استمع إلى الملخص
- الكاتب يؤكد على دور الكتابة في فضح الجرائم والدفاع عن حقوق الضحايا، مستشهدًا بأمثلة تاريخية لقوة الكلمة.
- يرى الكاتب أن الإبداع يساهم في تحقيق العدالة والحرية، معبرًا عن تضامنه مع أهل غزة وإيمانه بأهمية النضال المستمر من أجل فلسطين.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة، وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "لو كانت الكتابةُ سلاحاً غير فعّال لما انفكّ الصهاينةُ يقتلون مثقّفي فلسطين"، يقول الشاعر والباحث العراقي.
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظِلّ ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- ثَمّة هواجس كثيرة، صعوداً ونزولاً مع كلّ هجمة وحشيّة يشنّها جيش الاحتلال، وإثر كلّ مجزرة تُرتكَب وتُمحَى بسببها أحياء وعائلات وأبرياء وذاكرة مكان وصمود هويّة على مدى ثمانية عقود من الصبر. هاجس البقاء هو الأقوى، الإبادة هي المحو. وفي غزّةَ ثَمّة محوان: محوٌ خبيث؛ بربريةٌ مُفرِطةٌ لاقتلاع غزّة، فإن مُحيت أرض وناس، مُحيت كلّ القضية الصامدة وحقّ العودة... ومحوٌ حميد؛ فالضمير الإنساني العالمي مُحِيَ أيضاً، منذ فجر النهضة العربية الجديدة في بدايات القرن الماضي، حمّلْنا أنفسَنا ملامة التخلُّف الحضاري، واعتنقنا كلّ غرائب الرجل الأبيض. بعد قرن ونيّف، اكتشفنا أنّ الدمَ العربي أرخص من أيّ لائحة حقوق إنسان لا تسري على أهل غزّة وفلسطين. لكنّه محوٌ يؤسّس لمنظومة عدالة جديدة قائمة على فضح الجريمة وجُناتها، وردّ الاعتبار للضحايا وذاكرتهم. فلننظر إلى شوارع الكوكب وجامعاته.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- قبل حرب الإبادة الصهيونية الجديدة على غزّةَ وأهلها منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023، كان الدفاع عن فلسطين ترَفاً، وكأنّك تُضحّي بكُلّ الفُرص إن صار موقفك مناهضاً للكيان المُختلّ، حتّى بات التطبيعُ حرفةَ من يطلبون النَّشر وَالشُّهْرَة، والثَّمنُ دم فلسطين. العُدوان كشفَ هشاشة الثقافة العربية ومُدَّعيها، سلَّمهم مَسلوخين إلى ذاكرتنا. بالمقابل؛ الأثر الأكبر على الحياة اليومية والإبداعية، ثنائية المُساءلة والتعايش. مُساءلة جدوى ما نكتب في سياق قتل يومي مُعلَن على الهواء مُباشرة، واعتياد المجزرة كسياق لـ"التعايش". قد تكون اللحظة الماثلة مُتخَمةٌ بالشواهد على الجرائم الصهيونية، الشاشات مملوءة بالشهود موتى وأحياء. لكن ماذا عن الذاكرة؟
كلّ نضال وفوهة وخطاب وقبضة يد مرفوعة إلى فلسطين
هناك مرارة، احتقارٌ هائلٌ للزمن. العجز المُركّب المُخزي الكامن في الصمت. غالبية تصمتُ لتعتاش لا لتتعايش. وهنا، تشعر بفداحة ما اقترفته من إيمان بفلسطين. أن تؤمن ولا تُعلن. أن تُعلن ولا تشقّ الأرض إلى غزَّة. وفي قاع العجز، ثَمّةَ من يَنتقصُ من مؤازرتك لأهل غزَّة هاشم. غَزَّة تُفسدُ حسابات الوظيفة والولاء وبطاقة الإقامة لمن يكمن مشغّلوهم في دول التطبيع. صداقاتٌ كثيرةٌ أودت بها غَزّة غير مأسوف عليها.
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- منذ 43 عاماً، ثَمّةَ نَصٌّ للفرنسي جان جينيه يقطع الزَّمَن كشاهد على "صبرا وشاتيلا"، كمثال لجدوى الكتابة في مواجهة المَجزرة. وبالمقابل، ثَمّة من يَسلخُ فُتات ما تبقّى من ضميره وغَزّة تشتعل، ليُصبحَ مُديراً لمعهد فرنسي يُناهض حقّ غزّة في الحياة. تلك هي المساحةُ الخانقةُ بأن تكون شاهداً على شراهتَين، القتل والمصالح.
الكتابة الإبداعية هي التي تفضح. الكتابةُ ضدّ المَحو، ضدَّ بقاء أسماء الشُّهَدَاء أرقاماً، ضدَّ اعتبار الأرض رمالاً سَيّالةً بلا شعب. بالتالي، الكتابةُ أيّاً كان نوعها، هي أثر. لو كانت الكتابةُ سلاحاً غير فعّال، لما انفكّ الصهاينةُ يقتلون مثقّفي فلسطين.
التدوين وثيقة. والكيانُ المُختلّ تكمن عداوته ضدَّ التوثيق. الحجرُ الذي رفعهُ إدوارد سعيد يوماً كرمزية واثقة لإثبات حقّ مقاومة أهل فلسطين للعدوّ الغاشم، إنّما هو حجرُ الكتابة والتوثيق والتدوين. وما قطعة الأرض التي تقبضُ عليها اليَدُ المقاومةُ إلّا رمزاً لقدرة الكتابة الإبداعية على مواجهة العُدوان والإبادة والاحتلال والتطبيع.
■ لو قُيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- الكتابةُ نضال. لولا أنها تحوّلت في زمن التطبيع المُخزي الذي نتعايش معه مُرغَمين إلى ارتزاق. ثُمَّ إننا كمشرقيّين، وكعالمثالثيّين نبدأ كلّ يوم من جديد. هل نملك رفاهية الاستقرار؟ هل نشأنا في حياة صحّية تؤهّلنا لأن نحظى ببداية ناعمة ونهاية مجيدة؟ ندخلُ إلى العالَم مفخَّخين بالوحدة، والغضبُ وروح الثأر تستوطن ناراً أفرغها غياب العدالة فينا. نحنُ نقتصُّ يوميّاً من ضحالات تستعمرُ مجتمعاتنا، وتستولي مُسبقاً على مستقبلنا، وبالتالي، الحياة في منطقتنا المشرقيّة هي نضالٌ مستمرّ. نضالٌ ضدَّ نصال. لستُ قدريّاً، بقدر ما أجد أنّ فكرة البدء من جديد وكأنّها محوٌ وإفراغ، وأنا ضدّ المحو. من يُمحَى لا يبدأ. ألا تبدو محاولة محو غزّة لنسيانها؟ لكن؛ قدّ تصحُّ الفكرة رُواقياً. بالخبرة المُكتسبة عبر المشوار والتراكم، أجدني بادئاً من جديد، مُحمَّلاً بالنُضج والتجربة والعيون المفتوحة.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- العالَمُ لا يُغيّرُ نفسه. وهنا، أجدني ماركسيّاً في اعتناق فكرة العمل. من يطلبُ التغيير عليه أن يؤهّل نفسه أوّلاً، والتأهيل، أن نُعمّر أنفسنا بالأدوات الجديدة والمُستدامة التي تُسلمنا من مرحلة إلى لاحقتها، فيولد التغيير بملء الإرادة والعمل، أو بحدٍّ أدنى من المنفعة، وهي الخبرة والنُضج. العالمُ ليس بحراً فيّاضاً بأشرعة بيضاء حَتّى يمنح الصيّادين سَمكاً حُلواً. بل هو اللَجَّةُ الغاضبة الصاخبة. وشخصيّاً عوّدت نفسي ألّا أنتظر. خرجتُ من القرية وحيداً وأعزلَ و"حُرّاً إلى فكرة"، وشاكستُ الحياة وشاكستني، أذاقتني مرارات، فكافأت نفسي بالعَمل، فـ"النَوارسُ التي حَفظتْ وجْهَ البحر، لا تَهبُ خبرتها للزَّبَدْ"، هكذا قلت في مجموعتي الشعرية الأخيرة "قريباً من السطح عميقاً في الهواء". فكرتي الخالدة عن الحياة في مواجهة العالم: أن أُحافظ على حُرّيتي، وأُدافع بقسوة الصبر عن فردانيّتي.
غَزَّة تُفسدُ حسابات الوظيفة والولاء وبطاقة الإقامة
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- الناسُ جميعهم مُقاومون على طرائقَ مُختلفة. وكُلّ مقاوم له ميزتهُ التي ترفعهُ عمَّن سواه. ولا حاجة إلى لقاء مُقاوم من الماضي. ألا نُعتبَر جميعاً مقاومين منذ سقوط منارة العالم المُتحضِّر بابل (539 قبل الميلاد) على يد الأخمينيّين، وراهناً منذ نشأة "النهضة العربية" وبُنيان أنظمة ما بعد الكولونيالية. نحنُ المشرقيّون، جنوب الأرض، مقاومون بطبيعتنا، نظراً للراهن الصعب الذي لا ينقضي طلباً لعدالة غائبة وحُرّية معتقلة منذ صيحة علي بن محمد وثورة الزنج في البصرة، واستعمار متراكم منذ سقوط بغداد العبّاسية مغوليّاً، وسقوطها ثانياً أميركياً. خطٌّ طويلٌ من مجتمعات مُقاومة، حتّى حلّت النكبة الأعظم، ضياع أرض فلسطين التاريخية في 1948، وما شكّله من صدمة ماثلة هشَّمت المنطقة وإنسانها، فتحوَّلت كلّ وجهة نضال، وفوهة، وخطاب، وقبضة يد مرفوعة إلى فلسطين. فالماضي في حياتنا، راهنٌ مُستمرٌّ لم ينقطع. وأهل فلسطين اليوم هم رفعة العمل المُقاوم.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- بل ما يقوله أهل غزّة يومياً، وما يُجسّدونه من مثالات مُلهِمة. لنقف عند مفردة غزّيّة عظيمة، هي "الدَّار"، أحلى ما تنطوي عليه اللهجة الفلسطينية والغزّيّة، وكأنّهم - أي الفلسطينيّين - لهم فيها حياة وروح ورمز مقاومة وحجر صامد كلّما نطقوها. "رَوّحنا الدَّار"، "هدّموا علينا الدَّار"، الدَّار... يُشيرون إلى بيوتهم التي عمَّروها بصبرهم ومُحيت من على وجه غزَّةَ عقاباً على تمسّكهم بـ"الدَّار"، والتي تعني الأرض أيضاً. وغزَّة الآن هي دارُ فلسطين، كُلّ فلسطين من البحر إلى النهر، فإن مُحيت راحت كلّ الدَّار. الكيان الصهيوني المُختَلّ، يُريدُ محو غزَّة، ليمحو معها الحقّين الفلسطينيّين الأساس: المُقاومة وحقّ العودة. فبمحو المقاومة ستموت فلسطين كأرض تاريخية لأهلها، وتُعرَض غزَّة لاستعمار المُطبّعين الجُدد، وبمحو الأرض والمُطالبة بها، يُمحَى حقُّ العودة. فلا أرض حتّى يعود إليها الشعب، ولا مُقاومة تستردُّ حقّ الشعب في العودة.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- نحنُ مقيمون في اللغة والتاريخ، وهنا تتمحور إشكاليّتنا العميقة، وتكبر صدمة تبدُّلات الهويّة التي تسقط على رؤوسنا يوميّاً. فالعربيُّ انتقل من شتات القبيلة إلى تهشّم الدولة القومية المانعة وشتات المَهَاجِر، وظلّ كالجوّال التائه في الهويّات المُشتبِكة، تستقطبه أديانٌ ومذاهب، وتسحقه انقلابات وبساطيل، وزبائنية ولاءات بـ"فلوس" النفط. فتكسّرت اللغة وتدحرج التاريخ إلى قاع مأساوي، فتنصّل العربيُّ وتبرّأ. حين يكبرُ المقموعُ على أحلام ميّتة، تُصبح السماء الفسيحة كلّها سدّاً منيعاً من حديد. لذا يعيش العربيُّ اليوم نكبته العظمى ما بعد فلسطين، "نكبة الهويّة" وسؤال الذات المقموعة، وكلاهما جُرحان غائران في اللغة والتاريخ، في الراهن والمُستقبل؛ القبائلُ تحمل صناديق العهود والمواريث ووصفات الأعشاب اليابسة وعظام الأسلاف، وتريد النجاة إلى المستقبل.
