تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "من حق القارئ أن يقرأ ما يريد الآخَر الذي أُترجم عنه، في سبيل المعرفة والمقارنة والتحليل والاختيار"، تقول المترجمة المصرية في حديثها إلى "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
كان أوّل ما ترجمته عام 2009 نصًّا قصيرًا حالمًا كتبه ليون تروتسكي في شبابه، ترجمتُه لأنّه أعجبني بعد أن قرأته بالإنكليزية لدى عمّي المترجِم الراحل بشير السباعي الذي أَدينُ له بالفضل، فهو قدوتي في حبّ الترجمة والإخلاص في العمل. ثم عملتُ في ترجمة المقالات والنصوص القصيرة حتى عام 2014، حين بدأتُ في أولى ترجماتي المنشورة، بعد أن رشحني أستاذي ومُرشدي المترجم الراحل خليل كُلفت لترجمة كتاب "رحلة هاملت العربية: أمير شكسبير وشبح عبد الناصر" لأستاذة الأدب المقارن مارغريت ليتفين، عن تطوّر احتياز شخصية هاملت في الخطاب العربي على تنوّعه في مختلف الدول العربية طوال قرن كامل، وعهد إليّ "المركز القومي للترجمة" بالعمل بعد فَحْص ترجمتي لعيّنة من 12 صفحة.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجمين الآن؟
رواية "اترك العالم خلفك" للأميركي رومان علَم، وهي رواية تتعرّض لقضايا الأعراق والطبقات وغيرها من الفوارق الإنسانية التي تتلاشى تحت وطأة الكوارث، صدرت الترجمة عن دار "الكرمة" في القاهرة العام الماضي. أنتظر النسخة النهائيّة لترجمة رواية بديعةٍ حُوِّلت إلى فيلم حصل على عدة جوائز "أوسكار" عن الدار نفسها. حاليًّا أعمل في ترجمة مشتركة على رواية لكاتبة نرويجية، وبشكل فردي أُترجم سيرة ذاتية لامرأة شهيرة مُكافِحة ألهمتني، وسأنشر إلكترونيًّا القدر المسموح به قانونيًّا منها إذا لم أجد لها ناشرًا قريبًا.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
التعنُّت، سواء من الناشر أو القارئ، فسياسات النشر تختلف من ناشر إلى آخر وذائقة القُرّاء متباينة، واللغة كائن متغيّر والأساليب تتطوّر، وهذا يحتاج لمُتلقٍّ مُنفتح على الاحتمالات. أيضًا عدم التقبّل الكامل لكون الترجمة فعل تعريف بالآخر وانفتاحا على ما لا نعلمُه من ثقافته وأسلوب حياته، وبالتالي محاولة تطويع الترجمة كي نكيّف ما لا نعرفه مع ما نعرفه. أما العقبات الأُخرى مثل ضعف تقدير الحقوق المادّية، وتأخُّر الحصول عليها أحيانًا فهي معروفة وقيل فيها الكثير، للأسف كي لا يخضع المترجم لما لا يقبله، عليه أن يؤمّن مصدرًا إضافيًّا للدخل، وبالطبع هذا يستنزف الوقت والجهد اللذين من الأَولى تكريسهما للترجمة.
أتمنى ألّا نخاف مما يُترجم، ألّا تُمنع ترجمة أو يُحذف منها
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
ليس دائمًا. كانت أفضل تجاربي مع محرِّري دار "الكرمة"، وهذا لأنّ الكل بها يعرف دوره ويحترم دور الآخر. أرتاح كثيرًا لوجود مُحرّر متفهّم ومتعاون، أربع عيون أفضل من اثنتين بالتأكيد. لكن الارتياح المُتبادل يتحقّق بالنقاش الهادئ والمُثمر إذا رأى المُحرّر إجراء أيّ تعديلات، فإمّا أن يقنعني أو أُقنعه. تصبح التجربة سيّئة إذا تصرّف الناشر والمحرّر من تلقاء نفسيهما أو لم يتصرّفا على الإطلاق.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
أسعدني الحظ بالتعامل مع عدد من الناشرين الممتازين، ولم تسِر الأمور على نحوٍ مُرضٍ تمامًا مع آخرين. أتفهّم تمامًا الحسابات والمعوّقات التي يخضع لها الناشر، بعد حوالي عشر سنوات من العمل في ترجمات منشورة، صدرت لي 7 ترجمات، وفي انتظار صدور 8 أُخرى في الرواية والتاريخ والأنثربولوجيا لدى ناشِرِين مُختلفين تأخّرت بسبب ظروف السوق وخطة النشر. أما العناوين فقد جرّبت مسألة الاختيار والعَرْض على الناشرين وقُوبل الاختيار بالرفض لأسباب مثل كبر حجم الكتاب، أو عدم ملاءمته للقارئ العربي، وغير ذلك. فاتّخذتُ شبه قرار بتَرْك مسألة الاختيار للناشر والاحتفاظ بحقّ القبول أو الرفض لنفسي، وتدليلها بترجمة ما يُعحبني ويُرضي ذائقتي الشخصية ثم نَشْر القدر المسموح به قانونًا من الترجمة إلكترونيًّا.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها، وإلى أي درجة تتوقفين عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
أبتعد تمامًا عن الطرح السياسي المُباشر. أُترجم النص كما هو من دون تدخّل منِّي أيًّا كان ما يتضمّنه أو يتوارى بين سطوره من طَرْح سياسي أو أيديولوجي. أهتمّ للنص وجُودته أكثر من اهتمامي للكاتب ومواقفه الخاصة، شرط ألَّا يكون النص تحريضيًّا في أيّ اتجاه، بل تعريفيًّا، لأنني أومن أن من حق القارئ، أيًّا كان انتماؤه، أن يقرأ ما يريد الآخَر الذي أُترجم عنه ما يقوله، في سبيل المعرفة والمقارنة والتحليل والاختيار. أما أن يكون القارئ أو المترجِم أداة في يد كاتب ليُساق في اتجاه سياسي أو أيديولوجيّ ما، فهذا ما أرفضه. وبوجه عام لم أدخل تجربة حقيقية في هذا الصدد فأغلب ترجماتي أدبية، ولا أعتقد أنني سأقبل ترجمة نص سياسيّ صرف، فليست السياسة من موضوعاتي المفضلة.
أثناء الترجمة أستمتع بدور المتعلّمة الذي لا ينتهي
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجمين له؟
تصادف أن التقيت مارغريت ليتفين، مؤلفة أول كتاب ترجمته، والمفكّرة الراحلة نوال السعداوي التي كانت محور ترجمتي الثانية بعد أن تواصلنا بالبريد الإلكتروني أثناء الترجمة، وقدّمتا كثيرًا من العون للردّ على الاستفسارات وتوفير أصول الاقتباسات العربية. كان كلٌّ من اللقاءين تتويجًا لانتهاء الترجمة بجلسة لطيفة رائقة خلت من التكلّف. أما بقية الترجمات فلم يكن هناك ضرورة للتواصل إلَّا في ما ندر، وتم ذلك بين الناشر ووكيل الكاتب للاستفسار عن بعض الأمور. عادة أقرأ عن الكاتب ومؤلّفاته وما قد أصل إليه منها، لأعرف موطئ قدمي. لكنّ كاتبًا واحدًا أعجبت بشخصه وتجربته كثيرًا، وهو النرويجي يون فوسَّه.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
مارستُ الكتابة لكنّني لم أمتهنْها، ولم أسعَ لنَشْر ما أكتبُه، احترافيًّا على الأقل. قرّرتُ منذ سنوات توجيه طاقتها إلى الترجمة. نبّهني عمّي المترجم الراحل بشير السباعي إلى أنّ المترجمة ستطغى على الكاتبة في داخلي. وقال هذا صراحة في آخر حوار له مع "جريدة الأهرام إبدو" قبل رحيله بشهور، قال إن الترجمة أثّرت على كونه شاعرًا، وهذا ما ستفعله مع الكتابة بالنسبة لابنة أخيه "التي فيما يبدو ستسير على خطى عمّها"، وكان قوله هذا وسامًا أرجو أن أستحقه، ونبوءة لا أعتقد أنني سأنقضها.
