب قبّعتي التي لا شكلَ لها؟ الجفنة التي تتدلّى من حقيبتي؟ عصاي المَبريّة بشكل مدبَّب؟ كنتُ أمثّل في نظر أولئك النّاس المستائين من الحاضر والقلقين من المستقبل، صورة المتشرِّد. حتّى أنّ النّساء يدعون أطفالهنّ إلى جانبهنّ بشدّة حينما أقترب. لم يبق إلّا أن يُدخلن الدّجاج عند مروري.
لم أبق سوى نهار واحد في مدينة بودايبو، على حافة فيتيم، حتّى أطرد الكَرب الذي استبدّ بي بالأمس خلال نهار طويل من المشي تحت المطر. وأتفحَّص أيضًا، في متحف المدينة، الأرشيف الذي يتعلّق بالمُبعَدين السّياسيّين التّسعمائة والسّتّين الذين تمّ نفيُهم هنا، ما بين 1920 و1930. اغتنمتُ الاستراحة كي أبحث عن شمروخ استغاثة يمكن أن يذود عنّي هجمة دبّ. وأنا برفقة فيرونكيا، صحافيّة التلفزيون المحلّي التي أجرت معي حوارًا قبيل ذلك، قابلتُ ضابط فرقة "رجال المطافئ المظلّيّين".
شرح لي أنّ رجال المطافئ، في الصّيف حين تهدّد الحرائق الكبرى قرية ما، يقفزون على النّيران وحول رجل كلّ واحد مقطِّعةٌ. ثمّ يقطعون الأشجار بلا هوادة طيلة أربع وعشرين ساعة، كي يفتحوا واقيةَ نارِ في الغابة.
- "نُعطيك شمروخ استغاثة؟ صاح مستغربًا. أنت مجنون؟ كي تضرم النّار في أوّل فرصة؟".
صحيح أنّ من الغباء أن نطلب من رجال المطافئ إعارتَك أعواد كبريت. اقترحت فيرونيكا أن نتوجّه إلى المطار. شرح لنا طيّار أنّ شمروخ الاستغاثة لا يفيد في شيء عند تعطُّب طائرة، وأنّه لا يحمل منه أبدًا عند الطّيران. غادرت إذن بودايبو دون حاجتي. في فجر الغد، وصلتُ إلى ضفاف وادي فيتيم الذي يسيل جنوب المدينة. مرحلة هامّة بالنسبة إليّ لأنّها من العلامات الجغرافية النادرة التي ذكرها رافيتش في قصّته. لقد مرّ الهاربون مشيًا على الجليد. أنا، الذي تأخّر عنهم شهرين، أستقلّ العبّارة...
على الضفّة الأُخرى، ركبتُ درّاجة اشتريتُها منذ يوم (لم يكن معروضًا منها للبيع سوى اثنتين في المدينة). الطريق التي تعبر الكتلة الجبليّة جنوبي فيتيم يستغلُّها سوّاق الشاحنات في نقل إنتاج مناجم الذّهب إلى خطّ الحديد بيقال - أمور - ماجيسترال على مسافة مائتي كيلومتر جنوبًا. هي طريق تنفذ عبر جبال منتفشة بالتّيغة، وتمرّ من مخارم جبليّة تتجاوز الألف متر، وتصعد وديانًا كئيبة. بعد أن عرفت تلك الطّريق، فهمت معنى الثّنيّة الرّديئة، فهي مرهقة بشكل كبير حتّى أنّي بعد نهار أصبت بالتهاب في الشّدقين يمنعني من فتح فمي، لكثرة ما صررت أسناني. ولكي لا أضطرّ إلى حمل حقيبتي على ظهري، ربطتها إلى المقود بشاشي. بلغت الدّرب الذي يفصل فيتيم عن وادي تيلماما. كنت مجهَدًا. نسيت كم تصيب الدّرّاجة الذّهن بالاستلاب. على الدّرّاجة، كلّ الطّاقة الذّهنيّة تخصّص للإبقاء على الجهد الجسديّ. وما نربحه من سرعة يُحسَم من الإنتاج الفكريّ. الجسد يعمل، العقل ينام. في حال من التبلّد الذّهنيّ إذن عبرت أربعة مخارم بين 800 و1200 متر. جمالُ السّباخ التي تفرش منخفضاتٍ، سوّتها ملايين السّنين من الصّقل الجيولوجيّ، لا يشرح صدري. ثمّ بدأ الظّلام يقضم النّهار.
الحطّابان اللذان استقبلاني في كوخهما، على مسافة مائة كيلومتر من نقطة انطلاقي الصباحيّ، يعيشان هنا كامل السّنة، في تخشيبة مطليَّة بالسّخام، ليس لهما غير لمبة عاصفة، ومفارش، ومنبّه يطقطق، وبعض الكتب.
- "في الشّتاء، نعمل في الغابة حتّى في 50 درجة تحت الصّفر، إذا جاوزت ذلك، لا نخرج. ثمّة حدود"، قال لي ساشا.
- "خمسون درجة تحت الصّفر، ليس لدينا فكرة في بلدي، فرنسا، عمّا تعني"، قلت.
- "في 40 درجة تحت الصّفر، نخرج في ثلاث طبقات من الملابس فقط. عندما نعمل، لا نشعر بالبرد".
لم أنم جيّدًا هذه اللّيلة، بسبب نوبات سعال سُلّي تنتاب ساشا، ولأنّ سؤالًا يُحيّرني: ما الفرق بين حياة مضيفيّ وحياة الزّيك الحطّابين الذين كانوا يسكنون معتقلات الغولاغ في ما مضى.
في اليوم التّالي، مرّت وديان لا يزال البرد في عمقها، برغم الفصل، يجمِّد السّيول ويحوّلها إلى طرقات جليديّة. الدّرب الأخير يفتح على منحدر بثلاثين مترًا في شكل صعود إلى الجُلجلة. كان الانحتات من العنف ما جعل العلامات المنقوشة على مقبضي درّاجتي تنطبع على كفّيّ. وصلت إلى وسط قرية تاكسيمو، وأعصابي خرق بالية. لكي أخفّف عنّي، أشبعت بالشّتائم موجيكا، شابّ كان يؤدّي لي ذيل سمكة بسيّارته اللّادا الخربة. ركنها وخرج منها، واثقًا في قوّته، وبدا أنّه يُشبه ستاخانوف أيّام مجده، ولكنّي كنت في غاية من التّعب أنستني الخوف، فاندفعت نحوه أصرخ بسيل من الحماقات، فنكص على عقبيه وعاد يُطلق سيّارته على عجل وهو ينعتني بالجنون!
تاكسيمو تأسّست عند افتتاح الخطّ الحديديّ بيقال – أمور – ماجيسترال، الفرع الأكثر جنوبيّة في القطار العابر لسيبيريا، الذي دشّنه بريجنيف في السّبعينيات. والخطّ يرسم الحدّ الفاصل بين ياقوتيا وبورياتيا. وقد أقامه الزّيك. جفّفوا المستنقعات، شقّوا الأنفاق، وضعوا رصّات السّكك، وألزِموا في الصّيف كما في الشّتاء على أداء شغلهم الفرعونيّ، بوصفهم أشخاصًا غُمرًا جُعلوا قربانًا للخطّ الحديديّ، كما كان إخوتهم العبيد في مصر القديمة قربانًا للأهرام. تقاطعت طُريقي، مرّة أخرى، مع غرقى القرن الأحمر. بقيّة المسار فرضت نفسها: لم يكن لي سوى أن أسير غربًا بمحاذاة الخطّ الحديديّ طيلة خمسة أيّام، لبلوغ النّاحية الشّمالية لبيقال. لقد كانت البُحيرة لدى الهاربين غاية هامّة، إذ يكفيهم عند وصولهم إلى الضفّة الشرقيّة أن يُحاذوا الكيلومترات الستّمائة نحو الجنوب، كي يقودهم ذلك المحور الطبيعي إلى الحدود المغوليّة.
غادرت تاكسيمو في حالة رثّة، فأنا لم أستعد قواي عقب المرحلة السّابقة. وما زاد الأمر حدّة أوكسانّا ودينا، الآنستان اللّتان لقيتهما مساء أمس في بار قادتني قدماي إليه. كنتُ أودّ طلب بيرّة بالتيكا رقم 5، لكي أريح عضلاتي غير أنّ النّادلة أساءت تأويل عباراتي الروسية، وظنّت أنّي أريد خمس قوراير بالتيكا رقم 1، فاضطررتُ إلى الإجهاز على القوارير ذات النّصف لتر، وأنا أتحدّث بلسان مرتخ مع الفتاتين اللّتين تريدان أن تفهما لماذا لا أسافر على متن القطار أو الحافلة.
الخمسة أيّام التّالية لم تكن على ما يرام. ثنيّة مهجورة تُحاذي الخطّ الحديديّ. في العمق، باتّجاه الجنوب، بعيدًا جدًّا: الجبال التي تُشرف على بيقال مكسوّة القمم بالثّلج (إلّا إذا كانت سحبًا، إذ لا يمكن التّمييز جيّدًا من هذه المسافة بين ما ينتمي إلى الأرض وما ينتمي إلى السّماء). أحيانًا، يخترق الثّنيّة مستنقع ينتفش بسنادر بيضاء وجذوع محروقة، كما في مشهد قروسطيّ. وغالبًا ما تكون الجسور الخشبيّة التي تعتلي المجاري المائيّة منهارة، فأضطرّ إلى السّير على معبر والدّرّاجة على ظهري. يُصادف أيضًا أن يضطرّني وادٍ بالغ العرض عصيٌّ على العبور مشيًا، إلى العودة إلى جسر الخطّ الحديديّ. وإذا أقبل القطار وأنا على الجسر، ألوذُ بأحد الممرّات المتعرّجة المجعولة للغرض، فيمرق القطار نحو البحيرة وهو يكاد يلامسني، ويهتزّ الجسر وأحسّ بداخلي تصاعد حبّي العظيم لبيقال.
أَجري على درّاجتي بسرعة سبعة كيلومترات في السّاعة، تخضّني رجّات الثّنيّة. وأجرُّ خلفي غمامة من النُّعَرات. ترسم أسرابها مداراتٌ حول رأسي. تغتنم قليلًا الهواء القادم، ولكنّ سُرعتي تتعبها، ما يُرغمها على عمليّات توقّف وجيزة على ساعديّ. لاحظتُ أنّ النّعرة عدلت عن الملاحقة حين فاقت السّرعة اثني عشر كيلومترًا ونصفًا في السّاعة. أنا سعيد بأن أقدّم مجّانًا هذه الملاحظة لكلّ أكاديميّة علوم قد تهمّها المسألة. ولكن بما أنّي لا أستطيع أن أحافظ طويلًا على الوتيرة نفسها، ترافقنا خلال عدّة أيّام. في المساء، أخيّم عند فناء مراكز آلات تحويل القطار المهجورة، أو في العراء وسط التّيغة. ذات يوم، احتفلت بلقائي بحارسة محطّة للرّصد الجوّي مخفيّة في الغابة. شربنا كفاس (كحول الشّيلم) باعتدال، ونحن نلتهم سفافيد مشويّة.
أحسستُ لدى إلينا ميلًا إلى السُّكْر، ولكنّ بورياتيا أرض جرداء، فكيف لا نغفر لعاملة الرّصد الجوّيّ حين تغرق في الكحول يأسها من رؤية أيّ شيء ينزل في مقاييس المطر؟
تتغيّر التّضاريس كلّما اقتربت من البحيرة. صارت الثّنيّة رمليّة وبيضاء، وقعت درّاجتي في الحفر. أحيانًا أُجريها وسط كثبان رمل صغيرة حقيقيّة ذات رمل صاف جميل يمنح سيبيريا ملمحًا صحراويًّا. وفي يوم، صادفت ظبية، وثعلبًا، وسنجابًا، فقط. السّماء مستثارة. يا جزع الشّموس الشّاحبة التي تُلغي الجغرافيا في التحام الآفاق. الحرّ يُخيفني. في ما فوق أربعين درجة أجد العالَم باعثًا على القلق وبالغ الكبر. من الشّسوع السّيبيريّ، المفتوح مثل كابوس، لا يُمكن أن تولد ثقافة حقيقيّة. عندما تكون الجغرافيا بالغة الاتّساع، فهي تلغي التّاريخ فعلًا. ومن ثَمّ، ففي تلك التّيغات لا يُمكن أن تدوم سوى تجهيزات بشريّة رائدة، مدن تظلّ وقتيّة لقرون. فكيف نعيب على الرّوس إذن بناءهم يانتشوكان، المدينة التي وصلت إليها ذات يوم على متن قطار، جزيرة دون سند للرّوح، ركام ألواح خرسانيّة ملقاة هناك كما يلقى زهر النّرد. حتّى القطار يمرّ من هناك ولا يتوقّف أبدًا.
ذات مساء من أماسي تموز/ يوليو، قبيل الوصول إلى قرية أيوغان، عشت تجربة ازدواج في الشّخصيّة: جسدي المُنهَك بضربات الطّريق الرّجّاجة ولسع الحشرات، كان يواصل التقدُّم في حين أنّ ذهني، غير مبالٍ بالعذاب الذي أتحمّله، غادر أنظومته وتاه، غريبًا تمامًا عن القشرة التي تقيه حتّى تلك اللّحظة. دام ذلك التّيَهان دقيقتين أو ثلاث دقائق لم أفقد خلالها صفاء ذهني، بل بالعكس، أرغمني ذلك على مواصلة التّركيز كي لا أقطع حالة التجلّي الهشّة، ذلك التموُّج الضّئيل الذي قد يسمح لي، إن دام، بالذّهاب أبعد وأبعد دون أن أعاني من ويلات الطّريق. ولكن تهاوى التّجلّي، وعاد الذّهن إلى عُلبته العظميّة وتلقّى من جديد إشارة من أعصابي رجته الرّحمة. استراحة إذن، على حافة الثّنيّة، خلف ستار التّيغة.
طوال تلك الأيّام، كنتُ أسير بمحاذاة المجرى العُلويّ لوادي أنغارا. على بعد مائة كيلومتر من البحيرة، صارت الغابة أكثر وفرة. للسّنادر فيها حجمُ أشجار البلّوط الجرمانيّة. ثمّة مناخ رطب قال رافيتش إنّه كان دليله على قرب البحيرة، وإنّه يصيب النّاس بالكآبة إذا ما عاشوا طويلًا على حافة الماء. الكآبة زهرة أحبّها. لها شعورٌ عفا عليه الزّمن بأنّ سكّان المدن العصريّة في الغرب قايضوا بها القلق. ربّما لا تتوانى الكآبة عن مُعانقة روح روسيّ حين يستقرّ على ضفّة كتلة ماء مُسطّحة وصالحة للشّراب. وجدتُ من جديد مخمل القارّ على مسافة ثلاثين كيلومترًا من سيفروبايْكالْسك، مدينة مينائيّة أُنشئت أثناء بناء الـ"بام" (بيقال - أمور - ماجيسترال) في القرن الشّماليّ للبحيرة. عند إحدى عطفات الطّريق، لاحت لي بيقال، ورأيت السّماء تنعكس على لبنيّة صفحتها.
أتوقّف عند الحافة. أمامي ستّمائة كيلومتر من الضّفاف المتوحّشة، وفي أقصاها، منغوليا.
* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي