تقف هذه الزاوية مع مترجمين في مشاغلهم وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "حين يقف المترجم على مسافة من لغته الذاتية، يستطيع أن ينقل الكتّاب المختلفين بأساليبهم ولغاتهم المختلفة"، يقول المترجم السوري لـ"العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- يمكنني القول إنّ كينونتي ترجمة. السيدة التي أنجبت تسعة أطفال وكانت تضمّهم كالفراخ، كنا نناديها في البيت بالكردية yadê (يادي). ومع دخول المدرسة في السادسة من العمر تبيّن لي أنّه يُصطَلح عليها باللغة الجديدة، العربية، "أمّ"، أو بلهجة أخفّ: "ماما". وعليَّ استخدام هذا المصطلح للتفاهم مع أقرانٍ لا يعرفون الكردية. ثمّ تبين أنّه على باسم ورباب، الشخصيّتين الأسطوريّتين في الكتب المدرسية السورية، ألّا يرميا قشور الموز على الشارع. أوّلاً، ما هو هذا الشيء المسمى "موز"؟ وثانياً، يبدو أنّ هنالك في مكان ما شارعاً مُعبّداً وصقيلاً غير الدرب الطينية أو الترابية، حسب فصول السنة، التي أسير عليها للذهاب إلى المدرسة.
هكذا تمّت التحوّلات الأولى بين لغتين وثقافتين مختلفتين على الرغم من تجاورهما. ثمّ حدثت القراءات الأولى وكانت هذه ترجماتٍ في معظمها، وخاصّة من الروسية. وسّعت هذه الترجمات الأفق على ثقافات مجهولة ومُغرقة في البعد. ما حدث للعقل الغضّ في السادسة من العمر، حدث للذهن الواعي في عام 1996، عندما لجأتُ إلى الألمانية كلغةٍ جديدة تماماً. كنتُ أقارن النصّ الألماني بالعربي لأتعلّم تركيب الجملة الألمانية وكيف يمكن التعبير عنها بالعربيّة. أي أنّ القراءة بحدّ ذاتها أصبحت، منذ ذلك الوقت، تمريناً يومياً على الترجمة للذات، ومن ثمّ أحببت أن يصل ما أقرأه إلى آخرين.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر ترجماتي المنشورة كتاب "فاس الطواف سبعاً" لشتيفان فايدنر، وقد نُشر عام 2019 لدى "دار المتوسط" بالتعاون مع مشروع "آفاق" لأدب الرحلات. حالياً أضع اللمسات الأخيرة على رواية إلياس كانيتي، التي نال عليها جائزة "نوبل" عام 1981 (لم نعثر لها حتى الآن على عنوان مناسب بالعربية)، وكذلك على كتابه الموسوم "ضمير الكلام"، ويضمّ مقالات وخطباً ودراسات كتبها بين عامي 1964 و1974. أرجو أن تُنشر الترجمتان قريباً، على الرغم من جائحة كورونا، حيث تم الاتفاق مع "دار المتوسط" على ذلك.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- لأنّني لا أعيش في العالم العربي؛ لا أعرف حقيقة ما هي العقبات التي تواجه المترجم هناك. لكنّني أستطيع الحدس بأنّ أهمّ العقبات أمام المترجم هي ذاتها التي يواجهها الكاتب. ربما أكثرها ابتذالاً ومَنَعَةً الرقابةُ التي قد تمتنع عن نشر عمل ما أو تحذف منه، لأنّه لا يوافق مزاج كيان سياسي أو ثقافي ما، أو حتى الرقابة الذاتية التي تمنع المترجم من اللجوء إلى ترجمة أعمال يعتبرها "غير أخلاقية" و"غير مناسبة لناسِنا" وإلى ما هنالك من حُجج. ثمّ تبقى تفاصيل النشر والاعتراف بحقوق المترجم، وأعني منها الأدبية أوّلاً. حين يتجول المرء في معرض كتاب عربي يجد أنّ معظم المنشورات ترجمات، ورغم ذلك يتمّ تجاهل المترجم من الأطراف المشاركة في صناعة النشر.
أستغرب من الاستخفاف الذي تعاني منه الترجمة كصنعة
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- ربّما صح القول. من ناحيتي، لا أدفع بأي عمل إلى دار النشر قبل أن يراجعه ثلاثة قرّاء على الأقل. وأحاول أن أنوّع هؤلاء القرّاء، بين قارئ مستمتع، قارئ ناقد، وقارئ مدقّق في التفاصيل. وأرحّب بأيّة ملاحظة، سواء كانت نحوية أو لغوية أو تحريرية، وآخذها بعين الاعتبار دائماً. كما يسعدني جداً أن يكون لدى الدار ذاتها محرّر محترف ــ لكنّ الأمر، للأسف، غير متوافر إلا نادراً. في عملي الأخير، أجريت حوارات مثيرة مع محرّر الدار. لا كاتب ولا مترجم ــ مهما كان متمكّناً من اللغة ــ إلّا وله هفواته وسقطاته، إن لم تكن له أخطاء مهولة. وربما كان الأمر مع المترجم أعمق، لأنّه يتنقّل بين لغتين وثقافتين على الأقل، ولهذا قد ينقل شيئاً من لغة إلى الأخرى دون أن يلحظ ذلك، لأنّه يعتبره طبيعياً. يحدث بكلّ بساطة أنّني لا أتذكّر مفردة بعينها، فما الضير أن يُعينني مختصٌّ على هذا؟ وجود المحرّر المحترف الذي يناقش المترجم، أو المؤلّف، ضرورة جوهرية، الأمر الذي نلاحظه لدى دور النشر غير العربية، فهذه عموماً لا تنشر نصّاً من دون أن يمرّ على محرّر محترف.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- عموماً، أترجم بتكليف من الناشر أو باتفاق مسبق معه، كي لا أدخل متاهة البحث عن الناشر ومسألة العقود وضمان الحقوق، ووضع الترجمات في الأدراج. على كلّ حال لا أترجم إلا ما يرضي ذائقتي، يمتعني، أو أرى له أهمّيّة ليصل إلى القارئ العربي. ما زال هناك الكثير ليتمّ تبادله بين الثقافات المتنوّعة في هذا العالم، والدور في هذا النقل يقع على عاتق المترجمين الذين قد يكتشفون في خبايا الثقافات المنقول منها ما يهمّ الثقافة التي يُنقَل إليها؛ ليطّلع القارئ على الجديد من الأعمال والانشغالات في العالم حوله، على جميع المستويات، سواء العلمية أو الأدبية. بذلك تتواصل وتتلاقح مع الآخر.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- بما أنّني شبه مقتصر على الترجمة الأدبية، فنادراً ما أتصادم مع السياسة، بمعناها المباشر. لكن من المؤكّد أنّني لن أترجم رواية عنصرية أو رواية تدعو إلى الكراهية مثلاً. عموماً، لن أترجم لكاتب يقدّم طروحاتٍ سياسية مخالفة للمبادئ والقيَم الإنسانية المتّفق عليها، ولو بالحدّ الأدنى. لا أستطيع أن أترجم عملاً أو بحثاً يمجّد ديكتاتوراً، مثلاً.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- يتوقّف الأمر على الكاتب ذاته. هناك كتّاب متعاونون ويفرحون بترجمة أعمالهم ويمكن التواصل معهم بأريحية، حين يتعلّق الأمر بمحاولة فهم أو تأويل ما. وبالمقابل، هناك مَن لا يمكن الوصول إليهم. حدث لي مرّة أن أردت الاستفسار عن فقرة معيّنة في رواية "مسح العالم" لدانييل كيلمان، فتواصل معي وشرح لي الفكرة التي يطرحها في تلك الفقرة. كانت وصايا على لسان غوته، وأردت أن أستعلم إن كانت تلك مثبّتة تاريخياً، أي مقتبسة منه فعلاً، فشرح لي كيلمان أنّه فقط يتلاعب على طريقة غوته المقعّرة في الكلام، وبهذا منحتُ نفسي حرّيّة أكثر في معالجة تلك النصائح. أما باتريك زوسكند، على سبيل المثال، فهو منقطع عن البشرية، ولا يمكن بالتالي التواصل معه.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- هذا السؤال مؤلم. وهو الذي يؤدّي إلى القول الشائع إنّ المترجم كاتبٌ فاشل. كنت أكتب في فترات مبكّرة، ولكنّي حقيقةً رميتُ قبل عدّة أشهر كلّ ما كتبته خلال أكثر من أربعين عاماً في حاوية النفايات. أمّا رداً على القسم الثاني من السؤال، فلو كانت الفرصة سانحة كنت سأردُّ بتفصيل أكثر. لكن بالمختصر المفيد، أفترض أن يبتعد المترجم، قدر الإمكان، عن لغته هو، كي لا يتكرّر. أي يُفترض به أن يعزل لغته وأفكاره عمّا يترجمه كي ينقل ويتفرّغ لما يريد المؤلّف أن يقوله، وبلغة المؤلّف. المترجم يترجم لشتّى الكُتّاب، ومن المستبعد طبعاً أن يكتب كلّ هؤلاء بلغة وأساليب متماثلة. وحين يقف المترجم على مسافة من لغته الذاتية، يستطيع أن ينقل الكتّاب المختلفين بأساليبهم ولغاتهم المختلفة. أمّا إذا سيطرت لغته عليه، فإنّنا سنقرأ لكتّاب مختلفين بلغة المترجم ذاتها وبتصريفه هو للنصّ، وهذا ما يضعف من شأن الكاتب الأصل، برأيي.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- لا أعرف. سُعدت حظّاً بالحصول على "جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي" في فرع الترجمة، وذلك لأنّ الناشر قدّم الكتاب للجائزة. من المؤكّد أنّ الجائزة اعتراف بعمل المترجم، كما أنّها دعمٌ مادي قد يكون كبيراً أو صغيراً. لكنْ لا شأن لي بالجوائز العربية، ولا غيرها، مطلقاً، مطلقاً. لا مانع لديّ من استلام جائزة غير ملوّثة، لكنّني لا أسعى إليها.
مأسسة الترجمة ستكون مفيدة حين يديرها متخصّصون حياديّون
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- للأسف، هذا هو واقع الحال. الفوضى التي تسود عالم الترجمة مدمّرة للجميع، ومع انتشار دور النشر العربية كالفطر، لم يعد المرء يعرف ماذا يحدث وأين. وليس قصدي هنا تعدّد الترجمات للنصّ ذاته، فهذه حالة صحّيّة نوعاً ما، شرط أن تتحقّق لها معايير الترجمة النوعيّة طبعاً. مأسسة الترجمة ستكون ــ ولا بدّ ــ مفيدة عندما يُولّى عليها متخصّصون حياديّون لتدعم المترجمين، أو تُستجمع جهات الترجمة للعثور على خطّ سير واضح، والتخلّص من الفوضى العارمة. لكنّ للمؤسسة العربية إشكاليّاتها، فهي، حسب علمي، ليست حيادية، ويغلب عليها العامل الذاتي والمزاجي لرئيسها أو الجهة التي تموّلها، وكذلك الشلليّة، كما هو في كلّ شأن. يحدث أن تتواصل معي جهة ما ثمّ يحدث بعد قليل أن يتبيّن أنّ كلّ المشروع مبني على أحلام. إنّ وجود مؤسسة مستمرّة وراسخة سيساهم كثيراً في حلّ المشاكل القانونية والثقافية والذاتية التي يعاني منها المترجمون عموماً.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- القراءة أولاً، وثانياً، وثالثاً. لا أستطيع ترجمة نص ما من دون أن أقرأه على عدّة مستويات: المحتوى، اللغة، التقنيّات المستخدمة، التأويل أو التأويلات المتعدّدة. ثمّ أحاول الاطّلاع على أكثر ما يمكن ممّا كُتب عن النص، على القراءات المتنوّعة والآراء النقدية المختلفة والمتعارضة. طبعاً في هذه المدّة التي تشبه فترة الحمل، أكوّن لنفسي آرائي وأدوّن ملاحظاتي أو جزئيّات للترجمة. ثمّ أعمل على الترجمة الأوّلية، وهذه، بحدّ ذاتها، قراءة جديدة ومعمّقة: قراءة كلّ جملة، بل كلّ كلمة في السياق العام. وقد تؤدّي هذه القراءة إلى إعادة النظر في القراءات الأوّلية. كلّما انتهيت من فصل أو عدد معيّن من الصفحات أعود لأقارن ما ترجمته مع النص الأصلي من جديد، ربّما عدّة مرات. ثمّ أترك النصّ الأصلي وأشتغل على النصّ المترجم كي أحسّنه ضمن حدود الإمكان. وتأتي من ثمّ مرحلة التدقيق اللغويّ والتحرير والقراءة النهائية. على كلّ حال، هي سيرورة طويلة جداً، لا مجال لسرد تفاصيلها، فكلّ تجربة تُوَلِّد تداعياتها.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- لا أتذكّر النصوص القصيرة أو المقالات الكثيرة التي ترجمتها. أما من ناحية الكتب، فلا يمكنني القول إنّني نادم على أحدها. ولكن، لو راجعت كلّ ما ترجمته اليوم، سأجد فيه الكثير ممّا سأعيد قراءته وتصحيحه بالتأكيد، حتى ولو كان ذلك مفردات أو مصطلحات. عندما أرادت "دار المدى" أن تعيد نشر أعمال زوسكند، مثلاً، عملتُ كثيراً على النصوص التي ترجمتُها، كأنّني أعيد الترجمة من جديد، وكلّما أعدتُ قراءة ما صنعته، أجريتُ عليه تغيرات ولو طفيفة.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- الدقّة وعدم التهاون في الترجمة. ما زلتُ، حتّى اليوم، أتردّد أحياناً وأسأل كثيراً عن كلّ ما أترجمه، وأستغرب حقيقة من الاستخفاف والاستسهال اللذين تعاني منهما الترجمة كصنعة. يُشاع أنّ الترجمة عملُ مَن لا عمل له. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، أتمنّى أن يقدّر العرب مترجميهم، ويلتزموا بعقودٍ تُقارب العقود العالمية المتعارَف عليها، ويضمنوا لهم حقوقهم ويدفعوا لهم مستحقّات مناسبة. لحسن الحظ، لا أعتمد على الترجمة الأدبية كمصدر دخل أعيش عليه. لكن من المعيب أن ينال إنسانٌ، أتعب نفسه في ترجمة مئتين أو ثلاثمئة صفحة، على خمسمئة دولار مثلاً. حلمي؟ حلمي أن أستمرّ في هذه المتعة من دون الحاجة إلى تسوّل المستحقّات.
بطاقة
كاتب ومترجم سوري، من مواليد تل عربيد، عام 1968. مقيم في ألمانيا منذ 1996، ودرس فيها العلوم الإسلامية والآداب الألمانية. يعمل منذ 2005 مترجماً ومدرّساً للغة العربية في جامعات ألمانية. صدر لهُ في التأليف: "الشعر العربي والوعي الجمعي: نزار قباني مثالاً" (بالألمانية، عن دار "غرين"، 2010).
وفي الترجمة إلى العربية: "حياة هتلر" (2005) لسيباستيان هافنر؛ و"في خطو السرطان" (2006) لغونتر غراس؛ و"العطر" (2007)، "الحمامة" (2007)، "ثلاث حكايات وملاحظة تأملية" (2007)، "الكونتراباص" (2011) لباتريك زوسكند؛ و"يد ملأى بالنجوم" (2009) لرفيق شامي؛ و"امبراطورية بوش أو الابن المحظوظ" (2005) لجيمس هوتفيلد؛ و"المؤامرة: نظرية المؤامرة وأسرار 11/ 9" (2005) لماتياس بروكرز؛ و"أسئلة مخفية حول الإسلام" (2007) لشتيفان فايدنر؛ و"السميع" (2008) لنفيد كرماني؛ و"مسح العالم" (2009) لدانييل كيلمان؛ و"هذا الجسد" (2009) لكريستا فولف؛ و"جهات الغرب" (2011) لميشائيل كولماير؛ و"بحر أكثر" (2011) لإيلما راكوزا؛ و"أمير الضباب"(2012) لمارتين موزباخ؛ و"ظهور بوغاتي" (2015) لديا لور.
كما ترجم إلى الألمانية، بمشاركة ياسمين غوكبينار، كتاب "عيسى بن هشام، الرحلة الثانية" (2014) لمحمد المويلحي. حاصلٌ على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات" (2019).