ينطوي "كتاب البُلدان" للرحّالة والمؤرّخ الشهير اليعقوبي على معلوماتٍ وأخبار غاية في النُّدرة عن أحوال مصر في العصر الذهبي للدولة العبّاسية، ويشير وصفه الذي استقاه من مشاهداته الشخصية إلى ازدهار العمران في مصر، وكثرة مُدنها وأريافها ومحاصيلها ومصنوعاتها. وعلاقاتها التجارية مع بلاد النُّوبة والبجَة. واليعقوبي هو أبو العباس أحمد بن إسحٰق بن جعفر بن وهب بن واضح، كاتب ومؤرّخ وجغرافي عاش في القرن التاسع الميلادي. وُلد في بغداد وقضى بعض حياته في أرمينية وخراسان، ثم سافر إلى الهند، والمغرب، ومصر حيثُ رحل إليها سنة 284 للهجرة/ 897 للميلاد.
يُعدّ اليعقوبي من كتّاب الدواوين الذين استفادوا من الوثائق التي تعاملوا معها في تأليف كتُبهم، وله كتابٌ شهير في التاريخ يسمّى "تاريخ اليعقوبي" يغطّي تاريخ الشعوب ما قبل الإسلام، وتاريخ الإسلام حتى سنة 258هـ/ 872م، و"كتاب البُلدان" الذي اقتبسنا منه هذا النص.
يستخدم اليعقوبي مصطلح الكورة في حديثه عن أقاليم مصر، وهو مصطلح يوناني يقول ياقوت الحموي إنه يعني "كلّ صقع يشتمل على عدّة قرى". كما أنه ميّز بين تسميتين لأقباط مصر، فأقباط الصعيد كانوا يسمَّون المريس، وأقباط الوجه البحري كانوا يسمَّون البَيَما، وهو المصطلح نفسه الذي كان السريان يستخدمونه عند حديثهم عن مسيحيّي الوجه البحري البياميا، أي سكّان البحر، فالباء هي اختصار المكان، ويام تعني البحر.
الوجه البحري
ويقول اليعقوبي إن كور مصر منسوبة إلى مدنها، لأنّه؛ لكلِّ كورة مدينة مخصوصة بأمر من الأمور، فأمّا مدن مصر التي بأسفل الأرض، أي الوجه البحري، "فأوّلها مدينة أتريب، ولها كورة واسعة، وبها القرية المعروفة بِبَنها التي بها العسل الموصوف، ثم مدينة عين شمس، وهي مدينة قديمة يقال إنّ بها مساكنَ لفرعون، وبها آثارٌ عجيبة، وفيها مسلّتان شاهقتان عظيمتان من حجارة صلدة، مكتوب عليهما باللسان القديم، يقطر من رأس إحداهما ماءٌ لا يُدرى ما سببه. ثم مدينة نتو، ومدينة بسطة ومدينة طرابية، ومدينة قربيط، ومدينة صان، ومدينة إبليل، هذه التسع المدن تسمّى كور الحوف. ثم مدينة بنا، وهي مدينة جليلة قديمة، ومدينة بوصير، وهي نظيرة بنا في العظم والجلالة، ومدينة سمنّود، ومدينة نوسا، ومدينة الأُوسية، وهي مدينة دميرة، ومدينة البجوم، وهذه الستّ المدن في الجانب الشرقي من النيل، تسمّى كور بطن الريف. ومدينة سخا، ومدينة تيدة، ومدينة الأفراحون، ومدينة طوّه، ومدينة منوف السُّفلى، وهذه المدن والكور السبع في جزيرة من النيل بين خليج دمياط وخليج الغرب".
