مفكرة المترجم: مع أمل فارس

29 ابريل 2023
أمل فارس
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "أتمنّى ألّا تُصبح الترجمة سوقاً تجاريّة للتنافُس الفارغ، وأن يُتاح لكلّ كتاب عربيّ قيّم الوصولُ إلى لغات العالم"، تقول المترجمة السورية في لقائها مع "العربي الجديد".



■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟

- منذُ اليوم الأوّل الذي دخلتُ فيه مجتمعًا غريبًا عنّي، في المهجر اللاتينو - أميركي، أواخر التسعينيات، في قرية صغيرة تُدعى غوانابّي في فنزويلا، بدأتْ المترجمة بداخلي تعمل في اللاوعي لفهم ما يدور حولها، ثم فاجأتني عام 2015 رغبةٌ قادتني ولم أقدها إلى التطوّع في ترجمة مقالات صحافية في موقع عالمي يبذل فيه الجميع جهدًا في تعريب النصوص بدافع الحُبّ والشغف باللغة. لا عائد ماديّاً ولا جوائز. بعدها خطرت لي فكرة ترجمة مقابلات لكتّابي المفضَّلين ليولد كتاب الحوارات عام 2018، عن "دار ممدوح عدوان"، لتكون بدايتي كمترجمةٍ أدبية.


■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتِها، وماذا تترجمين الآن؟

- رواية الكاتبة الكولومبية لاورا ريستريبو "ملاك الجليل، صحبة حلوة" هي آخر ترجماتي. صدرت عن "دار المدى" في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022. أمّا ما بين يدَيّ الآن، فهو عملٌ للكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو، سيصدر عن "دار جدل" الكويتية هذا العام. 


■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟

- لنبدأ بالعموم، فالمترجم عربيًا أو عالميًا، عليه أن يجتاز العقبة الأُولى والأساسية، وهي ذاتُه، أي قدرته على التحكّم في مهاراته وحملِ نفسه على التركيز والالتزام وتفريغ العقل ممّا يشغله إلّا من النصّ الذي يعمل عليه. أمّا عن المترجم العربي، فالترجمة تحتاج، مثل أي فعلٍ آخر، إلى الحرّية وتقدير الجهدِ المبذول، وهذه مساحة ما زالت تؤثّر في عمل المترجم العربي، الأُولى تمنع عنه خيارات معيّنة بسبب عدم تلاؤمِها مع الرقابة الثقافية، والثانية تُسبّب الإحباط وتدفعه إلى البحث عن عمل آخر لكسب عيشه. التفرّغ مطلوب للترجمة تمامًا كما هو للكتابة الإبداعية، وقبل أن يجري تبنّي هذه الفكرة سيبقى المترجم يجاهد بوقته، وأحيانًا بماله الخاص، لإنجاز ما يرغب في ترجمته.

العقبة الأُولى والأساسية التي تواجه المترجمَ هي ذاتُه

■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟

- إذا اعتبرنا أنَّ المحرّر، بالضرورة، عارفٌ باللغة وقواعدها، فهذا سيفيد في التقاط أخطاء المترجم قبل أن تصل للقارئ، وهو أمر جيّد. لكنّه قد يكون كارثيًا إذا تعدّى الأمر ليدخل في صياغة الفكرة أو الأسلوب. نحن نتحدّث عن نصٍّ لثالثٍ غائب، أي أنّ مسؤولية المترجم عدا عن محاولته بأقصى ما يستطيع المحافظة على النصّ الأصلي هي أن ينوب عن الكاتب. إذا سمحنا بتحريرٍ للنص يمسّ بُنيته في لغته الأصلية فقد فتحنا بابًا على مصراعيه لتحريف النص. المترجم حارسٌ للنص، له صلاحيات تفرضها وتُبرّرها مشقّة "نقل الماء باليدين"، وفقا لوصف طلال بوخضر للترجمة، وفي الوقت نفسه تحكمه ضوابط تمنعه أخلاقيًا ومهنيًا من التساهل في هذا الشأن.

لديَّ صديق مدقّق يقرأ لي أعمالي قبل أن أرسلها إلى دار النشر، أدعوه بعيني الثالثة، فبعد شهور من العمل على النصّ أُصاب بالعمى عن أخطائي. ولا أعتبر الأمر رفاهية، إنّما حاجة وضرورة تصبُّ في صالح العمل.


■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟

- علاقة تعاوُن متبادلة، لديَّ دائمًا عناوين أعرضُها على الناشرين. تلقّيت حديثًا قبولًا على عملين سعيت لترجمتهما وهذا أسعدني كثيرًا، وأتلقّى عروضًا منهم بالمقابل. إنّها علاقة جيّدة ومهنية قائمة بالدرجة الأُولى على الثقة والالتزام، وأرى أنّ طبيعة العلاقة بين الناشر والمترجم القائمة على احترام الحقوق المُتبادل تُعدُّ من عوامل النجاح لكليهما. 


■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها، وإلى أي درجة تتوقفين عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟

- في هذا الطرح إشكالية لن تُحلّ إلّا بفصل الكاتب عن نتاجه الفكري. على مدى التاريخ صُدمنا بمواقف سياسية لكتّاب نُكنّ لهم أسمى تقدير لإسهاماتهم الفكرية المهمّة (على سبيل المثال سيمون دي بوفوار التي ناصرت الاحتلال الإسرائيلي)، ولكن علينا الاعتراف بأنَّ شريحة معيّنة من القرّاء لا تهتمّ إلّا بالمعرفة من حيث أنّها الهدف الأسمى. وإن نحن مارسنا التشويه بحقّ نتاج كاتب بسبب آرائه السياسية، فنحن نمارس دكتاتورية معرفية بحقّه، وهذا لا يعني أنّي شخصيًا أميل لاحترام الكاتب الذي يتبنّى موقفًا داعمًا للدكتاتورية أو الاحتلال أو أفعال مشينة إنسانيًا. على العكس، يمكن أن أحتقر شخصه، لكن في الوقت عينه أستفيد من معرفته. النسبية لا تدع لنا مجالًا للتهرّب من وضع كلّ الاحتمالات على الطاولة قبل الحُكم.

رسالة إلى ستالين- القسم الثقافي

■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجمين له؟

- علاقتي بالكاتب تبدأ بالنص وأحيانًا تنتهي عنده. في الغالب هي علاقة محبّة روابطها معرفية وجسدها الكلمات، تقوم على مشاركة المعلومة والشغف بالعالَم الذي سأمضي داخله شهورًا. أسعى دائمًا إلى التواصل مع الكتّاب الذين أترجم لهم إن كانوا على قيد الحياة. حتى الآن تواصلت مع غالبية الكتّاب الذين ترجمتُ أعمالًا لهم أو مقالات، بمن فيهم المُلهِمة إيزابيل ألليندي، وأتلقّى ردودَ فعلٍ إيجابية منهم حيال أسئلتي وتواصلي. وحدث مرّةً أن اتّفقتُ مع الكاتب المكسيكي خورخيه كومنسال على تصحيح فقرة مغلوطة في روايته "الطفرات" الصادرة عن "دار تكوين" الكويتية، لم ينتبه لها ولم تنتبه لها لجنة التحكيم.


■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟

- لا يمكن فصل الكاتبة عن المترجمة، ولا في أيّ لحظة خلال العملية. الكتابة هي السابقة على الترجمة، لكن الترجمة تتجاوز الكتابة من حيث أنّها خلق لنصّ جديد. أي أنهما مكمّلتان بعضهما لبعض في مرحلة ما، ثمّ تنفصلان عند انتهاء العمل وولادة نصّ بلغة جديدة. لنقُل إنّهما صديقان لدودان. تارًة يتّحدان وتارًة يتنافران، ودعنا هنا لا نخصُّ المترجم العربي. خوليو كورتاسار الروائي والشاعر الأرجنتيني، على سبيل المثال، عُرف كمترجم أوّلًا منذ أواخر الثلاثينيات، كما أنّه عمل مترجمًا محلّفًا لدى "يونسكو" قبل أن تصدر ترجمته الأُولى لرواية "روبينسون كروس" للروائي الإنكليزي دانييل ديفو عام 1945.


