خُصّصت بعض الموسوعات العربيّة لذكر سِير النّساء، مثلما وُجِّه غيرُها لآثار النُّحاة والصّحابة والشعراء والفقهاء وغيرهم من فئات المجتمع العربيّ. ويمكن لهذا التخصيص أن يُؤوَّل كدليل على تغييب المرأة عن النّشاط الثقافيّ، وكمُؤشّر على نُدرته، وأنّه بسبب هذه الندرة كان جديرًا بالتنويه به في موسوعاتٍ متخصّصة. فهل يمكننا استنطاق هذه المدوّنات عبر المنظور الجَندري الذي يتعقّب المصادرات الثقافيّة والسلطوية التي عليها انْبنت هذه الموسوعات؟ وهل تؤكد هذه الأخيرة وجود فرق جوهريّ بين النّساء والرجال، فرقٍ كان من الأهمية بحيث جدرت الإشادة به في هذه السِّيَر؟
فمنذ البدايات الأولى لعصر تدوين الثقافة العربيّة، خصّصَ ابن سعد (784 - 845) الجزء الأخير من "الطّبقات الكبرى" للصّحابيات والتابعيّات اللواتي أسْهمن في عصر النبوّة وما بَعده. ثم تتالت معاجم الشاعرات والزّاهدات والعالِمات حتى العصر الحديث. فقد ألّف السّوري محمد رضا كحّالة (1900 - 1966) كتاب "أعلام النّساء في عالم العرب والإسلام" (1959، و1984)، ضمّنَه عددًا غفيرًا من "شهيرات النّساء اللاتي خلّدن في مُجتمعَي العرب والإسلام أثرًا بارزًا في العلم والحضارة والأدب والفنّ والسياسة والدّهاء والنفوذ والسلطان والبرّ والإحسان والدين والصّلاح والزّهد والوَرَع، بما يميط اللثام عن الأدوار المختلفة التي قضتها المرأة في تاريخ العرب والإسلام". وتزخر أجزاء الكتاب الأربعة بمئات السّير النسائيّة، بما يدلّل على مشاركة المرأة العربية في كلّ الأنشطة الإنسانيّة من دون أدنى تمييز.
وأمّا محمد التونجي، فقد وضع "معجم أعلام النساء" الذي يضم تعريفًا بقرابة ألف مَرأة من شتّى بقاع العالم في القديم والحديث. وقد شمل كتابُه سِيَر الأديبات والمفكّرات والثائرات والسياسيات والزعيمات والعالمات وغيرهنّ من الشخصيات البارزة ممّن كان لهنّ بصمةٌ بارزة في بلدهنّ أو في العالم. وقد رتّب أسماءَهنّ بحسب التسلسل الهجائيّ على أساس الحرف الأول.
لم تقم معاجم النساء العربية على تمجيد لهنّ بوصفهن استثناء
وفي تونس، نذكر مثلاً "شهيرات التونسيّات" لحسن حسني عبد الوهّاب (1884 - 1968) الذي أرّخ فيه لأشهر التونسيّات خلال العهود الإسلاميّة. وقد أسند لتصنيفه هذا عنوانًا فرعيًّا: "بحث تاريخي أدبيّ في حياة النساء النوابغ بالقطر التونسي من الفتح الإسلاميّ إلى الزّمان الحاضر"، مُهديًا إيّاه إلى ابنته نائلة عبد الوهاب بقوله: "طالعي بُنيّتي إشراق سناها، تجدي سراجًا وهاجًا يضيء حياتك ويهديك صراطًا سويًّا، فتنالين مرضاةَ ربّك وابتهاج تِربِكِ. والبارئَ أسألُ أن يلهمك اقتفاء أثر الفاضلات من التونسيات فتكوني من الباقيات الصالحات". وقد أورد فيه سير أشهر التونسيات اللواتي أثّرن في تاريخ البلد وكان لهنّ قولٌ فصل في تسيير دواليب الحياة السياسيّة والعلميّة والاقتصاديّة.
ومن بين ما أُلّف بالإنكليزية: "الكاتبات العربيّات: دليل مَرجعي نقدي: 1873 - 1999"، وهو من صياغة مجموعة من الكاتبات مثل رَضوى عاشور، وفريال غزول، وحسناء رضا، والهدف من هذا الدليل ليس فقط تمجيد النساء وآثارهن، فَهذا مفروغ منه، بل التأكيد على دورهن في المجتمعات العربيّة منذ عَصر النّهضة إلى زمن التأليف، وذلك إثر "قرونٍ من الصمت والهيمنة الذكوريّة"، حسب ما ورد في المقدّمة التي ذكّرت بأنّ حساسيّة هؤلاء النّساء قد تشكّلت بفضل تعدُّد الأدوار التي أُنيطت بهنّ فأتقنّها، فجاءت الموسوعة بمثابة بانوراما لمساهماتهن في الأدب والفكر العربيّ.
واللافت أنّ الأدبيّات الاستشراقيّة، على وفرتها واتساع الميادين التي تناولتها، لم تُفرد، في ما نعلم، معجمًا كاملاً للنساء ولا موسوعةً لذكر آثارهن، رغم حرص المستشرقين على الاستيعاب والشّمول. وقد يفسَّر صمتهم بهيمنة الطهرانية المسيحانية على البعض منهم وهم الذين انحدروا من الأوساط اللاهوتية التي تحمل نظرة دونيّة للمرأة الأوروبيّة، ناهيك عن المرأة العربيّة المسلمة.
تمثّل المقاربة الجندرية لهذه الموسوعات مغالطة خطيرة
ومع ذلك، فإنّ هذه الموسوعات هي من الكثرة والتّنوع بحيث لا يُمكن أن تُحصى، وإنّما أردنا التدليل على كثرتها وأنّها لم تكن بدعًا في تاريخ المعاجم والموسوعات ولا في الإنتاج الثقافي. بل قد يعجب قارئُ اليوم من الحضور الطاغي للمرأة في العالم الإسلام على امتداد القرون الخوالي، حتى يكاد يجزم بأن غياب المرأة، والذي طالما عابه المستشرقون والمستعربون، إنْ هو إلّا أكذوبة جماعيّة وتصوّرٌ مجافٍ لحقائق التاريخ، لأنّ موسوعات النّساء ليست استثناءً في تاريخ الثقافة العربيّة، ولم تكتفِ بنظرة تمجيد لأنهنّ خرقن قاعدة الحَجب عن الفضاء العامّ، ولا تتضمّن أدنى إزراء لهنّ ولمشاركتهنّ، بل هي وثائق حضور ثابتٍ لم يتخلّف، ولم تَحُل دونه بعض الانتهاكات الذكورية لحقوقهنّ، حيث حضرت النساء، مثل الرجال تمامًا، بحدودهنّ وألقهنّ.
فلعلّ ما فعلته هذه الموسوعات هو إراءَة هذا الحضور ووضعه تحت الأنوار، أي إنها اجتهدت في جَعل إسهام النّساء مرئيًّا ومعلومًا لدى الجَميع عبر الإحصاء التأريخي، لأنّ هذا الإسهام غالبًا ما يتضاءل خلف الحضور القويّ للرّجل. فما حصل هو مجرّد احتجاب ناتج من طبيعة الأبنية الاجتماعيّة والسّلطويّة وليس بسبب كراهيّة جوهريّة للمرأة وازدراء مَبدئيّ لحضورها في الفضاء العام، وهذا ما تشاركت فيه كلّ المجتمعات الإنسانيّة بما فيها الأوروبيّة طيلة القرون الوسطى. فالمسكوت عنه هو الإشادة بدور هؤلاء الفاضِلات في تكسير القيود الاجتماعية والتألّق في الأعمال الأدبيّة والفكرية والتدليل على قدرة النساء أن يأتين بما يأتيه الرجال وأن تُخصَّص لهنّ الموارد. لكن ليس تخصيص معاجم لهنّ بمؤشّر على غرابة الظاهرة وعَدم اطّرادها، بل التهمُّم لجمع الأخبار التي تعنى بـ"نصف المجتمع"، كما يُقال الآن.
معاجم تصلح مدخلاً لتفنيد الميز الجنسي بحق النساء
وهكذا، فالتّصوّر الجندري مغالطة خطيرة قد تُخرج دراسة سيَر النّساء اللامعات، في أيّ مكان، من سياقهنّ الموضوعي الذي عشنَ فيه والذي تميّز، شأنه في ذلك شأن المجتمعات البشرية الأخرى، بسلطة الرّجال ضمن الأطر القبائليّة التي تحكّمت فيها، وبعضها قائمٌ إلى حدّ الآن. كما قد يحجب هذا التصوُّرُ ذلك الانهمامَ بصياغة المعاجم التي شملت كلّ الموضوعات، من أكثرها اعتياديّةً إلى أشدّها غرابةً، كتخصيص مَعاجم للخيول والأوتار والأنهار... وما إدراج محور المرأة إلّا مظهر من مظاهر التوسّع المعرفيّ الذي لا يقف عند حدود جنس أو نوعٍ.
وعليه قد تُعدّ دراسة موسوعات النساء مدخلًا رشيقًا لتفنيد أطروحات الميز الجنسي وتخطئةً لما استقرّ في الخطاب الاستشراقي والاستعرابي من أفكار نمطيّة حول تَهميش المرأة وغيابها الآليّ عن الفضاء العامّ، فما من سياق ثقافيّ، في شرق الحواضر الإسلاميّة أو في غربها، إلّا وكان فيه حضورٌ ظاهرٌ أو خفيٌّ للمرأة، بعيدًا عن التنافس الجندريّ الموهوم. فمثل "شقائقها" الرّجال، كانت النّساء قوّةَ دفع وجذب في كلّ المجالات. ولعلّ أعذب ألوان إطلالاتها ما كان في حقل الثقافة واللغة والأدب حيث تألّقن، فالتقطتْ هذه الموسوعات تألقهنّ هذا لتخلّده على مرّ الزمن. وهو ما يجب استعادته اليوم بمنطق التحليل التاريخيّ، لا الإسقاط الجندري وتجنّياته.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس