استمع إلى الملخص
- تُظهر غزة صمودًا ومقاومة ضد المحتلين، حيث يُظهر أهلها إيمانًا وعزيمةً تُلهم العالم، متحدين الظروف القاسية بأمل وتحدي.
- رغم الدمار والخسائر، تستمر غزة في استنزاف عدوها وتُظهر قوة لا تُقهر، معتبرةً رمزًا للإنسانية والنضال من أجل الحرية والعدالة، مُعلمةً العالم دروسًا في الصمود.
لا بدّ من استحضار الغرابة في بقعة أرضٍ قلّصها الاحتلال حتّى أصبحت على ما هي عليه الآن. بقعةٌ ساقت لها الجغرافيا أصعب الأقدار، فمن موت إلى دمار إلى عوز إلى انعدام أُفق. غزّة البحر المحتلّ من الغرب، ومن الشمال والشرق والجنوب، حيث تُناور الدبّابات الإسرائيلية على الحدود المصرية الفلسطينية، وتُطلق زخّات الموت والخراب.
هذه البقعة التي شملت يوماً مدينة أسدود وكلَّ التجمّعات الصهيونية الاستيطانية التي تُحيط بغزّة الآن، أصبحت غزّةَ والمناطقَ الوسطى من دير البلح والنصيرات وغيرها، إلى خانيونس، ثمّ أخيراً رفح غزّة فلسطين. هذا ما انتهى أمرُ غزّة إليه، 360 كيلومتراً، وكلُّها أصابها الهلاك وكلَّ أهلها: المليونان والثلاثمئة ألف يعانون، ليل نهار، عطشاً وجوعاً وضرباً وفقراً وقهراً وفقداً.
ينتشر الموت بلا معنى، وبلا هوادة. ووزراء "إسرائيل" يختلفون فيما بينهم على كيفية قتل أهل غزّة وأهل فلسطين عموماً. خلافاتهم ليست لها علاقة بحياة هؤلاء البشر الفلسطينيّين الذين ساقت لهم أسوأ الأقدار أن تحكمهم الصهيونية بالحديد والنار وكلّ حقد أسود في هذا العالَم.
كأنّ لغة الوجود الأسمى فُصّلت على مقاس أهل هذه البقعة المدوّية
وليس تاريخُ غزّة كلّه موت، مع أنّها من أكثر الأُمم التي ذاقت طعمه؛ طعم الغياب الأبدي والحزن الدفين. إنّ تاريخ غزّة، من الهكسوس والكنعانيّين والإغريق والرومان والعرب الغساسنة الذين أسلموا أو من لم يُسلموا، والعثمانيّين والبريطانيّين، والمصريين والصهاينة، تاريخٌ مركَّب ومرعب إلى أبعد الحدود. فمِن موت إلى آخر، وها هي آخر حلقات الموت تأتي على وجوه الجنود الإسرائيليّين جوّاً وبحراً وأرضاً، ومن قُرب ومن بُعد، وبآخر ما في جعبة أميركا المتصهينة من سلاح مهلك لا يُبقي ولا يَذر.
ومن معجزات غزّة المتكرّرة أنّها تُقاوِم، دمُها ولحمها وروحها وقودٌ ثائر ضدّ المحتلّين، ولا تأبه بمنطق الربح والخسارة والحسابات الدولية، وفنّ الممكن، وما إلى هنالك من عبارات تحكم الكثيرين من حولها وأبعد. غزّة تقاوم وبشراسة. كم هو مؤثّرٌ إيمانها وعزيمتها وغناؤها وأصوات أبنائها الذين لا يشبههم أحد. أجملُ الأبناء والبنات، وأعمق المعاني على وجوههم، ومن نهج أرواحهم.
وكما تهزّنا المآسي وتكالُب الأمم والملل على غزّة، تهزّنا غزّة، قلبُ الله النابض على هذه الأرض المكلومة، تهزّنا بعنفوانها. لم نؤتَ الحكمة لنفهمَ غزّة، لكنّنا أوتينا ما يجعل القلب يدمع تأثّراً والتحاماً مع غزّة، الأكبر منّا جميعاً في كلِّ شيء. نفسي كأمواج البحر، تدفعني بكامل هشاشتها إلى شواطئ غزّة. قدري أنّ لي أحباباً كثراً في هذه البقعة البطلة من هذا العالم المهلهل.
تتساقط اللغة في أغلب أطراف العالَم العربي. الكثير من الكلام الخاوي من أيّ معنىً وقيمة، إلّا في غزّة، فكأنّ لغة الوجود الأسمى فُصّلت على مقاس أهل هذه البقعة المدوّية.
إلى أين ستؤول الأمور يا غزّة؟ نُشاهد المأساة، فتعمُّ قلوبَنا الأحزان، نُحلّل يميناً ويساراً وفوقاً وتحتاً، ونَلعن الظلام، ونحتار من قهرنا. وتُباغتنا بلاغة الأطفال في غزّة، البلاغة الوحيدة التي لها قيمة، تَسكن قلوبنا، ونغتربُ مع دموعنا، وتُباغتنا بطولة الأبطال، مَن يُقاوِمون الشرّ بمطلق الإيمان، وبمنتهى الوضوح. لغة هؤلاء، لغة غزّة، هي الوحيدة التي صداها دموع وآلام في قلب كلّ قلبٍ حرّ، أمّا أغلب اللغة خارج هذا الفضاء فتنضح بما لا يُفيد، بما لا يُقدّم ولا يؤخّر.
تاريخُ غزّة سيُحدّد مصائر كثيرة في هذا العالَم من خلال هذا الفصل الأكثر فظاعة ووحشية من المحتلّ وداعميه، والأكثر بطولة ورقّة من الأطفال، وبلاغة ومعنىً من أهل غزّة، وهم يُجبِرون العالَم على رؤية منطقهم وحياتهم المزدحمة بالحياة.
رهبةٌ ما تعتريني: أربعون ألف شهيد، وأكثر من مئة ألف جريح، وآلاف البيوت المدمَّرة، والمعالم المسحوقة، والأشجار التي اقتُلعت، وغزّة ما زالت تَستنزف عدوّها، أحقرَ الأعداء.
رهبةٌ ما من الوجوه التي رأيتها في غزّة، وعشت معها، وشاركتها مقاعد الدراسة.
رعشةٌ ورهبةٌ وأمل من نوع الحجارة التي يتفجّر منها الماء، ومحاولات يائسة للحديث مع القدر القادم أن يرحم أهل غزّة، وأن يعيد الفسحة والحياة بكامل طبقاتها إلى قلوب أهلها.
غزّة هي الدنيا الآن. هي معنى أن نكون بشراً، أو أشباه ذلك. هي علم الإنسان، والحيوان، وعلم الطبيعة، وعلم المستقبل. هي أكبر قيامة في قلوبنا، ميزان ضمائرنا ولغتنا.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن