يعود "معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربية" إلى محطّاتٍ من رحلةِ تطوّر دلالات كلمة "عَقْل" عند العرب على بوابته الإلكترونية (dohadictionary.org)، فيستشهد ببيت شِعرِ منسوب إلى بِشْر بن الهذيل الفزاريّ يقول فيه: "ولا خيرَ في طول الجسوم وعرضها/ إذا لم تزن طولَ الجسومِ عقولُ"، حيث كانت مفردة "العقل" تحيل إلى ما به يكون التفكير والإدراك والتمييز منذ حوالي مئة وخمسين عاماً قبل الهجرة، أي قبل سنة 476 ميلادية.
يستكمل المعجم في المرحلة الثالثة، التي انطلقت منذ بداية العام الحالي، تحرير مداخل مُعجمية للألفاظ والمعاني وللمُصطلحات والمفاهيم الجديدة التي استُعملت في النصوص العربية، ابتداءً من بداية القرن السادس الهجري حتى عصرنا الراهن، بعد إنجاز المرحلتين الأولى والثانية، واللتين احتوت مدوّنتهما قرابة مئة وخمسين مليون كلمة.
وبالعودة إلى "عقل"، يتتبّع المعجم تطوّر دلالاتها لتشير إلى الملجأ والحصن كما تبيّن نصوص ترجع إلى مئة سنة قبل الهجرة، ومنها قول الشاعر أُحيحَة بن الحلّاج الأوسيّ: "وقد أعددتُ للحدَثان حصناً/ لو أنّ المرء تنفعه العقول"، لكنّ الدلالة ستتغيّر لتعني ثوباً أحمر يغطّي الهودج بحسب قصيدة عبيد من الأبرص الأسديّ التي يرد فيها: "لِمَن جِمالٌ قُبَيلَ الصُبحِ مَزمومَه/ مُيَمِّماتٌ بِلاداً غَيرَ مَعلومَه/ عالَينَ رَقماً وَأَنماطاً مُظاهَرَةً/ وَكِلَّةً بِعَتيقِ العَقلِ مَقرومَه؟".
تتضمّن المرحلة الثالثة قرابة ثلاثمئة وخمسين مليون كلمة
وبحدود مئة للهجرة سيتطابق معنى العقل مع القلب، وسيحمل مدلولات فلسفية بعد نحو قرن ليعني القوّة المفارقة المجرّدة عن المادّة التي تفيض منها الصور على الموجودات منذ بداية القرن الثالث الهجري، وفق رسائل جابر بن حيّان، ويعبّر العقل المكتسب عن تلك المعارف الصحيحة التي يكتسبها الإنسان بالتفكير والتجارب، باصطلاح علم الكلام توضّحه رسائل الجاحظ التي كتبها خلال منتصف القرن الثالث الهجري.
التطوّر الدلالي للمفردات في المرحلة الثالثة من المعجم، والتي تُعدّ الأطول زمنياً من حيث النصوص التي تمثّلها، تُقدَّر بحوالي ثلاثمئة وخمسين مليون كلمة، سيُبنى على انتقاء أهم المصادر حتى القرن التاسع عشر الميلادي، إلى جانب مصادر تمثيلية في القرنين العشرين والحادي والعشرين، تشمل المؤلّفات والكتب المترجمة والدوريات من المجلّات والصحف اليومية والإصدارات، وبعد إتمام هذه المرحلة سيشتمل المعجم على أكثر من ستمئة وستين مليون كلمة عربية، يُمكن معرفة مستوى شيوع الألفاظ العربية وتردّدها، ومعرفة تلك التي أُهملت أو دام استعمالها، بالرجوع إلى تصريحات سابقة للباحث عز الدين البوشيخي المدير التنفيذي لمشروع المعجم.
في موضع آخر على بوابة المعجم الإلكترونية، يُستعرَض تاريخ كلمة "البصيرة" التي كانت تدلّ على دم القتيل الذي لم يُؤخذ بثأره وديّته بالاستشهاد بنصّ للأسعر الجعفي قبل خمسين عاماً من الهجرة يقول فيه: "أَبلِغ أَبا حُمرانَ أَنَّ عَشيرَتي/ ناجوا وَلِلقومِ المُناجينَ التَوى/ راحوا بَصائِرُهُم عَلى أَكتافِهِم/ وَبَصيرَتي يَعدو بِها عَتَدٌ وَأى".
وتدلّ "البصيرة" خلال الفترة نفسها على الفهم والفطنة في إدراك الأمور، كما يوضّح بيت شعر لقبيصة بن نعيم الأسدي يمتدح فيه امرأ القيس، وستشير بعد ذلك إلى العِبرة والعِظة، والنظر في الأمور، ثمّ إلى الحجّة والبيّنة، واليقين ونفاذ القلب في إدراك الأمور، والشاهد، والدّرع، وكذلك إلى شيء من الدم يُستدّل به على الرّمية.
يوفّر المعجم قاعدة بيانات ضخمة في اللغة والأدب والفكر
تعكس سهولة استعراض استعمال الكلمة العربية بنصوصها ونقوشها منذ ظهورها إلى اليوم، الجهود التي راكمها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" على مدار أحد عشر عاماً، بمشروعه في حماية اللغة العربية والذي يهدف إلى رصد ألفاظها، مقرونةً بمعانيها وشواهدها وتواريخ استعمالها وأسماء مؤلِّفيها، منذ ظهورها في النصوص حتى عصرنا الراهن، بالإضافة إلى إصدار دراسات وأبحاث معجمية.
واستناداً إلى قاعدة بيانات ضخمة يوفّرها المعجم في مجالات اللغة، والثقافة، والفكر، والحضارة، والتاريخ، ويجري تحديثها بشكل مستمرّ، يمكن تطوير أنماط الكتابة والتعليم، ويتيح أيضاً إنشاء معاجم تعليمية وثقافية، من شأنها إعادة النظر في الافتراضات التي وضعها الباحثون العرب في مختلف مجالات المعرفة من أجل تعديلها وتصويبها.