تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "سيلاحظ الكتّاب أنّ المترجِمين لا يكتفون بالمعنى الظاهر في نصوصهم، بل يستجلبون المزيد من المعاني إليها"، يقول المترجم الأهوازي لـ"العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتكَ مع الترجمة؟
- لم يخطر ببالي في يومٍ من الأيام أنَّني سأُمارس الترجمة. أذكر في منتصف التسعينيّات، أنه طلب صديقٌ منّي أن أُترجِمَ لصحيفةٍ عربية، بالطَّبع مجّاناً، لكنَّني انصرفتُ عن هذه الفكرة قبل ولادتها. في عملي الإذاعي؛ فُرضت عليّ التَّرجمة كمذيع، حين يغيب المترجمون في البرامج المباشرة. لكن الترجمة الحقيقية، وهنا أتحدَّثُ عن كتاب، كانت مع مقترح الشاعر نوري الجراح في اختيار رحلةٍ معاصرةٍ لترجمتها، ووقع الاختيار على رحلة الروائي صادق هدايت ورحلتهِ اليَتيمة "أصفهان نصف الدنيا"، التي قام بمراجعتها وتحريرها الشاعر علي كنعان. أعتقد أنَّني محظوظ جداً لأنَّني بدأتُ معهما.
■ ما آخر الترجمات التي نشرتَها، وماذا تترجم الآن؟
- آخرُ ترجمةٍ صدرت لي هي رواية "قسم المحكومين"، للقاصّ والرّوائي كيهان خانجاني. وأنتظر صدور رواية "امرأةٌ على هامش صحيفة"، للمترجمة والرّوائية شبنم بزركي. وأيضاً أنهيت مراجعة ترجمة روايتين وكتاب في الفكر الاجتماعي. في الفترة الأخيرة أحاول استيعاب منجزِ قاصٍّ وروائيٍّ مهمٍ جداً، مهم باعتراف النّقاد والكُتّاب الإيرانيين، صدرت أحكام في حقه، وسُجن وعُذّب قبلَ الثورة (الإسلامية في إيران) وبعدها، وقد ترك البلاد وهاجر. كلّ هذا لأنَّه ثَبت على كلمتهِ وكَتب أوَّل نصٍّ ضدّ الحرب (الإيرانية ــ العراقية) ومعارض قوي للرَّقابة. هو قاضي ربيحاوي. شخصيّة عاشت الحرب، وهو يتنفّس الغرائبيّة، إذا كُنّا نتحدَّثُ عن الغرائبيّة. كأنَّما الحَربُ قد فَرضت عليه هذه الحالة؛ خاصةً أنَّه كان يعيش في منطقةٍ حدودية بين إيران والعراق. أعمل من جديد على فهم فِكرته لأنَّه يُمثِّل جيلاً مهماً ومنجزاً تأسيسيّاً.
نواجه عقبات كبيرة كمترجمين أهوازيين نعيش حالة بين بين
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- أعتقد هنا أنّ علينا شرح نقطة، ثمَّةَ عقبات بالتأكيد، بالنسبة إلى مَن هم في مثل وضعي في حالة بين بين. أقصد، يُنظر لهم كمترجمين عرب، لكنَّهم بعيدون عن العالم العربيِّ، بعيدونَ بالجنسيَّةِ وبعيدونَ كحملةِ جوازِ سفر، لا يمكنهم متابعة أمورٍ تتعلَّقُ بإجراءت صدور الكتاب، وعدم تَمكُّنِنا من الحضور في معارض الكتب، إنَّنا نمتهن الانتظار. تخيّل مثلاً؛ بعض الكتب التي ترجمتُها لم أحملها حتى هذه اللحظة، رغم صدورها منذ سنوات. لم أعد أشتكي، قد تكون الترجمة ساهمت في فهمنا أنّ العَقبات العصيبة مع الوقت سترخي حبالها. أعتقد أنّي أُحاول التَّهرب من هذا السؤال.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- من أجمل مراحل الترجمة (أو حتى الكتابة)، مرحلة التحرير. المُحرِّر شريكٌ أساسيّ في العملية الإبداعية. هذا الصراع بين إدخال صياغات جديدة وبين تعديلها، إيجاد بدائل كانت تُستخدم قبل قرون ونسيناها وسط الصراعات، والمُحافظة على أمانة النّص عبر زرع مفردات تتقبّلها اللغة؛ لكن الذائقة القرائية أو الخوف منها لا يقبلها. لا يقوم بهذا التحرير من يجد نفسه موظّفاً عليه التخلُّص من النص للعَمل على نصٍّ آخر. ما لمسته من نجاحٍ في الترجمات كان مع مُحررِّين، يَدخُل معكَ في أعماق النص، الأمر بعيداً جداً عن تدقيق لغويٍّ فقط. الحقيقة بعد تقديم كلّ ترجمة، أنتظر المُحرِّر الذي سأعمل معه، ولا أعلم لماذا تخفي بعض دور النشر المُحرِّر عن المُترجم، لتنحصر مُراسلات التَّحرير بين المسؤولين في دار النشر والمُترجم. بالطبع العكس صحيح تماماً، إذا دخل المُحرِّر بقناعة أنّ ثمّة ثوابت لا تتغيّر.
أحاول استعادة صياغات قديمة نسيناها وسط الصراعات
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- لم أواجه مشكلة مع العناوين المُترجمة حتى الآن.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- حتّى لو حاولنا تناسي الأطروحات السياسية، بيد أنَّها تفرض نفسها. أذكُر بعض الكُتب التي اقتنعتُ بترجمتها، لأبدأ، مثلما هي العادة مع كلّ كاتبٍ أو كاتبةٍ يقعُ ضمن دائرة الترجمة، في البحث عنه وعن منجزاته وخاصة عن حواراته. لأنصرف بعدها عن ترجمة الكتاب. أقتنع بالابتعاد عنه بعد قراءة حواراتهم.
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- صداقة تَعبرُ الترجمة. هم شركاء في ترجمةِ أعمالهم، دائماً أجدُ نفسي مُتشكِّكاً في معنى الجُمل، كأنَّها مُفتَرقاتُ طُرقٍ وعليكَ اختيار إحداها، لكنَّه شكٌّ تُرجمانيّ. في الأمر حساسية مع سؤال الكاتب أو الكاتبة عن الجملة التي تشكّ فيها، فقد يشكّ هو بدوره في قُدرة المُترجم على فهم نَصّه. وعلى العكس، سيلاحظ الكاتب أنّ المُترجم لا يكتفي بالمعنى الظاهر؛ يريد استجلاب المزيد من المعاني. المُهم، ربطتني علاقات طيبة مع الكُتّاب، والبعض منها باتَ صداقةٍ أعتزّ بها، نتبادل الآراء في بعض الأعمال ونثِق ببعضنا. وحدثَ مرَّةً واحدةً أنّي ندمت، ليس على التَّرجمة للكاتب، بل على صداقةٍ ربطتني به.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- أُحاوِلُ السيطرة عليه في المُراجعة النهائية. يظهر الكاتب مع أوَّل قراءة، له دور كبير حتى في اختيار النصّ للترجمة. إنَّه الباحث في داخلِ النَّص عن المُغاير والمُختلف والشريك. ولا مَهرب من تنميتهِ في قراءة المَزيد من الكُتب؛ لتواكب الأساليب الحديثة وصياغاتها. يترك المترجم جزء منه ككاتب في الترجمة.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- لا أعلم، لا أعلم عنها الكثير لأني شاركت مرّة واحدة تحت إصرار أصدقاء، والبعض منهم كان في لجنة التحكيم (انسحبوا من لجنة التحكيم قبل إعلان الجائزة). شعرتُ أنَّني في عملية تهريب. أُغلقت أكثر مكاتب البريد الدوليّة في إيران مع العقوبات الحالية، وكان عليّ البحث عن مكاتب مُتخصِّصة في إرسال المَرسولات عبر طُرقٍ غريبة، مع طلب مبالغ كبيرة بالنسبة إلى إرسال كُتب. أشعرُ أنّ المترجمين آخر من يفكّر في الجوائز.
الأطروحات السياسية تفرض نفسها مهما حاولنا إخفاءها
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- تنطلق مشاريع المؤسسات بقوة مقدمةً إصدارت مُغيّبة ومهمّة؛ ومع مرور الوقت تخبو نار حماستها. كأنَّ المؤسسات تركن إلى نمطٍ مُعيَّنٍ في النِّهاية ولا تحيد عنه إلّا قليلاً. بينما العمل الفردي لا يَكفُّ عن المُغامرة والاكتشاف والتجريب. ثمَّة ترجمات مجنونة، لأتساءل كيف استطاع المترجم/ة أنْ يُقدِم على ترجمةِ مثل هذا النصّ. وآخر ما تفكّر فيه المؤسسات تقديم جنون مترجم.
■ ما المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- ثمّة قاعدة لا أحيد عنها بعد تأكّدي من أنَّني سأعمل على كتاب، أُرسل نُسخاً منه أو أقترح قراءته على مجموعة من الأصدقاء أثق برأيهم: مولود بَخشي زاده، مُحرِّرة وقارئة وصاحبة ذوق رفيع؛ ومحمد حزبائي، صحافي ومترجم عن العربيّة؛ وكريم أسدي، صحافي ومُترجم عن العربيّة، وآخرون. هذه مرحلة اللغة الفارسية. وعلى الجانب الآخر (بعد ترجمة النّص إلى العربيّة) ثمَّة أسماء أثق برأيها. يبدأ الأمر عبر قراءة عادية ثم تتصاعد النِّقاشات، إمّا في صالح الكتاب أو العكس. وأذكر هنا أنه لم يكن من بين الكتب التي ترجمتها إلّا كتاب واحد كان مرشحاً من دار نشر.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- ما قلته عن مراحل الاختيار لا يترك لي مجالاً للنَّدم، ولكن لو أُتيح لي لأعدتُ النظر في صياغةِ بعض الترجمات وتعديلها وإعمال جراحةٍ لغويَّةٍ فيها. وجدتُ أخطاءً ووجد بعض القرّاء والأصدقاء أخطاءً.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- كلّ كتاب أقرأه وأُعجب به أتمنى أن يُشاركني به آخرون، تخيّل هذا التَّمني موجود عند عشرات المُترجمين، تخيّل عدد الكتب التي نتمنى إنجازها. حلمي... أظنّ أني لم أعد أحلم كمترجم.
بطاقة
كاتب وصحافي ومترجم من مواليد الأهواز عام 1977، من ترجماته عن الفارسية: "المرأة التي أضاعت رجلها" لـ صادق هدايت (2006)، و"صيف ذلك العام" و"لا ريب فيه" لـ طاهرة علوي (2015)، و"أصفهان نصف العالم" لـ صادق هدايت (2015)، و"عيناها" لـ بزرك علوي (2016)، و"خالي العزيز نابليون" لـ إيرج بزشكزاد (2017)، و"الكتابة بالكاميرا: وجهاً لوجه مع إبراهيم كلستان" لـ برويز جاهد (2017)، و"فروغ فرخزاد: الرسائل السرية والسيرة الأدبية" لـ فرزانة ميلاني (2018)، و"جهة العربية" لـ مرتضى كربلايي لو (2019)، و"قسم المحكومين" لـ كيهان خانجاني (2020). ومن مؤلّفاته: رواية "حمار الغجر الأحمق" (2019).