■ كيف تنظرين إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
الجوائز تكريم ودعم. لكن أيًّا كان مجالها لا أفهم معاييرها دائمًا. بالتأكيد سأسعد لحصولي على جائزة، وأتجاوب إذا طلب مني الناشر موافقة على الترشّح، وربما أتقدّم شخصيًّا ذات يوم بطلب الترشّح عن إحدى ترجماتي، لكنّني لا أشغل نفسي بالأمر لما هو أبعد من ذلك. من المفترض أنّ الجوائز مؤشّرات لجودة الأعمال الحاصلة عليها، تُصيب أحيانًا وتخطئ أحيانًا، وهذا من وجهة نظري الخاصة.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظرين إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
تعاملت مع مؤسسة واحدة فقط، "المركز القومي للترجمة" بالقاهرة، في ثلاث ترجمات. صدرت منها ترجمتان وسلّمتُ الثالثة في عام 2019 ولم تصدر حتى الآن، وهي ترجمة كتاب "المجتمع القديم" لـ لويس مورغان، وهو كتاب كلاسيكي ضخم أخذ عنه إنغلز في كتابه "أصل العائلة". فهمتُ من القائمين على إدارة المركز أنّ ترجمات أُخرى لها أولوية في خطّة النشر عن الترجمات التي ليست لها حقوق، وأنهم محكومون بلوائح وقوانين بوصفهم مشروعًا قوميًّا، لكن هذا لم يبدّد شعوري بالخسارة. ليس لدي تجربة أُخرى مع المؤسسات فلا أستطيع الحُكم عليها. لكن أعتقد أن الإدارة الواعية التي توازن بين جميع النواحي تجعل منها كيانات عظيمة ومثمرة حقًّا.
كثيراً ما يُستنزف المترجم في تأمين مصادر دخل إضافية
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها كمترجمة، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
المبدأ الأساسي الإخلاص الكامل للنص المكتوب. قبل البدء في العمل أقرأ ما أستطيع الوصول إليه عن النصّ وعن المؤلّف. لا أقرأ النص نفسه قبل الترجمة لأنني أحبّ الجمع بين الحُسنيَين في آن واحد: القراءة والترجمة، فأترك للنص مفاجأتي أثناء العمل، خاصة في الترجمة الأدبية، ويُستدرك كلّ شيء أثناء مرّات المراجعة. أُترجم عادة في ساعات الصباح الأُولى، في منزلي أو في مكان مفتوح، أستمع إلى موسيقى هادئة أو حماسية، حسب حالتي المزاجية، وحسب النص الذي أُترجمه. أسجّل الكلمات والتعبيرات الجديدة وأستمتع، كثيرًا، بدور المُتعلّمة الذي لا ينتهي.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
لم أشعر بالندم على أي ترجمة حتى الآن. كلّ ترجماتي أضافت لي كثيرًا على اختلاف مجالاتها ومستوياتها وما صاحبها من ظروف وتعامُلات. ما يحزنني حقًّا أن تقع عيني على جملة أو كلمة بعد نَشْر ترجمة ما، وأرى أن من الأفضل، لو كنتُ ترجمتُها بطريقة أُخرى، لكنّني أُبعِدُ هذا الشعور سريعًا، وأتمثّل رأيًا مُحقًّا كلّ الحقّ، للأسف لا أذكر قائله، مفاده أننا لو لم ننشر كتبنا لظللنا ننقّحُها إلى أن نموت.
■ ما الذي تتمنينه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجمة؟
أتمنى أن يعود عهد المأمون في ما يتعلّق بالترجمة. أتمنى ألَّا نخاف مما يُترجم. ألَّا تُمنع ترجمة أو يُحذف جزء منها. أن نتوسّع في فَهْم الآخر لأنّ للانغلاق على أنفسنا آثارًا سيّئة. أن نوظّف هذا في فَهْم العالَم من حولنا، وكيف وصل ووصلنا إلى ما نحن عليه في هذه اللحظة، وفي تعزيز قدرتنا الذاتية والنفسية كأفراد، والارتقاء اجتماعيًّا وإنسانيًّا وعلميًّا. أن نثق في أنفسنا وقدرتنا على التفكر والاختيار وتحمل المسؤولية.
بطاقة
مترجمة مصرية من مواليد القاهرة عام 1974. صدر لها في الأدب المقارن: "رحلة هاملت العربية: أمير شكسبير وشبح عبد الناصر" لـ مارغريت ليتفين (2017)، و"قراءات في أعمال نوال السعداوي" لـ مجموعة من الكُتاب (2017). وفي ترجمة الرواية: "حرائق صغيرة في كلّ مكان" لـ سيليست إنج (2019)، و"الاعتذار"، لـ إيف إنسلر (2021)، و"اترك العالم خلفك" لـ رومان علَم (2022). وبالاشتراك مع المترجمة شيرين راشد عبد الوهاب عن النرويجية: "حب" لـ هانه أورستافيك (2019)، "صائد الرؤوس" (2022) لـ يو نِسبو.