1
ها هو الآن أبي كومةُ حجارةٍ:
كبدٌ ملتهبة. شبكة أوردة.
لحم هشٌّ وليّن. أظافر وعينان.
ذيلٌ مسائيٌّ من عظمٍ نتِن.
مجرّد جثة من الأكياس
وضلوع خرقة من الألياف
دون هواء أو عشب.
وها هو جلده الخشن،
اسمنتُ الجمجمة التي انتزعوا الروح من وجهها.
والآن من حنجله السرّي
صارت الكلمات فارغة،
كومة حجارة لا غير.
2
أُغنيةٌ بلا أرض. ريحٌ عاصفة.
أرضٌ في الملح، غضاريف
وطريقٌ مجنون وقديم.
من هنا مشى مَن يمشي.
من هنا لم يعد أحد موجوداً
إلّا أشلاء حصىً مقفرة وحراشف دون بذور
تسقط وحيدةً على قمّة النهر.
أُغنيةٌ صامتة هو البحر
يصرخ صامتاً قرب جسده
ويفتح باب التأمُّل
من تلك النوافذ الدائرية والزائغة على كلّ ضوء
حيث لا يمكن رؤية إلّا سقف تلك الغرفة،
أنّى الهواء معلّقٌ وقابلٌ للانكسار.
وفي اللحظة السابقة كان الحلم ــ طوبى لحياتي ــ
ورؤى الألغاز الآسرة.
وفي الكرسي يدان مفتوحتان
وهي الآن بعلوّ النخيل،
النخيل الذي يُجاور القلب المصنوع من الخرق المخنوقة
والأشلاء الراقدة على طينٍ أحمر.
أشلاءٌ لا حناجر لها،
أرض جرداء وخيوط بلا فائدة
جثة بلا رائحة،
نسيجٌ حيوانيٌّ جافّ ونحيل
وألياف لا اسم لها.
إنها أليافُ ومزامير الموت،
مرثيّة غير منتهية.
إنّها كومة حجارة على الأرض،
ما قالته مرّةً وما عكسته:
صورة أبي
جسده الراقد،
تلك المرآة العبثية الخالية من الزئبق.
أريد أن أجمع أشلاءه كما لو كانت له.
ولكن كلّ ما كانَ
ليس إلا كومة حجارة على هذه الأرض.
3
الشيء الوحيد الذي يتلألأ
أو ربما كان ظلّه
هو رداء غبار شبابه ذي الحجر الجاديّ الأخضر.
الجسد الذي صار كومة حجارة هناك،
رملاً لا تريد الشطآن أن تعود إليه.
غير أنَّ الأخضر في هيجانهِ العشبيّ النازف دماً
يفتح مسارات في ذاكرتي
حيث تتكسّر سيقان الجذر
ولا يبقى سوى حقل من أجل القمح
وهو ليس في هذين اليدين.
ربما تصبح بعض الكلمات ريحاً
لا هذا التشنُّج في لساني،
بل قوس تقلّص عضلي.
شمسٌ تتلاشى في أحشائه السوداء
بين جسده أو ما كان يوماً وبين الأجفان.
بين السوائل الزلالية والبوتاسيوم والغضب،
بين دخان العينين المبتورتين،
الدخان الذي يكتب خطواتي
كي لا أكون وحيداً.
من يده بدأت دائرة الغرفة المخنوقة أمام جثّة.
يده الساخنة التي لا تزال ليلاً
يده التي لا أراها، لكنني أراه فيها.
لا بردَ، لا حرّ.
لا سبب لهذا السّهم الذي رمته تلك القوس.
الآن أرفع عينيّ وأنظر إليه
كومة حجارة
وأُغنّي أمام موقد حرْق جثته
هذا الصخب الموسيقي عندما كنتُ طفلاً.
4
بعد كلّ هذا الرماد على الشفاه
أستطيع أخيراً أن أتحدّث
أن أتخلّص من هذا الجسد الذي احتلّ عيني.
الدماغ يجري على ضفة النعش
الطبعُ السائل، والألياف، والأسنان.
الألياف الرطبة والجافة للأشلاء.
لم يكن هناك أيّ شيء. والآن أقلّ من كلّ شيء.
أخيراً يفتح أبي الباب
ويصل منذ سنةٍ، قبلي، بيومين.
جسده، صوته، وعينا العالَم
مدارات تدور في عيني
وعظامٌ ودمٌ ونبضُ بحرٍ هائجٍ ومتجدّد.
النبع نفسه الذي نراه اليوم يتفجّر من هذه الحجارة.
5
دائماً أعود إلى الحيرة بين كلماتك،
إلى شمس الدخان الذي صار اليوم
البيت الذي لا تسكنُ فيه.
الآن، بما أنكَ لستَ بيننا،
أفكّرُ أننا لم نكن مع أحد،
أنَّ هذه العزلة ليست ظلّاً
بل شعاعٌ ينزع بضوئه ريش المخيّلة،
وأن العظام تكاد أن تقودنا في هذا العالم
بإفرازاتها المفصلية المتشظّية وإحساسها العاري من الجسد.
لا عطش في هذا الماء السائل
ولم يبق لنا إلا أن نتكلم وحيدين.
6
لأولئك الذين يحملون المفاتيح
يوجد قفلٌ قديم في الليل.
عند عبور اللهب الشمسي لكلماته
ينقلب علينا نصف الكرة الآخر من الوعي.
يكفي أن نفتح نافذة لكي نتحدّث مع الموتى،
صعدوا من النهر الذي يبلّل الشفاه
ولكي نقول أسماءهم يجب أن ندير المفتاح
ولكي ندير المفتاح يجب أن نقول أسماءَهم.
7
أخرج من جسدي وأمشي الليل.
كلُّ ما لا أريده أنْ أكتبَ الآن ما أكتبه،
إنْ فكّرت
فسأحرق نفسي.
8
الماء يصير حجراً أمام عيني
الكلمات تتكرّر أمام البحر
وقفص النسر يتحرّر مِن الطير.
الماء يكنز قبوراً وشواهدَ
في شجرة الوعي.
كلّ شيء في هذا الوادي يطردنا،
وحدها الشمس
هي الثمرة التي لم أتذوّقها حتى الآن.
9
أكتب هذه الأبيات اليائسة
ليس بالنار، بل بالرماد.
برماد عظامي وريحٍ تعصف غضباً صوب أعماقي.
حزني يوحّد الأسود والرمادي
الليل والغبار
ولغتي الآن جثّةٌ ترقد تحت الصباح.
الحنجرة صمتٌ مرة أُخرى
والبرتقال،
عتمةٌ متوهّجة.
ولا شيء لي إلّا السواد،
هذا النسر الذي صار جسداً لجسدي.
لا يطير. يزحف دون دم
ويُحصي في مكنسته الكربونية جذع الأيام المشتّتة
وشجر السنديان.
إنه ضوء في الرماد.
لك مني صوت موتك الطائر،
لك مني أبجدية الغبار.
10
عمّن تبحث هذه الأحرف؟
من أين يخلق هذا القلق الأسود؟
من أيّ طريق ليلي؟
متى سنصل إلى تلك الأناشيد الجارحة،
إلى تلك المياه الجوفية والأسئلة
والكثيرِ من الأسئلة؟
الطقس البنّي بلا قبر يملأ هذا الفراغ،
بلا صوت أو أي شيء كي لا يمزّق أوراق اسمك المضطربة.
وها أنا أبحث عن حضورك
ولا شيء ينهض على قلبي.
وكل شيء نائم:
الأيام، الأبواب، والبحر والحيوانات
مع ذلك تسكنني بلا جلد، بلا مواء،
جوقة الأحزان.
أيّة موسيقى تنتظر هنا أوتارَ حبالك المخنوقة؟
بطاقة
Roberto Amézquita شاعر مكسيكي، من مواليد 1985 في العاصمة مكسيكو. صدرت له ثلاثُ مجموعاتٍ شعرية، هي "ملاحظات تذوُّق" (2010)، و"أشعار ساخرة ومؤذية" (2016)، و"أمام جثمان"، الصادرة هذا العام (ومنها القصائد المترجمة هنا). حصل، عام 2010، على "جائزة لويس بافيا الوطنية للشعر" عن مجموعته "ملاحظات تذوُّق"، وهو أحد محرري الموقع المكسيكي Círuclo de poesía ("دائرة الشعر")، الذي يُعَدّ أيضاً دارَ نشر مختصّة بالشعر.
* ترجمة عن الإسبانية: جعفر العلوني