كلّ هذه الصَّدمات الحارقة التي تصهر حجر صوّان على مدى قرن ونيّف، لم تُحرّك في العربي قُدرته الكامنة، ولم تستعجله ليلقط الفرصة، ويصنع واقعاً قد يُمهّد إلى أجيال أكثر تعافياً، تملك القدرة على التشافي من الصدمة التاريخية والقمعية، لها استجابة المُساءلة والتعايش، وفيها اعتزاز اللغة والتاريخ، وقيمة التمسّك بالدّار والأرض، وتفتحُ الطريق إلى المستقبل، بشرط إراحة قبائل الصحراء وإزاحة رُكام الدُّونية الكولينيالية. ربما كانت لحظة الربيع العربي انفراجة، لكنّها غاصت في الهويّات المُشتبكة نتيجة غياب المساءلة والتفكير.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- ليست لدارِين وحدها من أطفال فلسطين وغزَّة، وهي ليست بالجريحة، بل نحن هُم الجرحى. دارين هي صورة من يسمو على عجزه بقوّة الحياة. كيانٌ مُختلّ وقوى كُبرى وحشيّة، تقصفُ داراً لآمنين، تطبيقاً لعدالة مُخزية تنتصر لقتَلة ومحتلّين ومنتهِكين، فتخرج الطفلة كالزهرة العتيدة والعنيدة من الرُّكام، لتُؤكّد بقاء الأرض وأهلها. أيُّ رسالة أبلغ؟ الصاروخ المُدجّجُ بالموت والمُدرّعُ بالحديد يتهشّم أمام لطافة الزَّهرة. هذه هي المعادلةُ التي تخوض بها غزَّةَ ودارين وأهل الكوفيّات والأرض الحربَ ضدّ الكيان المُختلّ وداعميه، وينتصرون. الصوت الخفيض لدارين وهند وجوليا ومحمد ولمى جاموس وكلّ أطفال غزَّة خَرَقَ صمت الكوكب، فانتفض العالم وجامعاتُه بطلبتها المقاومين الأحرار، وبدلاً من أن تُمحى دارين، اعترف العالَم بفلسطين. تلك هي الرسالة، وهذه هي الاستجابة.
بطاقة
شاعر وصحافي استقصائي وباحث عراقي من مواليد البصرة عام 1982، يُقيم في النرويج. عمل باحثاً مع "مدرسة لندن للاقتصاد" (LSE) بين عامي 2019 و2022 لدراسة الاحتجاجات في العراق والبصرة، وباحثاً مع "مبادرة الإصلاح العربي" حول تداعيات الآثار المناخية والتعبئة البيئية في العراق. صدرت له مجموعتان شعريتان: "زنجي أشقر" (2012) و"قريباً من السطح عميقاً في الهواء" (2023)، ودراسة نقدية بعنوان "أقنعة القصب، دراسات سايكولوجية في قصيدة النثر" (2013)، وكتاب في الصحافة الاستقصائية بعنوان "العراق ما بعد داعش: أزمات الإفراط بالتفاؤل" (2019). تُرجِمت أعمالُه إلى لُغات عدّة من بينها الإنكليزية والفرنسية والألمانية والفارسية، وحاز جائزة "نسيج" للتنوّع والتعدّدية الثقافية (2017) الممنوحة من "الوكالة الفرنسية لتطوير الإعلام" (CFI) و"مؤسّسة سمير قصير"، وجائزة "Kurt Schork Memorial" للشجاعة الصحافية (2018) من "مؤسّسة تومسون رويترز"، و"جائزة الاتحاد الأوروبي لحرّية الصحافة" ("جائزة سمير قصير"، 2022). أعمالُه متضمّنة في موقعه الإلكتروني: www.safaakhalaf.com