أمس، رحل مظفّر النوّاب (1934 - 2022) بعد أن لاحقته شائعة الموت طويلاً. ورحيلُ الشعراء بصورة خاصّة يترك في ثقافتنا العربية حزناً طالما عرفناه مع رحيل شعراء مؤثرين في الوجدان الجمعي؛ إذ لا يزال الشعر يحمل الوجدان العامّ لهذه الثقافة، وهو ما يتأكّد عند رحيل الشعراء الذين عاشوا نجوماً، والنوّاب أحد النجوم الغاربة الآن.
وصل مظفّر النوّاب إلى القارئ غير العراقي من خلال القصائد المسجَّلة، وقد أثّر في المتلقّي إلقاءً، ذلك لأنّ إلقاءه ذلّل إلى درجة كبيرة صعوبة التقاط العامّية التي كَتب بها إلى جانب الفصحى؛ إذ ما إن يلتقط المتلقّي كلمات قليلة، حتّى يلحق بالشاعر الذي يبدو قادماً من مكان خاص في اللغة والتجربة. ذلك أنّ حزن النوّاب يقيّدُ المرء ويأسره، ونزقه وغضبه في القصائد السياسية يستنفر قوى المتلقي. كما يخلق النوّاب لدى من يسمعه ذلك الفضول لمعرفة كلّ المفردات التي يقولها، كلّ تلك التراكيب والصُّوَر التي تتدفّق بدءاً من أهوار العراق من غير أن يبدو أنّ لها نهاية. فالنوّاب شاعر غزيرٌ بالفطرة، وهو من القلّة الذين استطاعوا إشاعة العاميّة العراقية في الشعر والأدب عموماً. وقد ساهمت طريقته في الإلقاء في نجاحه الكبير في القصيدة الشعبية. يُلقي قصيدته كما لو أنّها آخر شيء يريد أن يفعله في حياته. ينفعل وينكسر، يصرخ ثمّ يقرأ بصوتٍ شجيّ يكاد يصير همساً.
يمكن لإلقائه أن يؤثّر حتّى في من لا يعرف العربية، فكيف بمن يتوق إلى معرفة مفردة أو مفردتين بالعاميّة العراقية حتّى يتمّ المعنى الذي أراد إيصاله إلى العاشق أو المشتاق، إلى من فقد وطنه أو نُفي عنه؛ إذ ينقل إلى متلقّيه، أو يزرع في متلقّيه، ذلك الوعي المتولّد من طاقة شعورية صادقة؛ بأنّ عليك أيضاً أن تعرف ألمي، لأنّه ألم يعنيك، لأنّه عنك، ولأنّه ألمك.
عليك أيضاً أن تعرف ألمي، لأنّه يعنيك، لأنّه عنك، لأنّه ألمك
النوّاب شاعر غاضب، وغضبه سياسيّ بالدرجة الأولى. قصيدة "القدس عروس عروبتكم" من أشهر القصائد السياسية، وتمثّل فلسطينُ جوهرَ موضوعاته في هذا الشأن، إلى جانب ما لحق بها من جرّاء الأنظمة العربية وطغيانها. وكان النوّاب قد خرج من سورية إلى لبنان على خلفية قصيدته "تل الزعتر"، بمساعدة إحدى المنظّمات الفلسطينية، وهرب بجواز سفر يمني إلى ليبيا. وتمثّل هذه الحادثة للعراقي المنفيّ صورةَ الشاعر الذي تنفيه أوطانه، وتُحاول إنقاذَه في آنٍ واحد. وقد انتشر شعره على النحو نفسه؛ إذ مُنِعَت قصائده في العراق وخارجه في ظروف مختلفة، لكنها انتشرت مع المنع، وقُرِئت مع المنع حتّى قهرته.
ولربما يكون من أكثر الشعراء الذين كالوا للأنظمة القصائد الهجائية التي استمرّت تعرّي تخاذلها من جهة، وتُنصّب الشاعر في ذلك الموقع المتفرّد من الوجدان الشعبي والشعري العربي من جهة أُخرى. ويمكن للقارئ أن يلتقط لديه ذلك الفارق بين شاعرٍ هو حنجرة الناس، بما تحمله سليقتها من شتائم ضدّ حكّامها، وبين شاعر ينمّق لغته كي تتلاءم مع مقولة الناس. ما يشبه فكرته عن استخدام العاميّة في الشعر، فهو يشبّه العامية بصناعة التماثيل من الطين، حيث يجد امتداد الحضارة العراقية، على عكس الفصحى التي يشبّهها بالنحت في الصخر. لكن، في الوقت نفسه، قصيدة النوّاب قصيدة بلاغية، والصورة الشعرية أبرز محدّداتها.
يذكر مظفّر النوّاب، في أحد حواراته، أنّ المنافي التي كان يدور الحديث عنها بصورة دائمة في عائلته، هي أحد منابع شعره، إلى جانب عيشه إلى جوار النهر، وما النهر سوى كناية عن الارتحال. من قصيدته "في الحانة القديمة" نقرأ: "سبحانك كلّ الأشياء رضيت سوى الذُّل/ وأن يوضع قلبي في قفص في بيتِ السُّلطان/ وقَنِعتُ يَكونُ نَصيبي في الدُنيا كنصيب الطير/ ولكن سُبحانَك حتّى الطيرُ لها أوطانْ... وتعود إليها/ وأنا ما زلت أطيرُ/ فهذا الوطن الممتدّ من البحر إلى البحر/ سجونٌ متلاصقةٌ/ سجّانٌ يمسكُ سجّان".
هكذا كان مظفّر النواب يرى نفسه، طائراً مرتحلاً خارج السجون، بين المنافي، لا بين الأوطان.
* روائي من سورية