■ كيف تنظرين إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟

- الجوائز مهمّة، وآن الأوان أن تتوسّع ذهنية المكافآت لتشمل أوسع شريحة ممكنة من المترجمين والمبدعين.

الترجمة عملٌ جماعي وإن اعتمدت أساساً على جهد فردي

■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظرين إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟

- لا يمكن إنجاز الترجمة بالاعتماد على الفرد. حتى المشاريع التي ندعوها فرديّة وتقوم بين المترجم ودار النشر هي في النهاية عمل جماعي إن اعتمدت في أساسها على جهد المترجم. فهي تشمل المدقّق ومصمّم الغلاف ومسؤول الطباعة وجنوداً مجهولين لا نعرفهم. أؤمن بالعمل الجماعي وبتجاوز الأنا في المشاريع الكبرى والعمل المؤسّساتي، لكن لا أحبّذ الانتماء إلى أيّ مؤسّسة يفتقر أعضاؤها إلى روح العمل الجماعي واحترام وجهات النظر والجهد، وهذا باعتقادي ما نفتقر إليه.


■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها كمترجمة، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟

- بدايةً لا أباشر بترجمة العمل بشكل رسمي إلّا بعد توقيع العقد، ولا أبدأ بعمل جديد إلّا بعد أن أفرغ من المسوّدة الأُولى للعمل الذي بين يدي. أقسّم أشهر العام وفقًا لجدول الترجمة وأضع فترات بسيطة للقراءة بينها، ثم فترة أخيرة للمراجعة النهائية قبل إرسال العمل إلى الدار. ألتزمُ بمواعيد التسليم وأتجنّب قبول أعمالٍ بدأها غيري ولم يكملها، أو لم تُحصّل حقوق التأليف الخاصّة بها تحت أيّ ظرف.

عاداتي تختلف مع ازدياد الخبرة. في البدايات، مثلاً، كنتُ أكتب مسوّدة الترجمة على الورق، بما في ذلك المفردات الجديدة التي تلفتني في كلّ نص، بعدها انتقلت إلى الكتابة الإلكترونية لاختصار الجهد والوقت. هناك عادةٌ وحيدة لم تتغيّر، وهي اقتناء النسخة الورقية للكتاب الذي أترجمه.  


■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟

- لم أعرف الندم يومًا. كلّ ترجمة هي تجربة مفيدة حتى تلك التي ما زالت حبيسة الأدراج بانتظار أن تجد ناشرًا.


■ ما الذي تتمنّينه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجمة؟

- لا أدعوها أمنيات، بل أهدافًا أتقدّم نحوها، وأهمُّها إنجاز قائمة الكتب التي أودُّ ترجمتها لأتفرّغ للكتابة بشكل نهائي. لكنّني أتمنّى للترجمة ألّا تصبح سوقًا تجاريّة للتنافس الفارغ، وأن تتخلّص من قيود الرقابة الفكرية، وأن يُتاح المجال لكلّ كتابٍ عربيّ قيّم أن يُترجم للغات العالم.



بطاقة

كاتبةٌ ومترجمةٌ سورية من مواليد السويداء عام 1982. تحمل الجنسية الفنزويلية، وتعيش في نيويورك؛ حيث درست الأدب والعلوم الإنسانية بجامعة روتشيستر فيها. تُترجِم عن اللغة الإسبانية وإليها. صدر لها كتابٌ ضمّ حوارات أدبية مترجمة بعنوان "دردشة معلنة" (2018)، إضافةً إلى روايات "الطفرات" (2020) للمكسيكي خورخيه كومنسال، و"رسالة إلى ستالين" (2021) للإسباني فرناندو أرابال، و"ملاك الجليل، صحبة حلوة" للكولومبية لاورا ريستريبو (2022).

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون