مع غزّة: رنوة العمصي

24 سبتمبر 2024
رنوة العمصي
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الهاجس والتأثير الشخصي: الكاتبة البحرينية الفلسطينية تعبر عن قلقها العميق بشأن العدوان على غزة وتأثيره على حياتها اليومية والإبداعية، مما أدى إلى ضغط عصبي ومرض.
- الإبداع والمقاومة: ترى الكاتبة أن الإبداع هو جبهة مقاومة ضد الاحتلال، مستشهدة بأعمال أدبية وفنية فلسطينية وعربية تعبر عن القضية الفلسطينية.
- التغيير والأمل: تتمنى الكاتبة عالماً بدون فيتو وهيمنة اقتصادية، وتوجه رسائل دعم لأهل غزة، مؤكدة على أهمية الوحدة والتضامن العربي وحفظ الذاكرة الجماعية للظلم.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "نفتقد للبشر الذين يبكون في مجال السياسة"، تقول الكاتبة البحرينيّة الفلسطينيّة لـ"العربي الجديد".


ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
على المدى القريب، إمكانيّة وقف العدوان وأساليب الضغط على الاحتلال الصهيوني؛ لأجل وقف حرب الإبادة في غزة وعربدة المستوطنين في الضفة، إخراس فلسطينيي الداخل، كما وقف العدوان على لبنان واليمن. على المدى الأبعد، يشغلني مستقبل فلسطين والمنطقة. تقول لويز فوسيت أستاذة ورئيسة قسم العلاقات الدولية بجامعة أوكسفورد: "أهم ما يُميّز منطقة الشرق الأوسط أنّها منطقة غير مكتملة/ غير منجزة بعد". وأنا أتفق معها. هذا ما يجعل من الأهميّة إنجاز تصوّر حيوي مجدِّدٍ لقضية تحرر الإنسان الفلسطيني. تصوّر لا يستجيب للمتغيّرات الراهنة وحسب، وإنّما يؤسس لسرديّة تعيد موضَعة وتأصيل القضية عربيّاً وعالمياً. 


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- مرضت. الحق أنَّني مثل كل من تابع قتل الأطفال، وردم الناس أحياء، وقصفهم وهم يطلبون الخُبز، استكثرت على نفسي أن أتعب من المشاركة في التظاهرات والاشتباك مع الراهن بكلِّ الوسائل، أو أن أحدِّدَ ساعات التعرض للأخبار والانشغال بها. استكثرت على نفسي الإنصات لإشارات جسدي وعقلي المنهكين، حتى فتحت عينيَّ ذات نهار، وكنت مستلقية على سريري، ولم أستطع النهوض. كان الضغط العصبيّ المتراكم قد تحوّل إلى تشنّج في عضلي، ضغط على فقرات ظهري ومن ثم الأعصاب. 


إلى أي درجة تشعرين بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- سؤال الجدوى سؤال يواجه الجميع حين تنهار كلّ القواعد والقيم بهذا الشكل المريع الذي نرى، ليس المبدع وحسب. إنَّ ظُلماً وخُذلاناً بهذا القدر لا يمكن إلا أن يتركك حائراً في ما يخص الجدوى. لكنَّ الواقع هو أنَّ ما نَشعر به، من غضبٍ وتعبٍ وشك، يعتبر استجابةً طبيعيّةً لوضعٍ غير طبيعي. هذه الاستجابة تقول إنَّنا بخير. لا أريد أن أذهب بعيداً في التنظير، لكن لو كان لي أن أخبرك بشيء واحد يمكن للإبداع أن يفعله، فهو أن يبقي فلسطين الفكرة حيّة، جميلة، مشتهاة، وموجِعة.

الإبداع ليس ترفاً وهو من أعصى الجبهات على الاحتلال

معظم الفلسطينيين والعرب لم يروا فلسطين. هي فكرة نجدها - بشكل مباشر أو غير مباشر - في روايات غسان كنفاني وسَحر خليفة وإبراهيم نصر الله ومُريد البرغوثي ورضوى عاشور وشِعر حنّا أبو حنّا وسميح القاسم ودرويش. في عنفوان "لا تصالح" دنقل وانكسار "عدى النهار" لحليم وموسيقى رأفت الهجان وأهازيج مشجّعي نادي الرجاء المغربي.. وصولاً إلى أغنيات الراب العالمية المعاصرة التي تحتجّ على الإبادة وعلى سلطة رأس المال والفساد السياسيّ العالمي. الإبداع ليس ترفاً في حالتنا، وهو من أعصى الجبهات على الاحتلال. 


لو قيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختارين المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- لا أدري، لكنَّني ومع انشغالي بالكتابة الإبداعيّة، اتجه مشروعي البحثي نحو العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة. والحقيقة أنَّ الخلفيّة الفنيّة التي أتيت منها، تطبع عملي البحثي وأسلوبه. حدث أن كنت أدافع عن محاجّة علميّة argument ودمعت عيناي انفعالاً. فخجلت بدمعتي، خصوصاً مع دراستي للعلوم السياسيّة وما يحيط بها من هالة "العقلانيّة" و"المنطقيّة". قلت لمشرفتي: "ربما ليس عليّ دراسة السياسة، أنا أبكي". ناولتني منديلاً ورقيّاً وأجابت: "ربما عليكِ دراسة السياسة لأنك تبكين، نحن نفتقد للبشر الذين يبكون في مجالنا". ما زلت، نظريّاً على الأقل، في منتصف الطريق وليس نهايته حتى أنظر للوراء. إلى أين سأنتهي؟ لا أدري.


ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- لا أُريد عالماً فيه فيتو. ولا أريد عالماً يسبق مشروعه الاقتصاديّ والتقنيّ مشروعه الحضاريّ والإنسانيّ. أريد عالماً يفهم أغنيات فيروز.. بحيث يمكنك إرسال أغنية من أغنياتها للفتاة التي تعجبك أياً كانت لغتها، فتفهمك. ثمّة نظرية في مجال النسبيّة اللغويّة، مثبتة علميّاً، مفادها أنَّ فَهمنا للأشياء بما فيها مشاعرنا يتأثر بمدى قدرة اللغة التي نتحدّثها على التعبير، وعليه فإنّه كلما اتّسعت لغتك وكانت قابلة للتركيب والتعقيد، صارت لديك مساحة للوصف، وبالتالي فهم مشاعر أكثر تركيباً، والعكس صحيح، أي أنك تتعثّر في فهم المشاعر التي لا تصفها لغتك. عالمٌ يفهم المشاعر بشكل أفضل، هو عالم أفضل. عموماً، يمكنني الاكتفاء بالأمنية الأولى في الوقت الراهن. 

سؤال الجدوى سؤال يواجه الجميع حين تنهار كلّ القواعد


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودين لقاءها، وماذا ستقولين لها؟ 
- ليس من باب تكريس المُكرّس، لكن محمود درويش. في عقده الإبداعيّ الأخير - أكثر أو أقل - اتخذت كتاباته بعداً تجريدياً بديعاً في علاقته بفلسطين الفكرة. تجربته نمت وتحوّلت وارتفعت فوق الراهن. وقد حدث أن حاولت، بيني وبين نفسي، استنطاقه حيال الراهن الذي لا يمكن تجاوزه.. هل كان محمود درويش ليعود بتجربته إلى ما قبل التجريد؟ كيف كان سيكتب عن الإبادة المصوّرة الفجّة، أي مجاز كان ليسعفه، من أي ارتفاع كان سيلتقط المشهد..؟


كلمة تقولينها للناس في غزّة؟
- عندي أهلٌ وأقارب في غزّة. أتصل بهم وأعجز عن الحديث. لا أجد كلمات المواساة فأرتبك ويصيرون يواسونني في عجزي بدلاً من أن أواسيهم. أقول لهم بأن ما تظنونه بعيداً، أظنه أقرب مما نتصوّر. تأملوا كل الظلم الواقع عليكم واحفظوه، لأن هذا بالضبط ما لا نريد أبداً فعله بخصمنا عندما يتغيّر الواقع، وسوف يتغيّر.


كلمة تقولينها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- للعرب داخل العالم العربي بتنوعاته: سجيّتكم سليمة. حزنكم مشروع وفي محلّه. لا تخجلوا به. غيرتكم وغضبكم الذي تشعرون به لأجل أخيكم العربيّ، في كلّ مكان، ليس فلسطين فحسب، ليست سذاجة ولا بقايا "قومجيّة" كما يريدون خداعكم. إنه شعور سويّ وطبيعي وصحيّ وله ما يبرره ثقافيّاً وتاريخيّاً وسياسيّاً وأخلاقيّاً. إن مَن فشلَ في حماية المصالح القومية للإقليم العربي - والمتحدّث بالعربيّة - يريد إقناعنا بأن المصالح القوميّة تناهض المصالح الوطنية. لا، ربما تناهض مصلحة نظام أو مجموعة من الناس. فلا يخدعوكم لتبرير وتمرير عجزهم. وكان الله بعوننا وعونكم. لعرب المهجر: "كفو".


حين سئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقولين لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أنا آسفة.


بطاقة
شاعرة وكاتبة بحرينيّة فلسطينيّة من مواليد 1985 في مدينة المحرق في البحرين، باحثة دكتوراه في العلاقات الدوليّة بقسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة لايدن – هولندا. لها ديوانا شعر: "أشياء تصلح لقضية" عن دار الغاوون بيروت (2011)، و"رغبات صغيرة" عن دار مرايا – الكويت (2022). ورواية "الزيارة" عن دار الآداب – بيروت (2014). حاصلة على جائزة الهجرة للشعر في أمستردام لعام 2022.

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون