- يسلط الضوء على تأثير هذا النمط على العمل والعمال الفلسطينيين، مع استراتيجيات لإقصائهم وتدمير قدرتهم على البقاء من خلال سلب الأرض والسيطرة على الاقتصاد.
- يناقش الأثر العميق للنيوليبرالية على القضية الفلسطينية، موضحًا كيف أدى تبني هذا النهج إلى تعزيز الاعتماد الفلسطيني على الاقتصاد الإسرائيلي وتحويل القضية إلى مشكلة تُدار بالتنسيق مع المستعمر.
لئن قام منطق الاستعمار الاستيطاني على سلبِ الأرض وإقصاء السكّان الأصليين وإحلال مستوطنين بدلاً عنهم، فإنَّ حالة الاستعمار الإسرائيلي تشهد مسارات مختلفة، إذ لم ينجح مشروعها في محو السكان الأصليين (نماذج أميركا وأستراليا ونيوزلندا)، لكنّه أدار بنى جديدة للسلب تنتج الموت البطيء في سياق المزج الحاصل بين الاستعمار الاستيطاني والنيوليبرالية.
النيوليبرالية تندمج مع هذا الاستعمار وتقدّم وجهاً جديداً من أوجه العنف الاستعماري. وهذا ما قامت عليه مقاربة إيهاب محارمة الباحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ضمن السيمنار الأسبوعي، بعنوان "مسارات السلب ومسارات المقاومة في عصر الاستعمار الاستيطاني النيوليبرالي"، والذي عقد الأربعاء الماضي.
ركّزت الورقة على سلب العمل والعمّال الفلسطينيّين العاملين في الاقتصاد الإسرائيلي ومقاومتهم، وتدمير قدرة الإنسان الفلسطيني على أرضه، وكانت الضفة الغربية مجال بحثه واستقصائه الميداني.
تندمج النيوليبرالية مع الاستعمار وتقدّم وجهاً جديداً منه
يطرح الباحث منظوره حول العمل والعمّال في سياق الاستعمار الاستيطاني بوصفه أداة للإقصاء وإنتاج الموت وتحقيق تراكم من خلال ذلك، وكذا التفكير في منطق المقاومة الجديد الرافض للنيوليبرالية والاستعمار الاستيطاني والذي يظهر في ممارسات يومية متعدّدة ومتناقضة يسعى من خلالها الفلسطينيّون إلى مواجهة سلطة المستوطنين، وفرض سيادة متداخلة يتحدّون فيها السيادة الاستعمارية والنيوليبرالية على الأرض.
وتبنّى الباحث فكرة مفادها أنَّ "إسرائيل" استعمار استيطاني أنشأ نظام أبارتهايد، كما يقول المفكّر عزمي بشارة، وأنَّ هذا النظام منذ التسعينيات أعاد بشكل مُمنهج صياغة العلاقة بين الاستعمار الاستيطاني والنيوليبرالية، كما يعتقد أندي كلارنو، أستاذ علم الاجتماع والدراسات الأميركية والأفريقية.
وقد بات هذا النظام، وفق رؤيته، واضحاً في معالمه القانونية والإدارية مع توقيع "اتفاقات أوسلو" عام 1993، وتجلّى هذا الوضوح بشكل أكبر بعد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2005، مع إنشاء بنية تحتيّة لتشغيل نظام الأبارتهايد. إذاً، لم يكن الغرض من إنشاء هذا النظام الفصل والتمييز بين المستوطنين والفلسطينيّين، بل إنَّ الإقصاء هو المنطق الناظم لممارسات تضمن أكبر قدر ممكن من الأرض مع أقل عدد ممكن من الفلسطينيين.
قبل الوصول إلى إنتاج الموت البطيء أو النزيف الوجودي الفلسطيني، ينطلق محارمة من حقيقة أنَّ 92% من الفلسطينيّين حُشروا في منطقتي ألف وباء اللتين تشكلان قرابة 36% من مساحة الضفة الغربية. هذا يعني أنَّ المدن والمخيّمات تحوّلت إلى معازل مُحاطة بحواجز عسكرية مع منع أشكال الحياة في المناطق جيم، في الوقت الذي رُبطت فيه المستوطنات بطرق مع المدن الإسرائيلية حتى أصبحت أشبه بضواحي هذه المدن. وبالطبع لم يتجاهل البحث جدار الفصل الإسمنتي (بدأ بناؤه في عام 2002) قائلاً إن المعازل وطرد السكان وجه أول من وجوه السلب.
أما داخل هذه المعازل فكيف يجري السلب؟ يجيب بأن "إسرائيل"، بعد فرضها الأمر الواقع بحصر الفلسطينيين في معازل، فإنّها تعمل على إقصائهم ومحوهم بشكل مُمنهج، وتدمير قدرتهم الفردية والجماعية على البقاء في الأرض، وحرمانهم من فرصة العيش كمجتمع متماسك، فضلاً عن تجريدهم من القدرات اللازمة لمقاومة هذا الواقع.
ومما عالجه الباحث السلب بالمعنى الاقتصادي، فالنهج النيوليبرالي الذي تبنّته السلطة الفلسطينية في الضفة في ظلّ التناقض مع السلطة في غزّة، قد أنتج نظاماً يرى إدارة المؤسّسات العامة بالمنطق الأمني. ولأنَّ الاستعمار الاستيطاني النيوليبرالي يقدّم استراتيجيات مبتكرة مقارنة بتجارب استعمارية لم تُعاصر النيوليبرالية، لاحظ الباحث أن السلطة إلى جانب إدارتها التعليم والصحة وغير ذلك، انخرطت في مراقبة الفلسطينيين وضبط سلوكهم بالتنسيق مع المستعمِر، وكان هذا واضحاً مع تمكّن التكنوقراط والقادة النيوليبراليين في المؤسّسات الدولية المانحة من بيع النيوليبرالية بوصفها وصفة لإنهاء الاستعمار وبناء الدولة.
أدّى هذا، وفق ما يخلص، بعد الانتفاضة الثانية (2000 - 2005) إلى تعزيز "إسرائيل" اعتماد الفلسطينيّين على العمل والاستهلاك أكثر في السوق الإسرائيلية، مع ضرورة إبقائهم معتمدين على المنح والمساعدات الخارجية. وإذا أخذنا إشادة المؤسّسات المالية بالسلطة الفلسطينية ومؤسّساتها، فإن الاقتصاد الفلسطيني لم يتمكن من الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي. هذا أمر يعاينه محارمة في تفاصيل عديدة، لكن أبلغها هو ما تقوله الأرقام، فالفلسطينيون منذ 1993 تلقّوا أكثر من 45 مليار دولار مساعدات مالية من المانحين، ومن كل دولار واحد يذهب 72 سنتاً إلى الاقتصاد الإسرائيلي.
ورأى الباحث تعمّق النهج النيوليبرالي المعتمد على التنسيق الاقتصادي ليصبح الخيار الأكثر براغماتية للنخب الاقتصادية والسياسية وتحول القضية الفلسطينية بالنسبة إلى هذه النخب إلى مشكلة تقنية. ليس هذا فحسب، بل قرأ الباحث في المشهد وجود بعض الفلسطينيين العاديين الذين أمّنوا عبر هذا التحوّل طريقهم للصعود الاجتماعي، وبرز ذلك مع صعود الاستهلاك المدفوع بالديون والصناعات الخدمية وغير ذلك، مما يعني أنَّ هذا النهج لم يعد يفسر سلوك النخبة السياسية، بل انتشر إلى طبقات أخرى، كما يقول.
واستعاد محارمة فترة زمنيّة تأسيسية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، التي تشكّل فيها اندماج رأس المال الإسرائيلي مع الأميركي، ولا سيّما في مجالات الصناعة الأمنية والعسكرية، ما لعب دوراً مهماً في تحول الاقتصاد الإسرائيلي لهيمنة الصهيونية النيوليبرالية. كما أن انتصار الليكود عام 1977 عزّز في تعجيل عملية التحرير الاقتصادي، إذ بنَت النخب الإسرائيلية رؤاها على أنّ النيوليبرالية وسيلة للاستفادة من رأس المال الغربي في ما يتعلق بالمشروع الاستعماري الاستيطاني في فلسطين.
