يلزمُني حصان.
تسكّعت في ألتانبولاغ، في النّاحية الأُخرى من الحدود، بحثًا عن صفقة جيّدة. لا سبيل للذّهاب إلى السّباسب مشيًا، فأرض الفرسان لا تُداس بالأقدام. إن لم يكن للهاربين من الغولاغ من خيار سوى المشي الاضطراريّ في تيه السّباسب، فليس لي ما يُجبرني على تقليدهم. سوف أقيس بالحصان أو بالمشي على القدمين لاتناهي السّهول المنغوليّة. ثمّ إنّ ثمّة شيئًا ما له علاقة بالحرص على الرّشاقة والحدس يُقنعني بأنّه يُمكن أن نُقارب الآفاق المنغوليّة والجزمة على الرّكاب، والعنان في اليد. كم من ركض دوّى هُنا منذ غابر الأزمنة حتّى أنّه من غير اللّائق إزعاج أصدائه بضبط السّير على وقع القدم. على سرج إذن، ولكن لا بدّ من حصان أوّلًا.
فارس من ألتانبولاغ أكّد لي أنّه يُمكن أن أشتري حصانًا في قرية سوخباتور، على مسافة خمسة وعشرين كيلومترًا غربًا. أعارني دابّة ورافقني. ألقيتُ نظرةً أخيرة على ناقوس كياختا، ذلك التّجلّي المنتصب للتّوحيد الأوروبّي القديم، القائم على حافة عالم التّرحال. أمّا المغول، أبناء السّهول، الأوفياء للأُفقيّة، فلا يعرفون رفع شيء إلى السّماء غير خيط الدُّخان المُنبعث من فتحة خيمتهم اللّبّاديّة.
قطعنا الكيلومترات الخمسة والعشرين على الطّريقة المغوليّة، أي دفعة واحدة.
قرية سوخباتور هي كفر سوفييتيّ يحوي بعض كومبينات تشهد نهايتها. لا يوجد بها سوى مبنى واحد مُزدهر: الكنيسة المورمونيّة. ذلك أنّ الإخوة الصّغار الأميركان من سولت ليك سيتي، ذوي الأقمصة البيضاء والشّعور المدهونة، نشطون جدًّا! يُلقون مواعظهم بالمنغوليّة، ويوزّعون الأناجيل، ويُنصّرون. والمغول البوذيّون يتقبّلون برحابة صدر كلمة الإنجيل. ولكنّهم يتوقّفون أحيانًا عند نقاط مسيئة: كيف نقبل مثلًا بأنّ المسيح، الفارس السّماويّ، دخل القدس على ظهر حمار؟
القانون المورمونيّ يحرّم استهلاك الكحول، وكلّ شكل من أشكال المنشّطات، بما في ذلك الشّاي. وآثارُ تلك الصّرامة في منغوليا جيّدة جدًّا ضدّ الكحوليّة. ولكن، في مقابل ذلك، يبدو منظر عائلة من الرُّحّل المورمونيّين الجُدد تحت خيمة اللّبد وهم يشربون أكوابًا من الماء السّاخن مشؤومًا. فالشّاي الذي يُحرمون منه، هو شراب له نفس قدسيّة الدّم الذي يجري في عروقهم.
أسقفُ المكانِ المرمونيُّ، شابّ منغوليّ تنصّر حديثًا، أراد مساعدتي. أبوه أيضًا راعٍ، ولكن من جنس آخر: فقطيعه من الماعز وليس من الرّعيّة. ومن حسن الحظّ أنّ الرّاعي العجوز كان يريد التّخلّص من أفضل خيوله. دعاني الأسقف إلى شرب قدح من الماء السّاخن في مقرّ إدارته الرّوحيّة:
- "عائلتي لا تستطيع الاحتفاظ بالحصان"، قال لي، "مع أنّه حيوان جميل. كنت أستعمله في الغالب للوعظ في الخيام، ولكن ذلك أصبح اليوم مستحيلًا لأنّنا اكتشفنا أنّه يتلهّف على القنّب الهنديّ الذي ينبت في غياض حيث نسكن. ديننا يحرّم استهلاك الكحول. ولا يمكن أن نواصل استخدام هذه الدّابّة".
حصان هرطقيّ! ذلك بالضّبط ما يلزمني كي أواصل نزولي إلى جحيم غوبي. سِرنا مشيًا دون انتظار باتّجاه المخيّم العائليّ، على مسير ثلاث ساعات من سوخباتور. كان لا بدّ من المرور بمعبر بثلاث قنوات على سيلينغا، وقطع المسالك بين كلّ ضفّة عبر سهول كبيرة رطبة. كانت العائلة تشغل خيام لبد مُقامة على بُسط من الأعشاب الطّريّة. جمع الأطفال الأفراس للحلب. تفقّدت الدَّبَرة على الظّهر وحوارك الدّابّة. الحصان المعروض للبيع رائع. تمّت الصّفقة بسرعة. حصلتُ على الكافر مقابل بضع عشرات من الدّولارات. اشتريتُ أيضًا سرجًا روسيّا مدح لي الفارس المورمونيّ العجوز أجزاءه. وهكذا، على صهوة الجواد المُلحد، آكل القنّب الهنديّ، أوغلتُ في الغروب بعيدًا عن المورمون الزّاهدين الذين رأيتهم اليوم. عندما جاء المساء، وقبل أن أنحشر في غمد ملجئي، صحتُ في الحصان وهو يرعى العشب، مربوطًا في وتد:
- "على فكرة، اسمك سلافومير".
نهضتُ مع الشّمس، ولكنّها كانت عظيمة. هناك الأصفر والبرتقاليّ ورذاذ الدّم كأنّها أُصيبت أثناء اللّيل. خلال الأيّام السّتّة التّالية، مضيت على ظهر جوادي نحو أولان باتور، الواقعة على ثلاثمائة كيلومتر من الحدود. في السّباسب، كان التّقدّم إبحارًا: نتقدّم من الصّباح إلى المساء دون أن يعوق عائق عدْوَنا. خيام اللّبد هي جزر تتواتر فيها الأرخبيلات بفواصل منتظمة. والسَّبْسَب هو حين تحطّ السّماء على الأرض، ولا تترك للأفق سوى فجوة صغيرة.
وأنا مُمسك بقربوسَي سرجي، كنت أحمل كيس مؤونة سباسبيّة: أجبان ولحوم مجُفّفة. بهذا الغذاء الذي لا يحتلّ سوى حجم قليل، يُمكن للفارس، شرط أن يجد الماء، أن يصمد لعدّة أسابيع. وهذا ما يفسّر كيف استطاعت جحافل الخان الأكبر أن تجوب بكلّ سهولة أفضية آسيا الوسطى، التي تبدو في عيني الأوروبّيّ، مفازات قاتلة. أحيانًا، أُدعى لتناول الشّاي تحت خيمة لبديّة، فأجيب الدّعوة وأنا لا أخشى سوى شيء واحد: ذبح خروف احتفاءً بمروري. ففي تلك الحالة (حدث لي ذلك في خيمة لبد على بعد مائة كيلومتر من العاصمة)، ينبغي قبول الأطباق التي تُعدّ على شرفي: الأذنان، والعينان، والسُّلابة، والقلب، والعراقيب، وقضم خصيتي الدّابّة لإيفاء الاستقبال الذي حظيت به حقّ قدره.
ولكنّي أتجنّب الرّجال في أغلب الأوقات، وأفضّل النّوم في طيّات الأرض، حيث العشب أنقى من أنحاء الخيام الملوّثة بالقطعان. ثمّ إنّي أحبّ النّوم وحيدًا، يهدهدني مضغ الحصان (موسيقى ناعمة في أذني الفارس). علّمتني تلك الأيّام في منغوليا السّهول أنّ الوحدة صارت بالنّسبة إليّ حالة ضروريّة. هي شقيقة الحرّيّة. كما أنّي لا أتكلّم المنغوليّة والحديث مع مربّي الماشية ينحصر في تشويه أكثر من محاكاة صوتيّة تعقبها قهقهات ما عدت أحتملها. هناك أشياء كثيرة أودّ معرفتها، وقليلٌ من النّاطقين بالرّوسيّة تحت الخيام اللّبديّة. كان لي من الأسئلة التي أودّ طرحها على المغول حول بلادهم التي جعلها ذلك القرن من الصّخب والدّم والفولاذ مختلجة ما لا أقنع معها بإرسال قرقرات وأنا ألتهم جذلانَ حساء بالأمعاء.
حصاني يركض جيّدًا. يُحافظ على سبعة في السّاعة دون أن أحتاج إلى إكراهه. هو مركبٌ حسن وأنا أحبّ قيادته. سِرنا نحو الجنوب ونحن نُحافظ على مسافة معتبرة - عدّة عشرات من الكيلومترات – من الطّريق الكبرى لأولان باتور. لا نصادف أحيانًا أيّ إنسان طيلة اليوم. نعمة مُضاعفة: أن يكون المرء وحيدًا وغير مستعجل.
تعلّمت معرفة حصاني. لاحظت حين تعترضنا شاحنات كم كان سلافومير يخشاها. كان قد كبر في مراعي سيلينغا، بعيدًا عن ضجيج الطّرقات. هو حصان من زمن لم يكن فيه غير الخيول. كان يهاب أيضًا جثث الخيولِ التي نهشتها الذّئاب، المخفيّةِ في الأعشاب العالية، والتي كانت دوائر العِقبان تُكلّلها. أفهمه: ليس جميلًا بالمرّة أن نرى إلى أيّ شيء تقودنا الحياة. كان يحبّ الأشواك فيدوس على قلبها بحافره كي يرقّقها. في أغلب الأوقات، أستريح في منحدرات غطّتها الأمطار الأخيرة بالأزهار، وأتمتّع حتى هبوط اللّيل، وأنا أمصّ جبنًا يابسًا وأرمي بعض الملاحظات على كُرّاسي المصنوع من ورق الأرز، برؤية سلافومير وهو يقلّع باقات من أُذن الفأر والوزّال في ضربات قويّة من عنقه.
الكلاب تشكّل خطر السّباسب الوحيد الحقّ. هي الحارسة الشّرسة للخيام. كلّ عائلة تربّي منها واحدًا، ولكنّ سلطة الرّجال عليها معدومة. الماسْتيف (ذلك هو اسمها) ليست كلابًا تمامًا، إذ لا تزال لديها خصائص الذّئب، ولكنّه ذئب من أسوأ الأنواع: اكتشف الملكيّة الخاصّة. عندما تهجم، والأنياب بارزة والمناخير مقلوبة وهي تُرسل نباحها المبحوح القادم من غياهب العصور ومن الأحشاء، فالخير ساعتها في أن يكون المرء على حصان. ثمّ إنّها لا تُهاجم الفرسان. ولكن كلّ إنسان يقترب من المُخيّم يعرّض نفسه لهجوم محتوم تقريبًا يجد الأهالي أنفسهم صعوبة في منعها. كره الكلاب للرّاجلين يؤكّد لي أنّ السّماء إن وهبت حصانًا فلكي يُمتطى، فالمشي على قدمين في السّباسب هو إخلال بآداب السّلوك.
شهدت مرّة، وأنا أبلغ أُولا، هجومًا محمومًا لكلاب حراسة على فرس. نوع من البوزكاشي الحيوانيّ حيث يقوم الفرس مقام الهيكل العظميّ والكلاب مقام الفرسان! فأيّ ذنب اقترف الفرس كي يستحقّ تلك المعاملة؟ كانت ثلاثة ماستيف تتعقّبه بين الخيام وهي تتحاشى بعناية لبطات حافره. كان الفرس لا يزال مُسرَجًا، والرّكابان يضربان جنبيه: لا شكّ أنّ لجامه انفكّ من عمود رباطه. خرج مربّو الحيوانات على عتبة خيامهم. بعض الرّجال الذين لم يجدوا الوقت لركوب خيولهم حاولوا الوقوف أمامه إلا أنّ الكلاب لم تغادر توتّرها. لا أحد استطاع أن يوقفه. أرخيت العنان لسلافومير فركض بي، وجعلتُني في مستوى الفرس. أطلقت بعض صيحات لأبيّن للماستيف أنّي أُحسِنُ أنا أيضًا عُنفَ ما قبل التّاريخ، وأمسكت الفرس من زمامه وأوقفت جريانه. عدتُ إلى الخيام والكلاب تصرخ بعنف، مستاءة. سُرّ المغول كثيرًا، ودعوني في الختام بإلحاح إلى تذوُّق مكافأتي: حساء ضأن بكِرش فاترة.
ذات مساء، اكتشفتُ على منحنى تلعةٍ زريبةَ أغنام من الخشب: استراحة راعٍ على طريق انتجاع. يشغل المكان بسطة أرض تتقدّم واديًا حوضيًّا، مؤطّرًا هو ذاته بحشايا عشب تُقوّس نحو السّماء استدارة قممه. نظّفت الزّريبة، ربطت سلافومير إلى وتد، ضربت خيمتي، تعشّيت بمعكرونة شريطيّة صينيّة نيّئة (مليارات من البشر في العالم يأكلون منها كلّ يوم)، ومربّع جبنة من العهد البريجنيفيّ (نحتفظ به عشرات السّنين هنا)، ونمت. في الثّالثة صباحًا، وصل رعاة تائهون إلى الزّريبة، ووجّهوا إلى الحظيرة مائتي عنز سوف يقودونها إلى مدينة داخان. كنت قد ضحّيت بليلة للخنازير في سيبيريا، وأخصّص ليلتي هذه للدّفاع عن أمتعتي أمام سنّ الماعز، ذلك المتوحّش.
لاحظت من الغد أنّ السّبسب لم يكن خاليًا. ذهبت أنا وسلافومير عبر المروج، يقودنا سَمامٌ يعرف أنّ حوافر الحصان تثير شعبًا كاملًا من الجراد والحشرات الطّائرة التي تَولع بها. أشهد أحيانًا حفلًا راقصًا لكراكيّ سيبيريا، العاشقات الرّائعات، التي لا تملّ إحداها من الأُخرى، وهي منبهرة بذاتها، تقضّي ساعة كاملة لتقدّم مفاتنها.
ولكن ما إن تتراكم الغيوم في ناحية من السّماء وتنخفض درجة الحرارة حتّى تهجر المكان. صفعة السّباسب هي العاصفة. والمغول يعتبرون أنفسهم سعداء هذا الصّيف. انتهت الفصول المظلمة التي كان الجفاف فيها يعصف بالمواشي. فالسّماء في هذا العام تتكشّف. والعواصف على قدر السّباسب: عملاقة. الغيوم هنا لها حجم ممالك. وعندما تهبّ العاصفة، فكأنّما سيف يخرقها، حيث تنفتح دفعة واحدة مثل القِرَب، لكي تنهال جميعُها، بكلّ ثقلها، وتفرغ من مائها في لحظات، تاركة السّباسب تحتها مذهولة من شدّة العنف. ذات صباح، صفعَنا بعنف، أنا أو سلافومير، وابلٌ من البرَد، وتحوّل اللّيلُ فجأة إلى نهار.
وعندما قدم السّتار، ظننت أنّ لي من الوقت ما يكفي لبلوغ منحدر واقٍ، ولكنّ عناصر الطّبيعة كانت أسرع. كانت الصّدمة من القوّة ما جعلنا عاجزين عن مواجهتها. كانت حبّات البرَد تجلد جلدي وجلد الحصان. أدار سلافومير كفله للرّشقات. تحوّل البرَد إلى مطر ذي قطرات ضخمة. قرفصت تحت الدّابّة، محتميًا بكنّة صدرها، وانتظرتُ أن تهدأ السّماء. تبلّلت، وشملني البرد، ولكنّي كنت سعيدًا لأنّه لم يكن فوقي سوى حصان.
خلال الشّهرين اللذين قضّيتهما برفقته في منغوليا، لم تحدُث سوى مناسبة واحدة خشيت فيها أن أفقد سلافومير. في ذلك اليوم، أوثقته داخل مُخيّم، في سياج حظيرة ماعز، رغم أنّ العادة تقضي عند زيارة مُربّي الماشية أن نعقد زمام الدّابّة في العمود المُعَدّ لذلك الغرض، والذي يغرزه المغول أمام خيمتهم. في حلقة الشّاي، كنتُ أستمع إلى الفرسان يشرحون لي كيف يمكن أن أصل إلى بئر قريبة. دوّت فجأة فرقعة ركض خيول عقبها صهيل مذعور. مرقت خارج الخيمة، مدفوعًا بتلك الطّاقة التي تشاطرها الأمّهات مع الفرسان حين يتهدّد محَطَّ حبّهم خطر. كان سلافومير قد قلع قطعة من السّياج، وفي اندفاعه، وقع على الجانب. على أقلّ من كيلومتر، مرّ قطيع من مائة حصان ركضًا. مربّو مواشٍ شبّان كانوا يتسابقون، قاطعين عشرات الكيلومترات في خطّ مستقيم. أفزع الصّخب حصاني فأراد الالتحاق بالإعصار، أي أنّ سلافومير في نهاية الأمر أراد أن يهرب.
حيثما توقّفت كي أسأل النّاس عن موقع الآبار أو أشتري بعض الأطعمة، أتلقّى نفس الاستقبال الذي يُمكن وصفه بالأرستقراطيّ، أي كريمًا، وطبيعيًّا، ولامباليًا نوعًا ما. ليست ضيافة بمعنى الكلمة، بل هي تعبير عن عجز المرء أن يتصوّر أنّ بإمكانه ترك الغريب خارج المخيّم. وأنا أتلقّى الشّاي في عمق كوخ اللّبد في المكان الشّرفيّ، خطر ببالي أنّ هذا الشّعب الودود المُسالم، المُنهمك طول النّهار في حَلْب خيوله، كان فيما مضى قد جسّد إحدى القوى الإمبراطوريّة الأكثر دمويّة في تاريخ البشريّة كلّه. لقد كان النّاس يخشون غزوات مغول الإمبراطوريّة السّماويّة حتّى في الغرب! الشّعوب كالإنسان: لهم سنّ الشّباب، وسنّ النّضوج، والانحدار. كثيرون ما عادوا سوى انعكاسٍ مُحتضَر لما كانوا عليه. لكلّ واحد في التّاريخ عصره المجيد. للطّليان والإسبان القرن السّادس عشر، وللفرنسيس والهولنديّين القرن السّابع عشر. أمّا المغول فقد هزّوا القرن الثّاني عشر. ومنذ ذلك التّاريخ، كان لهم ثمانية قرون كي يصبحوا ضعافًا وطيّبين.
قبل الوصول إلى أولان أوتان بيومين، عبرت في خطّ مستقيم بعض التّضاريس المكلّلة بسنادر هزيلة. تسلّقت الصّعدات معرّجًا يمنة ويسرة كي لا أُرهق سلافومير. وطأ الحصان حقلًا مزهرًا ينبت فيه الفُطر. وهذا لا يهمّ الهارب ولا المتسكّع – إذا افترضنا أنّ الفطر ليس خطيرًا – فالوقت الذي يستغرقه إعداده طويل وفوائده الطّاقيّة محدودة جدًّا.
لا أنام اللّيل إلّا قليلًا لأنّي أحرس دابّتي. في المخيّمات، أخشى سرّاق الخيول، فأصحو أكثر من خمس مرّات في اللّيلة. ولذلك غالبًا ما أنهار على العشب في النّهار من شدّة التّعب. أنام وأنا ممسك برسن حصاني، يعقده حين يرعى، فتوقظني هزّة: إنّه الحبل إذ يتوتّر ليعلن وجوب استئناف الرّحلة، والسّير من جديد في السّباسب، وتبنّي مبدأ النّاجعة في الهروب إلى الأمام، ذلك الارتحال الذي لا يني يتجدّد. لا خيار في السّباسب سوى المضيّ قُدمًا. ليس للإنسان إلا أن يمرّ. وكلّ استراحة تأجيل. المنظر الطبيعيّ، الموارد، السّماء والأفق، كلّ ذلك يساهم في الحركة. وهذا ما يفسّر كيف عبرت الجحافل القارّة كلّها دون توقّف، تطأ الأرض ما دامت تحت حوافر خيولها أرض.
قضّيت ليلتي الأخيرة قبل بلوغ العاصمة في خيمة، جنين من اللّبد، عالم أُعيد خلقه، منكفئ على نفسه، ليس له من فتحة سوى التّندك، ذلك الثّقب المحفور في ركن عقدة القبّة، صرّة البيضة، اليأفوخ الذي تفرّ عبره أحلامنا نحو السّماء لتلاقي اللّيل. من الغد، مرض سلافومير، بسبب الكلأ الكريه المحيط بالخيمة، الذي حصدته الماعز، ولوّثه البول. بعيدًا عن ذلك المكان، في مَفرج جافّ بين جبلين، حيث نبتت أزهار، تركته يستعيد عافيته. ثمّ امتطيت السّرج من جديد. في المساء النّازل، لاح حيوان لابد في السّهل، بقعة سوداء ورماديّة مكلّلة بالدّخان منتفشة بالهوائيّات. إنّها أولان باتور، عاصمة إمبراطوريّة السّباسب، مدينة أبناء جنكيز، الأورغا الأسطوريّة التي تنازعتها الجحافل. واليوم هي مدينة صناعيّة. كذلك الأمر دائمًا مع المدن الأسطوريّة. سمرقند، أولان باتور، كابل، كتب عليك ألا تظلّي سوى أسماء في أحلامنا...
في منغوليا، يترك المرء حصانه في مدخل العاصمة، كما يركن النّاس في مكان آخر سيّاراتهم. عهدت بسلافومير إلى عائلة ضربت خيمتها عند تماسّ البناءات الأولى. موضع غريب: السّبسب يتوقّف فجأة، فإذا هي المدينة. لي أشياء كثيرة أقضيها في أولان باتور. تسكّعت والسّرج تحت ذراعي على طول الشّوارع السّتالينيّة في وسطها، بحثًا عن مأوى. مرّت مبانٍ فخمة: أوبرا، ومتحف التّاريخ الطّبيعيّ، وقصر الحكومة. في الميدان المركزيّ، فارس على قاعدته: إنّه تمثال البلشفيّ سوخباتور، البطل الأحمر الذي طرد الصّينيّين خارج البلاد عام 1921. وجدت الملاذ في فندق، حيث تردّدت موظّفة الاستقبال، واسمها أمارا، جميلة كالثّلج، في إعطائي غرفة. عندئذ تذكّرت أنّي لم أغتسل منذ استحمامي بوادي سيلينغا، ولم أسرّح شعري منذ كياختا.
* مقتطف من كتاب "محور الذئب: من سيبيريا إلى الهند، على خُطى الفارّين من الغولاغ"؛ العمل الحائز "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" 2023 في فرع الرحلة المترجَمة. تقديم وترجمة: أبو بكر العيادي