وينتقل للحديث عن المدن التي على ساحل البحر المالح، وهو البحر الأحمر، فيقول إنّ أوّل مدن هذه الجهة: "الفرما، وهي المدينة القديمة التي تدخل إلى مصر منها، ثم مدينة تنّيس، يحيط بها البحر الأعظم المالح، وبحيرة يأتي ماؤها من النيل، وهي مدينة قديمة تعمل بها الثياب الرفيعة الصفاق والرقاق، من الدبيقي والقصب والبرود والمخمل والوشي، وأصناف الثياب، وبها مرسى المراكب الواردة من الشام والمغرب، ثم مدينة شطا، وهي على ساحل البحر، وبها تُعمل الثياب الشّروب الشّطويّة، ثم مدينة دمياط، وهي على ساحل البحر، وإليها ينتهى ماء النيل ثم يفترق من دمياط، فيخرج بعضه إلى بحيرة تنّيس، وهي بحيرة تجري فيها السُّفن والمراكب العِظام، ويجري باقي ماء النيل إلى البحر المالح، وتُعمل بدمياط الثياب الصفاق الدّبيقيّة، والثياب الشّروب والقصب".
ويضيف: "ومدينة بورة هي حصن على ساحل البحر من عمل دمياط، تُعمل بها الثياب والقراطيس (ورق البردي المستعمل للكتابة)، ثم حصن نقيزة على ساحل البحر، ثم مدينة البرلس على ساحل البحر المالح، وهي موضع الرباط، ثم مدينة رشيد، وهي مدينة عامرة آهلة، لها مينا يجري فيه ماء النيل إلى البحر المالح، وتدخله المراكب من البحر حتى تصير في النيل، ومدينة إخنو، وهي على ساحل البحر، والمدينة التي يُقال لها وسيمة وتُعمل بها القراطيس".
الإسكندرية ومنارتها العجيبة
وينتقل بعد ذلك للحديث عن مدينة الإسكندريّة التي يصفها بالمدينة العظيمة الجليلة التي لا توصف سعة وجلالة وكثرة آثار الأوّلين، ويقول: "من عجائب الآثار التي بها المنارة التي على ساحل البحر على فوهة المينا الأعظم، وهي منارة متقنة محكمة، طولها مائة وخمس وسبعون ذراعاً، وعليها مواقيد توقد فيها النيران، إذا نظر النواظير إلى مراكب في البحر على مسافة بعيدة، وبها مسلّتان من حجارة مجزّعة، على سرطانات نحاس، وعليهما كتاب قديم. وآثارها وعجائبها كثيرة، ولها خليج يدخله الماء العذب من النيل ثم يصبُّ في البحر المالح". يتابع قائلاً إن "للإسكندرية من الكور ممّا ليس على ساحل البحر المالح، وهو على ساحل خلجان النيل كورة البحيرة، وكورة مصيل، وكورة المليدس، وهذه الكور على خليج الإسكندريّة الذى يدخل المدينة، وكورة ترنوط، وكورة قرطسا، وكورة خربتا، وهي أيضاً على هذا الخليج، وكورة صا، وكورة شباس، وكورة الحيّز، وكورة البدقون، وكورة الشراك، وهذه الكُور على خليج من النيل يقال له النّسترو. وللإسكندرية بعد ذلك من الكور كورة مريوط، وهي كورة عامرة ولها كروم وشجر، ولها ثمار موصوفة، ثم كورة لوبية، ثم كورة مراقية، وهاتان الكورتان على ساحل البحر المالح، ينزل أداني قراها قومٌ من بني مدلج من كنانة، وينزل أكثرها قوم من البربر، وبها قُرى وحصون".
بلاد الصعيد
بعد ذلك ينتقل للحديث عن مدن الصعيد فيقول إنّ أهمها هي مدينة منف، وهي مدينة ممفيس الشهيرة التي يقول إنها: "مدينة قائمة خراب يقول أهل مصر إنّها المدينة التي كان فرعون يسكنها". ويضيف: "ومدينة بوصير كوريدس، ومدينة دلاص، وإليها تنسب اللجم الدلاصيّة، ومدينة الفيّوم، وكان يقال في متقدّم الأيّام مصر والفيّوم لجلالة الفيّوم وكثرة عمارتها، وبها القمح الموصوف، وبها يعمل الخيش، ومدينة القيس، وبها تُعمل الثياب القيسيّة والأكسية الصوف الجياد، ومدينة البهنسا، وبها تعمل الستور البهنسيّة، ومدينة أهناس، وبها تعمل الأكسية، وبها شجر اللّبخ، ومدينة طحا، وبها القمح الموصوف و الكيزان (جمع كوز إناء لشرب الماء) التي يسمّيها أهل مصر البواقيل، وأنصنا، وهي مدينة قديمة يقال إنّ سحرة فرعون كانوا منها، وإن بها بقيّة من السّحر، وهي في الجانب الشرقي من النيل، ومدينة الأشمونين، وبها فرهة الخيل والدواب والبغال، وهي من مدن مصر العظام، ومدينة أسيوط، وهي من عظام مدن الصعيد، بها يعمل الفرش القرمز الذى يشبه الأرمنيّ، وقهقاوة، وبها مدينة قديمة يقال لها بوتيج، ومدينة يقال لها بشمور بها القمح اليوسفىّ المجزّع، ومدينة إخميم، وهي في الجانب الشرقي من النيل، ولها ساحل، وبها يعمل الفرش القطوع والجلود الإخميميّة والدّير المعروف بدير بو شنودة. ويقال إن فيه قبر رجلين من حواري المسيح".
ويتابع اليعقوبي تعداد مدن هذا الجانب، وكأنه ينقل من وثيقة إدارية: "مدينة أبشاية يُقال لها البلينا، ومن أبشاية تسلك إلى الواحات في مفازة وجبال خشنة ستّ رحلات، ثم إلى الواحة الخارجة، وهي بلاد فيها حصون، ومزارع وعيون مطّردة، ومياه جارية، ونخل وأصناف الشجر والكروم، ومزدرع أرزّ، وغير ذلك، ثم إلى الواحة الداخلة، ولها مدينة يقال لها الفرفرون، وأهلها أخلاط من الناس، من أهل مصر وغيرهم. ومن مدينة أبشاية التي يقال لها مدينة البلينا إلى مدينة هو، ومدينة هو مدينة قديمة كان بها أربع كور، كورة هو، وكورة دندرة من غربىّ النيل، وكورة فاو، وكورة قنا من الجانب الشرقيّ، فخربت وقلّت عمارتها لكثرة من يخرج إليها في الناحية من الأعراب والخارجين وقطّاع الطريق، وانتقل الناس عنها إلى ما هو أعمرُ منها، ومن مدينة هو إلى مدينة قفط مرحلتان، وهي مدينة في الجانب الشرقي، فيها آثار الملوك المتقدّمين".
مناجم الذهب والحجارة الكريمة
ويشير اليعقوبي إلى مناجم استخراج الذهب والأحجار الثمينة التي يسمّيها معادن بمعنى مناجم، فيقول: "من قفط تسلك إلى معادن (أي مناجم) الزمرّذ، وهو معدن (منجم) يُقال له خربة الملك على ثماني رحلات من مدينة قفط، وفيه جبلان يُقال لأحدهما العروس، وللآخر الخصوم، فيهما معادن الزمرّد، وفيه موضع يقال له كوم الصّابوني، وكوم مهران، ومكابر، وسفسيد، وكلّ هذه معادن يوجد فيها الجوهر".
ويضيف: "تسمّى الحفائر التي يخرج منها الجوهر شيم، واحدتها شيمة، وكان بها معدن قديم كان في الجاهليّة، وكذلك معدن مكابر، ومن المعدن الذي يقال له خربة الملك إلى جبل صاعد، وهو معدن تبر مرحلة، وإلى الموضع الذي يُقال له الكلبي موضع يقال له الشّكري، وموضع يقال له العجلي، وموضع يقال له العلّاقي الأدنى، وموضع يقال له الرّيفة، وهو ساحل بحر خربة الملك، وكلّ هذه معادن تبر ومن الخربة إلى معدن يقال له رحم معدن تبر ثلاث مراحل، وفي رحم قوم من بلي وجهينة وغيرهم من أخلاط الناس، يقصدون للتجارات، فهذه معادن الجوهر وما يتّصل بها من معادن التبر القريبة".
ويقول إن في مدينة أسوان العُظمى تجّار المعادن، "وهي في الجانب الشرقي من النيل، وهي ذات نخلٍ كثير ومزدرع، وتجارات ممّا يأتي من بلاد النُّوبة والبجَة، وآخر مدن بلاد الإسلام من هذه الناحية مدينة في جزيرة وسط النيل يقال لها بلاق، عليها سور حجارة، ثم حدّ بلاد النوبة بموضع يقال له القصر على مقدار ميل من بلاق".
ويستطرد اليعقوبي في ذكر مناجم الذهب خارج أسوان باتجاه وادي العلاقي الذي كان يعجُّ بقبائل العرب مثل جهينة وبلي وربيعة من بني حنيفة وبني سليم وغيرهم من مُضر، ثم يتحدّث عن ميناء عيذاب على ساحل البحر المالح (أي البحر الأحمر)، حيث يركب الناس منه إلى مكّة والحجاز واليمن، ويأتيه التجّار فيحملون التبر والعاج وغير ذلك في المراكب.
ويوضّح أن شرب مصر وجميع قراها من ماء النيل صيفاً وشتاءً. ويقول: "يزيد في أيّام الصيف، ويأتي من أرض علوة مخرجه من عيون، وزيادته من أمطار تأتي في الصيف فينتشر على وجه الأرض حتّى يطبق جميع الأرضين، ثم يبتدئ نقصانه في شهر من شهور القِبط يقال له بابه، وهو تشرين الأوّل، فيبتدئ الناس بالعمارة وزرع الغلّات، لأنّ أرض مصر لا تمطر إلّا المطر اليسير، إلّا ما كان منها على السواحل وعجم مصر جميعاً القبط، فمن كان بالصعيد يسمّون المريس، ومن كان بأسفل الأرض يسمّون البيما".
بلاد النُّوبة
بعد ذلك يتحدّث عن بلاد النُّوبة التي يُقال لأهلها علوة، فهي بعيدة عن أسوان ثلاثين مرحلة، بعضها إلى كباو، ثم إلى موضع يقال له الأبواب، ثم إلى مدينة علوة العُظمى التي تسمّى سوبة، وبها ينزل ملك علوة. ويقول إن المسلمين يختلفون إليها (يزورونها)، ومنها يأتي خبر ابتداء النيل. ويقول: "في الجزيرة التي بأرض علوة مثل ما بجزائر السند من الفيلة، والكركدنّات، وأشباه ذلك، وفى نهر مهران التماسيح كما في نيل مصر، ومن أسوان إلى أوّل بلاد النوبة الذين يُقال لهم مقرّا، وهو موضع يقال له ماوا، وبهذا الموضع كان زكريّاء بن قرقى خليفة أبيه قرقى ملك النوبة، ومن ماوا إلى مدينة النوبة العُظمى التي ينزلها ملك النوبة، وهي تسمّى دنقلة، ثلاثون مرحلة".
بلاد البجَة
"ومن العلّاقي إلى أرض البجَة (أي إريتريا الحالية) الذين يسمَّون الحداربة والكدنين خمسٌ وعشرون مرحلة، ومدينة ملك البجَة الحداربة يُقال لها هجر، يأتيها الناس من المسلمين للتجارات، والبجَة ينزلون خيام جلود، وينتفون لحاهم، وينزعون فلك ثدي الغلمان لئلّا يشبه ثديهم ثدي النساء، ويأكلون الذُّرة وما أشبهها، ويركبون الإبل ويحاربون عليها كما يحارَب على الخيل، ويرمون بالحراب فلا يخطئون، ومن العلّاقي إلى أرض البجَة الذين يقال لهم الزّنافجة خمس وعشرون مرحلة، والمدينة التي يسكنها ملك الزنافجة يقال لها بقلين، وربّما صار المسلمون إليها للتجارات، ومذهبهم مثل مذهب الحداربة، وليس لهم شريعة إنّما كانوا يعبدون صنماً يسمّونه ححاخوا".