- يعتبر العمل الأكاديمي والإبداعي أدوات فعّالة في النضال ضد العدوان، مشددًا على أن الالتزام بقضية فلسطين يجمع بين القيم الإنسانية، الوطنية، والقومية، ويفتح آفاقًا للتقاء بين مختلف الاختصاصات.
- يعبر عن أمله في انتصار الإنسانية على المادية، معتبرًا فلسطين رمزًا للإرادة والإيمان بالحق، ويوجه رسالة دعم لأهل غزة، مؤكدًا على أهمية فهم وتقدير دروس المقاومة والتحدي.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "أن نكون جزءاً من الطوفان المعرفي الذي يُعيد إحياء الوعي بقضيّة فلسطين لدى الأجيال الشابّة"، يقول الباحث التونسي لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- هناك تغيير كلّي في المزاج والاهتمام منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. لقد تحوّل الاهتمام بصفة حصرية لما يحدُث في غزّة مع تراجُع كلّ الاهتمامات ذات الطابع المحلّي. على سبيل المثال، لم أكتب منذ ذلك اليوم إلّا عن غزّة، وحتى في الجامعة فإنني وجّهت دروسي، عندما كان ذلك مُمكناً، نحو مختلف جوانب قضيّة فلسطين. لا أعتقد أنّ المسألة تتعلّق باختيار، وإنما بالحدّ الأدنى من الالتزام السياسي والأخلاقي لكلّ من يُؤمن بعدالة قضيّة التحرّر الفلسطيني. ما نحتاج إليه لاحقاً هو الاستمرار على هذا النسق وفي هذا التوجّه بغضِّ النظر عن نتائج المعركة الحالية. هذا ضروري لإحياء القضيّة العادلة التي تمثّلها فلسطين ولإبراز الطبيعة الهمجية والإجرامية للمشروع الصهيوني في فلسطين. من ناحية أُخرى، وكمؤرّخ، أعتقد أنّ من واجبي وواجب زملائي تمكين الجيل الشابّ من فهم صحيح، ذي خلفية موضوعية عِلمية، لمواقف مُختلف الدول والقوى من العُدوان على فلسطين، وهذا أمر متاح جدّاً. نحتاج أن نكون جزءاً من الطوفان المعرفي الذي يعيد إحياء الوعي بقضيّة فلسطين لدى الأجيال الشابّة، وهذه الأجيال ستتسلّم المهمّة نفسها لاحقاً. ما حصل في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر هو نقطة انطلاق لتحوّلات عظيمة، ولا يحسن أن نكون على هامش هذه التحوّلات.
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- التحرّر جهد جماعي مركّب ومتراكم. هذا تقليد في كلّ حركات التحرُّر: لا يُمكن لبناية أن ترتفع دون بناء الإنسان الذي يرفعها، وبناء هذا الإنسان يتطلّب تشكيل وعيه، والوعي تكثيف لجُملة من الإدراك. لذلك فإنّ الالتزام ينشأ عن الوعي ضرورة، وليس قبله. أعتقد أنّ الإمكانيات المتوفّرة للأكاديميّين العرب، بغضِّ النظر عن اختصاصاتهم، تسمح لهم بالمساهمة في تشكيل وصقل الوعي بعدالة قضيّة فلسطين وبفضح عدوانية المشروع الصهيوني، وبتواطؤ النظام الدولي مع الاحتلال. هذا أمر ممكن، وضروري اليوم.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- أنا مؤرّخ أكاديمي مختصّ في التاريخ السياسي، كما أنني ناشط سياسي مستقلّ بعد تجربة لبضع سنوات في مؤسسات الدولة وفي الحياة الحزبية في تونس منذ ثورة 2011. لا تناقُض بين التزامي الأكاديمي والتزامي السياسي عندما أكون متأكّداً من أن ما أُدافع عنه في كلتا الحالتين هي قِيمٌ أساسية مثل الحرّية. فلسطين تلخيص لكلِّ القيم الإنسانية والوطنية والقومية، والالتزام بها يفتح آفاق التقاء أكيدة بين الفضاء والاختصاصات، إبداعية كانت أم مدنية.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- أن تنتصر قيم الإنسان على قيم المادّة. هكذا أستطيع تلخيص الأمر. العالَم يعيش منذ أزيد من قرنين عصراً ليبرالياً ونيوليبرالياً عصف تدريجياً بكلّ القيم التي كانت باستمرار في مواجهة هيمنة المادّة. الوضع الذي تعيشه البشرية اليوم هو نتاج تطوّر طويل ومعقّد أفضى في نهاية الأمر إلى هندسة شملت الإنسان والبلدان التي يعيش فيها والمجموعات البشرية التي ينتمي إليها. انتصار القيم الإنسانية مجدّداً سيكون أيضاً عملية طويلة ومعقّدة ومؤلمة، ولكنه الصراع الوحيد الذي يستحقّ أن يخاض اليوم. كلّ هذا تلخّصه فلسطين في نظري، حيث تواجه قيم الحرّية والعدالة والإنسان قوى المال والنفوذ العاتية.
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- عندما قرأت السؤال تبادرت إلى ذهني مباشرة صورة الشيخ عز الدين القسّام. لا يتاح لأشخاص كثيرين أن يكونوا تلخيصاً مُركّزاً ومكثّفاً لجُملة من القيم الإيجابية كالوطنية والإفادة والإيمان، لكن القسّام أحد هؤلاء حتماً. مع عزّ الدين القسّام نحن بإزاء شخصيّة كوّنت وعياً ظلّ في حالة انفجار دائم، ومع كلّ انفجار تتأكّد صلابة وتناسُب ذلك الوعي الذي وضع هندسته مع رفاقه في الثورة الفلسطينية ضدّ الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني. لا نزال في المعركة نفسها إزاء الأعداء أنفسهم تقريباً منذ ذلك الوقت.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- لا أعتقد أن هناك ما يُمكن أن يقال حقيقة. أهل غزّة الصابرون هم معلّمونا وساداتنا ومناراتنا والذين نهتدي بعزيمتهم وإيمانهم وصلابتهم. أستحضر كمؤرّخ حالات كثيرة من تاريخ الشعوب في مكافحة الاستعمار والاستيطان الأجنبي، لكنّ حالة فلسطين تتفوّق عليها جميعاً. هناك درسٌ يخترق التاريخ البشري اسمُه فلسطين. الدرس هو أن هندسة الإنسان يُمكن أن تقلب كلّ الموازين المادّية التي ترسّخ الاستعمار. لم يكن هناك أبداً أبشع من الصهيونية ضدّ الفلسطينيّين، ولم يكن هناك فارق في ميزان القوّة مثلما كان الحال بين الفلسطينيّين والصهاينة. هذه عظَمة فلسطين وغزّة، عظَمة الإرادة والإيمان بالحقّ التي تهزم كلّ قوّة أُخرى مهما بدت عظَمتها.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- هناك الكثير ممّا يُمكن أن يُقال لبقيّة العرب ولكنّني أختزله في فكرة واحدة، هذه الفكرة هي فكرة الطوفان ذاته. اختيار المقاومة تسمية عملية السابع من أكتوبر بـ"طوفان الأقصى" اختيار بليغ، ذلك أنه كان هناك توقّع بأن ما سينتج عن السابع من أكتوبر عظيمٌ وبلا حدود ويُطلق عصراً جديداً. هذا ما ينبغي لبقيّة العرب أن يفهموه، وأوّل دروسه تحدّي ضعفهم وعجزهم عن طريق إعادة بناء الإنسان المقاوم والرافض للظلم والغطرسة والهمجية.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- كلّ غزّة دارين، وأطفال غزّة وفلسطين جميعاً دارين. أكثر من خمسة عشر ألف طفل من ضحايا الهمجية الصهيونية هو رقم لم تبلغه أيّ حرب أُخرى في هذا الظرف الضيّق في تاريخ الشعوب طيلة التاريخ البشري. هناك مجزرة مقصودة، وإبادة مُبرمجة، لأطفال غزّة. أقول لدارين إنها أميرتنا ومعلّمتنا، وقدوة أبنائنا في الصبر والقوّة والتمسّك بالحقّ. أقول لها ما لم تعرفه بعد، وهو أن دماء أفراد عائلتها ستأتي بالحرّية لتعيش دارين وأصدقاء دارين أحراراً في وطن حرّ. "فاصبر، إن وعد الله حقّ".
بطاقة
مؤرّخ وباحث تونسي من مواليد سوسة عام 1966. رئيس مكتب رئيس الجمهورية الأسبق المنصف المرزوقي، ويعمل حاليّاً مُحاضراً جامعياً. من مؤلّفاته: "دولة بورقيبة 1956 - 1970" (2004)، و"الدرّ ومعدنه: دراسة في الخلافات الدستورية النقابية في تونس" (2010)، و"موسم الهجرة إلى الكرامة" (2011)، و"سنوات الرمل: تفكّر في معارك الانتقال الديمقراطي 2011 - 2014" (2021)، و"سنوات الطين: تونس من الديمقراطية الكسيحة إلى الاستبداد الشعبوي" (2023).