تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية. "على لجان الترجمة أن تتحوّل إلى فِرق بحثية ترصد الكتب التي تُنشَر في اللغات الأجنبية، وتدرسها وتناقش مدى أهميتها للقارئ العربي"، يقول المترجم اللبناني في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع الترجمة؟
- بدأت عندما عدتُ من فرنسا إلى لبنان، بعد نيلي شهادة الدكتوراه في علوم اللغة (علم اللسانيات)، حينها لم أكن أدرّس أو أكتب إلّا بالفرنسية. وعندما صرتُ رئيساً لقسم اللغة الفرنسية وآدابها في "الجامعة اللبنانية"، طلب مني زملائي في قسم اللغة العربية أن أشرح لهم عن هذا العلم الجديد والغريب (اللسانيات)، وأن أكتب فيه. هكذا، بدأتُ أنشر أبحاثاً مترجمَة ومؤلّفة في المجلّات العِلمية العربية. كان الأمر صعباً جداً في البداية، ولكنّني، وبمساعدة أخي الكبير وزوجتي المتخصّصين باللغة العربية، تمرّست في التأليف بلغة الضاد، وأصبحت أعشق الكتابة فيها والترجمة إليها.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجم الآن؟
- آخر كتاب نُشر لي هو "قاموس علم الجمال"، الذي نقلتُه إلى العربية مع علي نجيب إبراهيم، وهو عبارة عن معجم ضخم يضمّ، في 2000 صفحة، كلّ المصطلحات التي ترتبط من قريب أو من بعيد بمفهوم الجمال. فيه معلومات قيّمة عن المسرح والسينما والأدب والموسيقى، وهناك أمور أُخرى لا تخطر على البال، مثل الضجّة أو الغياب أو الإدمان، وكلّها تحظى بتعريف دقيق وأمثلة توضيحية على أوجُه أثرِها في الشعور الجمالي أو الممارسة الفنية. وقد صدر هذا القاموس منذ ثلاثة أشهر في بيروت والدوحة عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". أما حالياً فأنا أعمل على ترجمة كتاب لعدّة مؤلفين، وهو: "قاموس فلسفة التربية".
القارئ والمترجم والكاتب في داخلي يعيشون في تكامل تام
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
- تكمن العقبات في عدم الاعتراف بأهمّية عمله. فالعديد من الجامعات العربية لا تقرُّ بأنّ الترجمة عمل أكاديمي، وبعض مراكز النشر تعتقد أن عمل المترجم ينتهي عند تسليم النص المترجَم إليها. تصوّر أنّ المسؤول في إحدى دُور النشر أجابني عندما سألته عن موعد نشر إحدى ترجماتي: "دكتور، دورك انتهى والكتاب الآن مُلك الدار!". والعقبة الكأداء موجودة أيضاً في بداية حياة المترجِم: ليست هناك بالفعل مؤسسات عربية "تصنع" المترجم، بالمعنى الذي يستعمله أبو هلال العسكري في "كتاب الصناعتين". أقصد أنه ليست هناك مؤسسات تنمّي مهارات الترجمة كما يجب، لا في التدريس والإعداد الأكاديمي، ولا في التدريب والتكوين المهني.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- على العكس، أنا أعتقد أن عمل المحرِّر ضروري: محرّران اثنان عمِلا لسنتين في "قاموس علم الجمال"، وكان عملُهما أساسياً في إخراج الكتاب. لكن المحرّر ليس العامل الوحيد، مع المترجِم، الذي يضمن تقديم نص عربي جدير بالقراءة. بصفتي رئيس مجلس الأمناء في "المنظمة العربية للترجمة"، أستطيع أن أؤكّد أن الترجمة الجيّدة تمرُّ بمراحل نتّبعها نحن في المنظمة وهي: الترجمة، ومراجعة الترجمة، وتوثيق الترجمة. هذه المراحل الثلاث تُنفَّذ بالمقارنة بين النصَّين، الأجنبي وترجمته العربية. تأتي بعد ذلك مرحلة التحرير التي يُعنَى فيها المحرِّر بمراقبة الصياغة العربية، وتصويب الأخطاء الطباعية واللغوية وغير ذلك. إنّ تنفيذ هذه المراحل كلّها، هو الذي يضمن صدور النص العربي في ترجمةٍ أمينة وفي أسلوبٍ جزل ومفهوم. في ما يتعلّق بي أنا، لقد أنعم الله عليّ بثلاث بنات هنّ من حملة الدكتوراه، وحائزات على مرتبة بروفسور في "الجامعة اللبنانية". إنهنّ أول من يراجعن ويحرّرن ترجماتي.
أودّ لو أعيد ترجمة "فلسفة اللغة" لأذوق متعته من جديد
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- إنها علاقة تكامل. أنا أختار الكتاب لأهميته العِلمية والفكرية، والناشر يعتدُّ بمدى إمكانيات بيعه. لكن، ومنذ بداية هذا القرن، ظهرت مؤسسات للترجمة تعتمد معظمُها سياسةً ذكية في اختيار الكتب، وهي: تكوين لجان متخصّصة في كلّ ميادين المعرفة لدراسة الكتُب الصادرة حديثاً، واقتراح أفضلها للترجمة، وذلك وفق أهداف المؤسسة وسياستها بالطبع. وكان من أوّلها "المنظمة العربية للترجمة"، ثم "مؤسسة الفكر العربي"، و"ترجمان" ("المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات")، و"المركز الوطني للترجمة" (تونس)، و"المعهد العالي للترجمة" (الجزائر)، وغيرها.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك الأعمال التي تترجمها، وإلى أي درجة تتوقف عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- إجمالاً، أنا أؤمن بكلمة الإمام محمد عبده: "ما دخلت السياسة شيئاً إلا أفسدته". لذلك، أتجنّب السياسة في حياتي وفي اختيار الكتب، وأحصر عملي في العلوم الإنسانية، وخصوصاً علوم اللغة وعلم الجمال والتربية والفلسفة. وأتجنّب منها ما يُسيء إلى الأديان أو إلى قضايا العرب وتاريخهم، مثل القضية الفلسطينية. تُعدّ ترجمة أي كتاب فتحَ بابٍ جديد وواسعٍ لانتشاره، ولذلك يُسرّ المؤلّفون دائماً عندما يعلمون بأنني أريد ترجمة كتبهم ويساعدونني في ذلك بشتى الوسائل.
أتعرّف إلى المؤلّف وأتناقش معه قبل أن أقترح ترجمة كتبه
■ كيف هي علاقتك مع الكاتب الذي تترجم له؟
- لقد حرصت على أن أبقى على صلة دائمة بالمؤلّفين (الأحياء) خلال الترجمة، فأنا أتواصل معهم لأطلب توضيح بعض مقاصد كتاباتهم. لقد ترجمت لجورج مولينيه، وسيلفان أورو، وشارل لو بلان، وألان كيرلان، وغيرهم، وكنت أراسلهم وأجتمع بهم لنتناقش في خفايا بعض الفقرات. وقد حصل ونبّهت بعضهم إلى الغموض أو النقص في بعض نصوصهم، فأعادوا صياغتها بطريقة أصوب وأيسر على الفهم. وإجمالاً، أنا أتعرف إلى المؤلّف وأتناقش معه (خلال المؤتمرات الدولية، عموماً) قبل أن أقترح ترجمة كتبه.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- هذا سؤال يصيب كبد الحقيقة. فعلياً، المترجم قارئ ومترجم وكاتب في الوقت نفسه. ويكمن الفارق بينه وبين المؤلف الأصلي في أنه لا يملك حرية الإبداع من العدم التي لدى المؤلّف. فهو سجين النص الأول. لكن، في الترجمة كما في التأليف، أنا أجد متعة لا تعادلها متعة. وهي تعود على ما أعتقد إلى أن القارئ والمترجم والكاتب في داخلي يعيشون في تكامل تام وتعاون مستمّر. أظنّ أن عندي أسلوباً خاصاً في الكتابة وفي الترجمة، وهو واضح كما يقول لي زملائي الذين يقرأونني. وهذا الأسلوب في تطوّر دائم على ما أعتقد.
■ كيف تنظر إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- هي قليلة كما تقول. لكنها تقوم بدور تشجيعي كبير، وإن كانت لا تكفي نظراً لاتساع المجالات وكثرة المترجمين. كما يُقال، الكُحل أحسن من العمى. أنا أدعو أصحاب الهمم العالية والقيّمين على الثقافة العربية والقادة السياسيين في العالم العربي إلى أن يُطوّروا جوائز الترجمة في اتجاهين: زيادة عددها وتنويعها، وتقسيم الجائزة الواحدة إلى عدة جوائز ومكافآت، من أجل أنْ تُصيب العدد الأكبر من المترجمين.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظر إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- هذا صحيح، الترجمة العربية مشروع فردي في الغالب. لكن، ومنذ مطلع هذا القرن، نشأت مراكز ومؤسسات ومنظّمات تُعنى بالفكر والترجمة والنشر، كما قلت. وهي تعتمد على رأي لجانها في الكتب التي يقترحها مترجمون أفراد. لكن ما أقترحه هو أن تتحوّل هذه اللجان إلى فِرق بحثية ترصد الكتب التي تُنشر في اللغات الأجنبية وتدرسها وتناقش مدى أهميتها للقارئ العربي، ثم تقترحها وتقترح اسم من يُترجمها. والأفضل من كلّ ذلك، أن تكلِّف هذه اللجان متخصّصين لتوليف مضامين الكتب التي تختارها، فيكون نتاج عملهم ما بين التأليف والترجمة.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسير وفقها كمترجم، وهل لك عادات معينة في الترجمة؟
- نعم. أبقى دائماً لصيقاً بالنص الأصلي، بمضامينه الدلالية وبمقاصده الكبرى، وليس بحرفيته اللغوية. هناك أمران لا أحيد عنهما عندما أترجم: لا أستعين بالموارد الحاسوبية في الترجمة (حاولت، ولكنني اكتشفت سريعاً مدى فشلها الكارثي)، إلا أنني ألجأ إليها من أجل معلوماتها الموسوعية فقط. كما أنني أستعين دائماً بالمعاجم أحادية وثنائية اللغة، فهي تقدّم كلّ ما يمكن أن يوجد من مفردات مقابلة، وتمنحني حرية الاختيار في ما بينها، وتحديد أيُّها أنجع في النص العربي.
■ كتاب أو نص ندمت على ترجمته ولماذا؟
- ليس هناك من كتاب ترجمته ونشرته ثم ندمت على ترجمته. هناك بالأحرى كتب أودّ لو أعيد ترجمتها، إما لأنني ترجمتها منذ فترة طويلة أو لأنني وجدت متعة كبيرة في نقلها. القراءة والترجمة وجهان لعمل واحد، وفي هذا العمل متعة لا توصف. وأستطيع أن أقول إنني أود لو أعيد ترجمة "فلسفة اللغة" الذي نلت عليه "جائزة خادم الحرمين الشريفين للترجمة". فهذا الكتاب غني إلى أقصى الحدود، وإن كنت أود إعادة ترجمته فلسبب واحد فقط، وهو الحصول على متعة إشغال ذهني في فهمه وإفهامه مرة أُخرى. الترجمة عمل ممتع، وهي مثل الغرام لا يعرفه إلّا مَن يكابده ومثل الصبابة لا يعلم بها إلا من يعانيها، كما يقول الشاعر العربي.
■ ما الذي تتمناه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجم؟
- أتمنى أن نخرج من مرحلة الترجمة. في عهد المأمون، ترجم العرب كثيراً، ولكنهم انتقلوا سريعاً إلى التجريب والتأليف. الترجمة حلقة في سلسلة طويلة تمتدُّ من المؤلّف الأجنبي إلى الإبداع العربي، مروراً بتدريس النص المترجَم، ونقد مضامينه، والبحث في أفكاره، وتجريبِ معطياته، والانطلاق منه إلى آفاق أُخرى، بعيدةٍ وجديدة. هكذا عمَل قُدامى العلماء والفلاسفة العرب. أما حلمي فهو أن يعي المسؤولون العرب الكبار أهمية الترجمة وتأثيرها. لم تنهض الحضارة العربية الإسلامية لأن وزراء وأغنياء شجعوا الكتابة في العصر العباسي أو الأندلسي فقط، بل لأن الخليفة المأمون وخلفاء آخرين من بعده، أي أعلى مَن في السلطة السياسية، كانوا يعرفون أهمية الكتاب المترجم والمؤلّف لدرجة أنهم كانوا يقدّمون وزنَ كل كتابٍ ذهباً.
بطاقة
مترجِم لبناني من مواليد طرابلس عام 1950. يحمل شهادة دكتوراه دولة في علوم اللغة من فرنسا. درّس اللسانيات الفرنسية والعربية وعلم الترجمة في "الجامعة اللبنانية"، بصفة بروفسور (أستاذ دكتور)، كما درّس وألقى المحاضرات في عددٍ من جامعات العالم العربي وأوروبا والصين. يشغل حالياً منصب أمين عام "اتحاد المترجمين العرب"، ورئيس مجلس الأمناء في "المنظمة العربية للترجمة". له العديد من المؤلفات والمعاجم والأبحاث بالعربية والفرنسية، من مؤلفاته: "معجم اللسانيات" (1985)، "قاموس لاروس، فرنسي - عربي" (1998)، "أرابيسك، مغامرة اللغة العربية في أوروبا (بالفرنسية، 2006)، "الصوتيات، أصوات اللغة العربية" (2017). كما أصدر العديد من الكتب المترجَمة من الفرنسية إلى العربية، منها: "فلسفة اللغة" لسيلفان أورو وجاك ديشان وجمال كولوغلي (2012)، و"عقدة هرمس، نظرات فلسفية في الترجمة" (2013) و"الترجمة وتاريخها الطبيعي" لشارل لوبلان (2021)، وترجم بالاشتراك مع علي نجيب إبراهيم "قاموس علم الجمال" لإتيان سوريو (2022)، الذي صدر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".