ارتبطت العمارة المتصوّرة لمدينة بغداد الحديثة بعهدين: ملكي مع الملك فيصل الثاني في مطلع الخمسينيات، وجمهوري، خصوصاً مع تسلّم صدّام حسين مقاليد الحكم عام 1979. وهاتان المرحلتان هما صُلب معرض "مدينة السراب" في "متحف الفن الإسلامي" بالدوحة، الذي يُغطّي تاريخ العمارة في العاصمة العراقية بين عامَي 1952 و1982، ويُختَتَم يوم غد السبت، مع معرض "بغداد، قرّة العين"، ضمن حضورٍ كبير جاء لمشاهدة فعاليات "أسبوع العراق" المتواصل في المتحف.
أمّا وقد وُصفت بالمتصوّرة، فلأنها مشاريع عمارة حضرية، منسيّة ومهملة، أو مبتلَعة ومهضومة في مشاريع متعاقبة بين أنظمة حكم سحقت بعضها. يشير المعرض عبر هذه العمارة، إلى صورة متخيَّلة كان يمكن أن تُترجم على أرض الواقع، لكنّها إمّا لم تنفَّذ، وإما أنها نُفّذت جزئياً أو اندثرت. والشاهد دائماً في العراق، منذ منتصف القرن العشرين، تحولاتٌ غزيرة الدماء، أنهى أوّلُها الحكم الهاشمي بمجزرة قصر الرحاب عام 1958، ثم توالت الانقلابات وصولاً إلى سلسلة حروب مدمّرة في عهد صدّام حسين.
أُغدِق الكثير على تمويل هذه المشاريع بسبب الوفرة المالية التي عرفها العراق مع اكتشاف ثورة نفطية هائلة ترافقت مع حكم العائلة الهاشمية، وتصاعد الإنتاج وصولاً إلى وفرة مضاعفة في السبعينيات مع تأميم النفط والارتفاع المفاجئ لأسعاره. بين هذه المنعطفات، حيث الجثث المعلّقة والمسحولة والجنود المُنهكين من جبهة إلى أخرى، كانت بغداد تتلقى الوعود دوماً بأنها ستصبح عاصمة الحداثة في المنطقة، وبين عواصم دول عدم الانحياز.
منذ فيصل الثاني
احتاج هذا إلى معماريين يناسبون هذا الحيّز الجغرافي المراد له أن يكون رفيع الشأن، فاستُقطبت أسماء ذات سُمعة مدوّية، مثل الألماني فالتر غروبيوس، والأميركي فرانك لويد رايت، والسويسري الفرنسي لو كوربوزييه، والأميركي روبرت فنتوري، والإسباني ريكاردو بوفيل، والإيطالي جيو بونتي، والفلسطيني الأردني راسم بدران.
في فترة حكمه التي استمرت من 1953 حتى 1958، أوكل الملك الشاب فيصل الثاني إلى جيو بونتي (1891 ــ 1979) تصميم واحد من المشاريع المبكّرة، وهو مقرّ مجلس التنمية، الذي سيشرفان على تحسين البنية التحتية لبغداد، ومن ذلك تنقية المياه والري والسدود والخزّانات والمباني العامة والإسكان الاجتماعي.
استُلهم المبنى من برج بيريلّي الذي صمّمه بونتي في مدينة ميلانو، وتألّف من كتلتين أفقيّتَين ترتكزان على رواق عملاق يغطّي المداخل وموقف السيارات، ويقع بالقرب من جسر الجمهورية في وسط الطريق بين المدينة القديمة والمناطق الجديدة، شرق النهر. لكنّ المبنى سيتعرّض للقصف بالقنابل خلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ثم سيخضع للترميم من قِبَل وزارة الإعمار والإسكان والبلديات والأشغال العامّة عام 2008.
سفارة أميركية
يقدّم المعرض نموذج عمارة أميركية اعتُبر من أفضل ما أنجزه المهندس المعماري الإسباني خوسيه لويس سيرت (1902 - 1983)، الذي عاش منفيّاً في الولايات المتحدة إبان الحرب الأهلية الإسبانية (1936 - 1939). بين عامي 1955 و1959 أنشئت سفارة الولايات المتحدة الأميركية، وصُمم البناء على قطعة أرض ضيّقة متعامدة مع نهر دجلة في ضاحية خضراء إلى جانب سفارات أخرى ومنازل المواطنين الأثرياء في بغداد.
تموضعت الأبنية الإدارية بالقرب من المدخل، بينما كان مقر إقامة السفير بالقرب من ضفّة النهر، في حديقة ضخمة فيها مياه ونوافير وبرك مائية.
اتّبع التصميم العام مفهوم المدينة الإسلامية التقليدية من خلال تجميع المباني بعضها قرب بعض لإضفاء نوع من الظلّ يحجب أشعة الشمس الحارقة. وتطلّبت قسوة المناخ في فصل الصيف استخدام التصاميم الشبكية والأفاريز المزدوجة لتدوير الهواء.
لطالما وُعدت بغداد بأنها ستصبح عاصمة الحداثة في المنطقة
تمحور اهتمام سِيرت بشكل رئيسي حول المحافظة على برودة المباني، بدلاً من ضمان الأمن، ولهذا السبب تخلّت حكومة أميركا في النهاية عن المجمع، وانتقلت ملكيته إلى العراقيين، واستخدمه صدّام حسين، الذي كان يسكن في الجوار، مقرّاً لإقامة الزوار.
ومثل "مجلس التطوير"، لحقت أضرارٌ جسيمة بالسفارة خلال الغزو الأميركي عام 2003، حتى كادت تُهدم. وفي نيسان/ إبريل/ 2021، سُلّم البناء لمليشيا "الحشد الشعبي".
"جنة عدن"
دُعي المهندس المعماري الأميركي الحداثي فرانك لويد رايت (1867 - 1959) لبناء دار أوبرا في بغداد بناءً على توصية من رئيس الوزراء آنذاك نوري السعيد (1888 - 1958) والمهندس المعماري رفعت الجادرجي (1926 ــ 2020).
يورد المعرض لقاء رايت بالملك فيصل الثاني لأوّل مرة في كانون الثاني/ يناير 1957 لمناقشة المشروع، فسأله عن جزيرة غير مأهولة في نهر دجلة رآها من الجوّ عند وصوله إلى بغداد.
تصادف أن الجزيرة كانت جزءاً من الأراضي الملكية، فعرضها الملك على رايت لتنفيذ مشروعه الذي كان يأمل أن يضفي بعض البريق على بغداد. لم يكتفِ رايت بتصميم دار الأوبرا، في مبنى دائري تغطّيه قبّة خيالية بلمسة شرقية فحسب، بل صمّم أيضاً مركزاً ثقافياً أكبر بكثير، ضمن تطوير الجزيرة بأكملها.
أطلق على الجزيرة اسم "عدن"، في إشارة إلى جنّة عدن، واشتمل التصميم على حدائق، وسوق، ومتحف أثري، ومعرض فنّي، ومكتب بريد. وتصوَّر أيضاً نُصباً تذكارياً كبيراً للخليفة هارون الرشيد (الذي اعتقد خطأً أنه مؤسِّس بغداد). بالإضافة إلى جامعة كانت ستنافس الجامعة التي سيبدأ بناؤها في مكان قريب.
ويلاحظ القسم المخصص لـ"عدن" أنه بأكمله كان موجهاً نحو مكّة، وهو أمر غير معتاد، لأن هذا ليس موقعاً دينياً. لكنّ مشروع رايت بالجملة يعبّر عن حلم استشراقي ملوّن، يمزج بين تقاليد بلاد ما بين النهرين والتقاليد الإسلامية مع تخيّلات من قصص "ألف ليلة وليلة". وفي النهاية لم يتم تنفيذ المشروع قط.
ورشة دوكسياديس
كان المعماري اليوناني كونستانتينوس دوكسياديس (1913 - 1975)، الذي خطط مدينة إسلام إباد، عاصمة باكستان، حاضراً في بغداد إبان الخمسينيات بعد تكليفه إنشاء برنامج الإسكان الوطني في العراق ووضع المخطط الرئيسي لمدينة بغداد، من أجل التعامل مع التدفّق الكبير للمهاجرين من الريف إلى المدينة.
تضمّنت الخطّة الموضوعة إنشاء مناطق سكنية جديدة مطلّة على قنوات مبنية على جانبي نهر دجلة. قامت الطرق العريضة بتوجيه حركة المرور حول محيطها. وقد جُهِّزَت كلّ منها بكل الخدمات المطلوبة، مثل الأسواق والمنشآت الدينية والمدارس ومراكز الرعاية النهارية والمراكز الترفيهية والمناطق الرياضية في الداخل، ثم تنسيق الأحياء السكنية حول الساحات العامة. وهو أمرٌ غير معتاد في الشرق الأوسط.
بُنيت المنازل بشكل غير مكلف باستخدام التقنيات التقليدية والمواد المحلية مثل القرميد والقصب. لكن، لسوء الحظ، أدّى استخدام المشابك الخرسانية الضخمة الجاهزة، وقرار وضع الأفنية على الجوانب بدلاً من وسط المنازل، إلى تحويلها إلى ما يشبه الأفران.
دمّرت الحرب آلاف المنازل التي شيدتها شركة دوكسياديس في العراق، أو رُدمت تحت أبنية لاحقة.
مقترح "متحف الفنون الجميلة"
في عام 1954، دُعي المعماري الفنلندي الفار آلتو للمشاركة في مسابقة تصميم مبنى "البنك الأهلي العراقي". لكنّ الخطة تغيّرت، وتلقّى بدلاً من ذلك عرضاً، بعد ثلاث سنوات، لتصميم مبنى البريد والبرق، ومبنى "متحف الفنون الجميلة"، اللذين كان من المفترض أن يكونا جزءاً من مركز مدني كبير صمّمه خوسيه لويس سيرت.
ينقل المعرض من أرشيف آلتو القول: "إنه مشروع مثير. اكتشفتُ أنه بالنسبة إلى مهندس معماري مثلي ينتمي إلى بلدان الشمال الأوروبي، هناك بساطة معيّنة يمكن تحقيقها هنا. بساطة لا توجد عادة في المناخ الأوروبي، حيث يدمّر الشتاء في بعض الأحيان كلّ شيء، حتى أبعاد المباني ونسبها".
كان الهدف من المتحف هو الاحتفاظ بالمجموعة الفنّية المتميزة للأرمني كالوست غولبنكيان (1869 - 1955)، مؤسّس "شركة نفط العراق". تألّف مخطّط المتحف من مساحة عرض مفتوحة في الطابق الرئيسي، ومسرح على الطراز اليوناني على السطح. لم يتم بناء المتحف، ومجموعة غولبنكيان محفوظة الآن في العاصمة البرتغالية لشبونة.
فيليم دودوك
ما أُطلق عليه اسم "المركز المدني" هو منطقة جديدة مخصّصة للمباني الثقافية والإدارية صمّمها خوسيه لويس سيرت.
وفي سيرة هذه المنطقة سنتعرف إلى المهندس المعماري الهولندي فيليم دودوك (1884 - 1974)، الذي أرسل في عام 1958 رسالة إلى مجلّة "تايم" الأميركية يشكو فيها تجاهل الصحافة لمشاريعه الخاصة بالعاصمة العراقية.
وبالفعل، فإن المشاريع الثلاثة التي صمّمها للمركز المدني في بغداد، أي القيادة العامة للشرطة، وقصر العدل، وسِجِلّ الممتلكات ومقرّ التسويات العامة، بالكاد تُذكر اليوم.
امتلك دودوك تجربة واسعة في مجال المباني البلدية والحكومية، لكن رغم تصميم المشاريع الثلاثة بسرعة، إلّا أن بناءها لم يتم.
جامعة بغداد
كانت الجامعة المدنية العامة الأولى في العراق أحد مشاريع الملك فيصل الثاني الطموحة التي أمل منها تسريع وتيرة التقدم في البلاد. اختار لوضع مخططها الهندسي الألماني فالتر غروبيوس (1883 - 1969)، مؤسّس مدرسة "باوهاوس"، الذي كان يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1934.
تمّت الموافقة على المشروع في شباط/ فبراير 1959، لكنّ أعمال البناء سارت ببطء. توفي غروبيوس في عام 1969، فقام الاستوديو الخاص به (يحمل اسم The Architects Collaborative، أو اختصاراً: TAC) بإنهاء المشروع بمساعدة المهندس المعماري العراقي هشام منير (مواليد 1930).
مشاريع لمعماريين غربيين تأثّر بعضهم بالنظرة الاستشراقية
يشرح لنا القيّمون على المعرض مخطّط الجامعة الواقعة عند عطفة على نهر دجلة، حيث قام مخطّط غروبيوس على ثلاث دوائر متّحدةِ المركز تم ترتيبها حول ساحة مركزية بإجمالي 273 مبنى.
كان من المقرّر أن تضم الدائرة الداخلية مكتبة كبيرة وقاعة محاضرات فيها متحف للعلوم الطبيعية ومسرح ومعرض فني. خُصِّص مبنى واحد مرتفع متعدّد الطوابق للوظائف الإدارية، وتضمّنت الدائرة الثانية مهاجع منفصلة للطلّاب والطالبات، أمّا الثالثة فضمّت منشآت رياضية وملعباً. تميّز مدخل الحرم الجامعي بممرّ عالٍ سُّمي "العقل المفتوح"، في إشارة رمزية إلى مستقبل العراق التقدمي.
تظهر بدقّة المفردات المعمارية التي لجأ إليها غروبيوس لتفادي حرارة الصيف، عبر إدخال واقيات شمس وتنسيق المباني على مقربة من بعضها لتوفير الظل. كذلك خطّط لبناء النوافير ورشاشات المياه والبرك وفق الطرز السائدة. شُيِّد البناء في النهاية. وكان المخطّط مختلفاً بعض الشيء عن رؤية غروبيوس الأصلية، لكنّه لا يزال بناءً جميلاً إلى يومنا هذا.
بغداد السبعينيات والثمانينيات
عندما تولّى صدّام حسين (1937 - 2006) مقاليد السلطة في العراق، عام 1979، بدأت موجة ثانية من التحديث، ومن بين ذلك وضْع مخطّط حضري لبناء الأحياء السكنية الجديدة، والطرق العريضة التي تتقاطع مع المتاهة التقليدية لشوارع المدينة القديمة، والعديد من المباني العامة الطموحة.
صمّم بعض هذه المشاريع مهندسون معماريون دوليون بارزون، مثل الإسباني ريكاردو بوفيل (1939 - 2022) والأميركي روبرت فنتوري (1925 - 2018).
بين عامي 1979 و1983، وفي خضمّ الحرب بين إيران والعراق (1980 ـ 1988) التي توقّفت خلالها المشاريع المعمارية، ركّز مكتب المشاريع العمرانية على الضفّة الشرقية، التي كانت تُعَدّ سابقاً من المناطق النامية في بغداد.
كانت الخطة تهدف إلى استبدال تشابك الشوارع الضيّقة والمساكن المنخفضة والمكتظّة بطرق جديدة وحدائق وأماكن إقامة حديثة بناءً على توصية من المهندسين المعماريين رفعت الجادرجي وهشام مدفعي، وأُوكل إلى مهندسين معماريين أجانب تنفيذ بعض عناصر هذه الخطّة. شملت هذه العناصر منطقة باب الشيخ (نسبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني) المهملة، التي مُنحت لريكاردو بوفيل، ومنطقة شارع الخلفاء التي مُنحت لروبرت مينتوري وجون راوخ (1930 - 2022) ودينيسي سكوت براون (مواليد 1931).
صمّم هؤلاء مبنى مكيّفاً مؤلفاً من تسعة طوابق لاستيعاب المحال التجارية والمكاتب والشقق، وتضمن ملجأً من القنابل في القبو، إلّا أن البناء تأخّر بسبب تدهور الوضع السياسي وسلسلة الحروب وما نجم عن ذلك من عمليات حظر دولي. وبعد سنوات، قام فريق عراقي يوغوسلافي مشترك بتنفيذ نسخة من تصميم فيتوري الأصلي، لكن دون ألقه الزخرفي. أفلست الشركة العراقية خلال حرب الخليج عام 1991 وحلّ الخراب بالمبنى.
مسجد الدولة
في تمّوز/ يوليو 1982، أطلق صدّام حسين مسابقة دولية لبناء مسجد يتّسع لثلاثين ألف مصلٍّ. لو تمّ بناء هذا الجامع، لَكَان الأكبر في العالم، لكنّ بناءه لم يُنجَز.
تورد شروحات هذا القسم من المعرض أن صدّام حسين "اختلف" مع هيئة التحكيم حول التصميم الفائز، مشيراً إلى أنه كان "يأمل" حصول الإسباني ريكاردو بوفيل أو الأميركي روبرت فنتوري على المشروع، بينما فضّلت لجنة التحكيم راسم بدران (مواليد 1945)، الفائز الأول بالتصميم.
والأمر في خلاصة، هو فوز راسم بدران، أحد العقول المعمارية العربية المشهورة على مستوى العالم. ومع ذلك لم يكن في مشروع أكبر مسجدٍ موقّعٍ باسم صدّام حسين مجالٌ لأن "يختلف" و"يأمل" وأن "تفضّل" اللجنة معمارياً على آخَر، أمام السيد الرئيس، كما يشرح القيّمون.
المروية الأقرب للمنطق هي ما صرّح به بدران في لقاء معه، مفيداً بأن كلّ المعماريين قدّموا أمام صدّام مشروعاتهم، ثم "كان هناك اقتراح بتشكيل فريق مشترك، وتُرك الأمر للقيادة، وجرى تأجيل الأمر" عدّة مرات، إذ كانت الحرب العراقية الإيرانية تستعر.
نعرف أن المشروع بات من الماضي عراقياً، إلى أنْ جاء عام 1990، حين دعا صدّام حسين إلى مسابقة جديدة، ولم يتمكّن أي من المعماريين الأجانب المشاركة فيها بسبب الحظر المفروض بعد غزو العراق للكويت.
فاز المهندس العراقي ليث النعيمي (مواليد 1955) بالعرض، وبدأ بناء تصميمه في عام 2001، لكنّ حرب الولايات المتحدة على البلاد، التي اندلعت في عام 2003، أدت إلى إطاحة نظام صدّام. بُني المسجد، لكنْ بمساحة لا تتعدى جزءاً صغيراً من المساحة الأصلية المقرّرة لمسجد الدولة، وهو يُعرف اليوم باسم جامع أمّ القُرى.