كثيراً ما يجري الفصل على نحوٍ قطعيّ بين عمل الفكر وعمل الفن، بحجّة أن الفكر يخضع لقوانين عقلانية ومنطقية لا يلقي لها الفنُّ بالاً؛ وإذا فعل، فإنّه يُصنَّف خارج إطار الفن الحقيقيّ. يمكن إرجاع هذه التقسيمة إلى تمييز أفلاطون، على سبيل المثال، بين الفلسفة والشعر، أو الفلسفة وفنون اللغة والبلاغة بشكل عام، وهو تمييزٌ لن يختلف فيه كثيراً فلاسفة عرب، ومن بعدهم العديد من المفكّرين وصولاً إلى وقتنا الحالي.
واللافت أن هذا الفصل الجذريّ لقي استحساناً لدى بعضٍ من المدارس الفنية، التي قال فنانوها بعدم خضوع اشتغالاتهم إلى معايير المنطق و"التفكير السليم"، ومنهم، على سبيل المثال، السرياليون، الذين رغبوا بالإنصات إلى ما دون الوعي والفكر والوضوح، بدلاً من العمل وفقاً لقواعد الوعي.
بدءاً من الثامنة والنصف من صباح اليوم الأربعاء وحتى ظهيرة غد الخميس، ينظّم "معهد تونس للفلسفة"، بالتعاون مع "كرسي الإيسيسكو للعيش المشترَك"، مؤتمراً في "مدينة الثقافة" بتونس العاصمة بعنوان "ما الفكر في ممارسة الفن المعاصر ببلدان المغرب؟"، تشارك فيه مجموعة من الأكاديميين والفنانين من تونس والمغرب والجزائر وفرنسا.
ينطلق المؤتمر من ملاحظة "تحوّل حقيقي في المشهد الفني" في تونس والجزائر والمغرب، كما نقرأ في تقديم المنظّمين، الذين يُذكّرون بأننا منذ أكثر من عقدين نشهد "بروز نتاجات فنّية تتعارض مع التمشّيات المعتادة في الرسم وفي العرض. إذ تكشف هذه الإبداعات عن ديناميكية ملحوظة بعدد معارضها" التي تقدّم، في ذاتها، "مشهداً للوضع الاجتماعي والثقافي في تجلّياته المحلّية والعالمية".
ويشير بيان المنظّمين إلى أن أغلب هذه النتاجات الفنّية "تُعيد تكييف واقعها الاجتماعي والسياسي، وأيضاً حياتها اليومية بطريقة تمرّدية إلى حدٍّ ما"، حيث يتحوّل الواقع إلى موضوع للفن وسؤال له؛ وهو ما يدعو إلى طرح مجموعة من الأسئلة التي يستحضرها البيان، مثل: هل تطرح هذه التوجّهات رغبةً في التحرر أكثر من بحث عن أسلوب جَماليّ جديد؟ وإذا كانت الفنون المعاصرة في المغرب العربي نمطاً للعيش وطريقةً للعمل لدى مُنتجيها، فما هي المواضيع التي تفكّر بها هذه الفنون؟ وهل تنقل، في اشتغالاتها المعاصرة، أفكاراً خاصّة بالفنانين أنفسهم وتجاربهم، أو بعموم مجتمعاتهم وثقافاتهم؟
يُفتَتح المؤتمر بمحاضرة تقديمية للباحثة التونسية رشيدة التريكي، تليها سلسلةٌ من أربع محاضرات، هي "المُعاصَرة في الفنون التشكيلية التونسية: بهرج الشكل ومعضلة المضمون" لفاتح بن عامر، و"كيف تبني الفنون المغربية المعاصرة تاريخها وفكرها: مساءلات أوّلية" لفريد الزاهي، إلى جانب "بعض الملاحظات حول الفنون المعاصرة في تونس" لعواطف خضراوي، و"الفن الجزائري المعاصر: ظهورٌ لهابيتوس إبداعي طقوسيّ في الخطاب" لجودت قسومة.
أمّا الخميس، فتُقام بدءاً من التاسعة صباحاً طاولة مستديرة بعنوان "أي نقد فنّي في تونس (وفي المغرب العربي عموماً)؟"، يشارك فيها العديد من المتدخّلين، مثل أمل بوسلمى، وإلزا ديسبيني، وسليم بن يوسف، ورشيدة التريكي، وفريد الزاهي، وجودت قسومة، وغيرهم.