وفقاً لذلك قال إنه لم يكن مصادفة النظر إلى "اتفاقية أوسلو" بوصفها فصلاً من فصول النيوليبرالية، وهي التي جاءت بوعود لـ"إسرائيل" بتحقيق عوائد اقتصادية من خلال الاستثمار الدولي وفتح أسواق تمت أصلاً مقاطعتها بالنسبة لهم. ومن الدلائل التي يسوّقها على كيفية عمل النيوليبرالية والتقائها مع الاستعمار الاستيطاني، وصول بنيامين نتنياهو إلى السلطة عام 1996، وقد عمل جاهداً على تطبيق أفكاره النيوليبرالية عن السلام الاقتصادي، بوصفها وسيلة لإقصاء الفلسطينيين ومحوهم.
وفي سياق السعي لسلب الأرض والسكان، يأتي فهم الباحث لسلب العمل والعمّال، ويجادل بأنّه بخلاف ديناميات الدمج القسري للفلسطينيّين واقتصادهم بالاقتصاد الإسرائيلي منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، استخدمت "إسرائيل" إعادة الهيكلة النيوليبرالية، منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، تحديداً لإنتاج أنماط من السلب "الناعم" لإقصاء الفلسطينيين ومحوهم.
ثمة نمطان يبسطهما الباحث، يتعلّقان بإحكام السيطرة على أجساد الفلسطينيّين: الأول يظهر فيه الفلسطيني بوصفه ملفّاً أمنياً ترافق في السنوات الأخيرة مع تغيّر في طبيعة الحصول على تصاريح العمل والمرور من المعابر والحواجز الإسرائيلية، وتنشيط ظاهرة وسطاء وسماسرة العمل والتصاريح، ونصب كاميرات عالية الجودة في المزارع والمصانع والمطاعم والمرافق الخدمية التي تشغل عمالة فلسطينية وصولاً إلى فرض العديد من التطبيقات في هواتف العمال.
كانت "اتفاقية أوسلو" فصلاً من فصول النيوليبرالية
أما النمط الثاني فهو عمل الفلسطينيين في مشاريع داخل الضفة الغربية في حقول صناعية وخدمية وزراعية ضمن المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية. ويفصّل في ذلك القول إنّ الضفة تضم أربع مدن صناعية، وكل مدينة مدعومة من حكومة إقليمية أو دولية ويتراوح عدد المصانع بين ثلاثين وخمسين مصنعاً.
وبحسب قائمين على بعض المصانع، فإنَّ السلع موجهة للسوق الإسرائيلية مستفيدة من برنامج يدعى "من باب لباب" Door to Door، بدأ تنفيذه عام 2018، وتنقل فيه الشاحنات الإسرائيلية البضائع من باب المصنع الفلسطيني إلى المستورد الإسرائيلي دون الاضطرار للخضوع للتفتيش المطول على الحواجز، تحت سلطة فلسطينية بوصفها شريكاً اقتصادياً.
لكن الحال المُفزعة التي يسلّط الباحث عليها الضوء هي خضوع هذه المصانع لشروط "إسرائيل" في التوظيف تتضمن عدم تشغيل مقاومين أو من لهم تاريخ مقاوم أو مؤيدين للمقاومة، كما تلزم المصانع بتركيب كاميرات مراقبة داخل المصانع وفي محيطها تعمل على مدار الساعة وموصولة بقواعد مراقبة تابعة للجيش الإسرائيلي، كما تشرف على تدريب عناصر شركات الحماية الأمنية. بهذا المعنى فإن أي فلسطيني يبدي رأياً يعبر فيه عن موقفه السياسي داخل مصانع في أرض تديرها السلطة الفلسطينية سيجعله عرضة للطرد من العمل.
ولقد واجهت الباحث عبارة سمعها من غالبية من التقاهم من العمل تقول "هذا الشغل أعدم حياتي"، وهي على بساطتها كما يضيف، تعكس بعداً آخر لتشابك الاستعمار الاستيطاني مع النيوليبرالية.