يأتي كتاب "مقاربات بلقانية عن القدس خلال الحكم العثماني"، والذي صدر حديثاً ضمن إصدارات "الآن ناشرون وموزعون" في عمّان، في سياق الكشف عن العلاقة الوثيقة التي كانت تربط بين سكان البلقان -مسلمين ومسيحيين- بالقدس، سواء في العصر الوسيط أو خلال الحكم العثماني (1517-1917). ويضمّ الكتاب مجموعة من الأبحاث لمؤرخين من صربيا وكرواتيا والبوسنة وكوسوفو، من بينهم إ.دويموشيتش، وأ.فوتيتش، وم.مويتش، وآخرون، وبتحرير وتقديم المؤرخ السوري الكوسوفي محمد م.الأرناؤوط، ويشكل إضاءة على زوايا قلّما تضاء في الخطاب الإعلامي حول الحاضرة العربية المحتل قسمها الغربي منذ عام 1948 والشرقي - الذي يضم أبرز الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية- عام 1967.
يرى الأرناؤوط في مقدمة الكتاب أنه بالرغم من أن القدس تعدّ محتلة في نظر القانون الدولي منذ عام 1967، مع وجود سبعة قرارات لمجلس الأمن الدولي تدين ضمّ "إسرائيل" للقدس الشرقية، إلا أن القدس بقيت تجذب إليها الحجاج والزوار من المسلمين والمسيحيين. ولكن بعد قرار ترامب الاعتراف بالقدس "عاصمة لإسرائيل" تباينت مشاعر المسلمين واليهود حول القرار، وبينما رحّب نتنياهو بالقرار في اليوم نفسه بوصفه "علامة مهمة في تاريخ أورشليم"، عقدت منظمة التعاون الإسلامي قمة استثنائية بعد عدة أيام من القرار في إسطنبول لتأكيدها على أهمية القدس لدى المسلمين بوصفها "أولى القبلتين وثالث الحرمين". ورغم أن مسألة القدس كقضية هي مسألة استعمارية بحتة وليست صراع هويات دينية، إلا أنّ لها جوانب ثقافية تستحق الانتباه، وفي هذا السياق، يتساءل الباحث:
"لكن، ماذا عن المسيحية والمسيحيين الفلسطينيين الذين كانوا مكوّناً أساسياً في القدس حتى مطلع القرن العشرين (في 1910 كان عدد المسيحيين 13000، وعدد المسلمين 12000 تقريباً) والذين يعدُّون القدس مدينتهم المقدسة أيضاً؟ وماذا عن مكانة القدس لدى المسيحية الشرقية الممتدة من الحبشة إلى روسيا خلال أكثر من ألف عام، والمكانة التي تمثلت في الحج إلى القدس الذي يتوّج بزيارة كنيسة القيامة أو كنيسة القبر المقدس التي هي أقدس الأمكنة بالنسبة إليهم؟". ويرى الباحثون أنه مع هيمنة الكنيسة الأرثوذكسية على آسيا الصغرى وانتشارها بين السلاف في أوروبا الشرقية (البلغار والصرب والروس وغيرهم) أصبحت القدس مركز العالم الأرثوذكسي الذي يجذب أعداداً متزايدة من الحجاج.
مكانة القدس لدى المسيحية الشرقية خلال أكثر من ألف عام
ورغم الفتح الإسلامي لبلاد الشام في القرن السابع، إلا أنه حافظ على الوجود المسيحي في القدس من خلال "العهدة العمريّة". ولم يمنع النزاع بين الروم والمسلمين على القدس استمرار الحج المسيحي إليها. ويرى الأرناؤط أن هذه العوامل أبرزت مع الزمن البُعد الثقافي في التعرّف على المسلمين، والبعد الدبلوماسي المتمثل في العلاقات بين الدول الأرثوذكسية في أوروبا الشرقية والدولة الإسلامية الحاكمة بدءاً من الدولة الأموية حتى الدولة العثمانية.
يتناول الكتاب رحلة من أوائل الرحلات التي كشفت عن هذا الجانب، وهي للرحالة الفارسي ناصر خسرو المعروفة بـ"سفر نامه" إلى القدس في طريقه إلى الحج، حيث ذكر أنه خلال وجوده في القدس برمضان عام 1047 توقف عند كنيسة القيامة ليوضّح مكانتها العظيمة، وأن كثيرين من بلاد الروم يأتون إليها للحج كل عام. تناول الباحثون أيضاً رحلة ابن جبير الأندلسي المعروفة بـ"تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار" حيث يذكر التدفق الأرثوذكسي إلى القدس لأداء الحج، إذ يقول إنه أثناء عودته إلى بلاده عام 1184 قد شاهد أكثر من ألفي إنسان من النصارى المعروفين بالبلغاريين. ومن هنا يرى الباحثون أنه إذا كان هذا يتعلق فقط برحلة واحدة من للمسيحيين من بلغاريا، فيمكن أن نقدّر حجم الأعداد التي كانت تأتي أيضاً من روسيا وبلغاريا ورومانيا وغيرها.
يتعرض الكتاب أيضاً إلى علاقة صربيا بالقدس من خلال عائلة تدعى نيمانيا أو نيمانيتش. فبعد أن وحّد مؤسسها ستيفان نيمانيا صربيا (1168-1196) وأصبح أولاده وأحفاده ملوكا وأباطرة وقديسين، وتحول ابنه الأصغر راستكو إلى الرهبنة وأسس الكنيسة الصربية عام 1219 وصار يُعرف بالقديس سافا عند الصرب، قام بزيارتين إلى القدس، الأولى عام 1229، والثانية عام 1234، وخلال الزيارة الثانية أقام لفترة في القدس واهتم بالأديرة والأوقاف، وقام بشراء دير "مار جرجس" وجعله وقفاً على دير "مار سابا"، وقام حفيده بعد ذلك ببناء دير للصرب في القدس.
ويذكر المؤرخ الصربي ألكسندر فوتيتش في بحثه الخاص بـ"تجديد دير القديس سابا في القدس عام 1613" أن قيام رأس الكنيسة الصربية بالحج بحسب التقاليد المسيحية وتأسيس الأوقاف هناك، هو ما أسس للوجود الصربي المتين في القدس. إلا أنه يرى أنه لم يكن لدينا الكثير من المعطيات حول الطائفة الصربية الأرثوذكسية حتى منتصف القرن السادس عشر، بسبب قلة المصادر. أما الآن فهناك بعض الوثائق التي يمكن الاعتماد عليها. وبالاستناد إلى فرمانين سلطانيين يعودان إلى عام 1613 يمكن أن نطّلع على وضع الرهبان الصرب وكفاحهم اليومي ورغبتهم في البقاء في القدس رغم ما كانوا يتعرضون له. وتوجد هذه الوثائق اليوم في أرشيف رئاسة الوزراء بإسطنبول.
ويرى محمد الأرناؤوط في بحثه "معطيات عن أديرة وأوقاف الصرب في فلسطين في القرن الأول للحكم العثماني 1516-1616" أنه رغم انهيار الإمبراطورية الصربية عام 1371 أمام التقدم العثماني في قلب البلقان إلا أن الأمراء الصرب الذين خضعوا للسيادة العثمانية قد واصلوا الاهتمام بدير الصرب في القدس. ومن بينهم الأمير جورج برانكوفيتش الذي اهتمت ابنته مارا شخصياً بدير الصرب في القدس. وهي الأميرة التي تزوجها السلطان العثماني مراد الثاني عام 1435، ويؤكد الأرناؤوط أن هذه الزيجات كان لها أثرها "الناعم" في البلاط العثماني على علاقة الصرب بالقدس، واستمر ذلك حتى عهد السلطان سليم الأول.
أقدم المعطيات المتعلقة بحج الأرثوذكس من البوسنة إلى القدس
يُشير الأرناؤوط في بحثه أيضاً إلى الوثيقة التي اكتُشفت مؤخراً ونُشرت بالتركية في 2010، وتذكر تفاصيل "العهدة الجديدة" مع الطوائف المسيحية بمن فيهم الصرب، بعد أن فتح القدس عام 1517، بعد العهدة الأولى التي أصدرها الخليفة عمر بن الخطاب الفاتح الأول للقدس. وقد أوضحت العهدة الجديدة مكانة بطريرك القدس والطوائف الأرثوذكسية الموجودة في فلسطين والأديرة والكنائس والأوقاف وتعهد السلطان بحمايتها ومنع التعدي عليها. ويستند الباحث إلى ذلك في إثبات أن القرن الأول للحكم العثماني، الذي اتسم بوجود ولاة من أصول بلقانية وبالازدهار المعماري، كان يمثل القرن الذهبي بالنسبة إلى الرهبان والحجاج الصرب.
وفي بحثه المعنون بـ"الحجاج الكاثوليك من البوسنة والهرسك في فلسطين" يحاول الباحث إيفان دويموشيتش الإجابة عن سؤال: "كم كان عدد الحجاج من البوسنة والهرسك؟" من خلال تصفّحه الأعداد الأولى من مجلة "يوميات الأرض المقدسة"، ويلاحظ الباحث أن أسماء الحجاج لم تكن تُكتب من قبل شخص واحد وأنهم لم يكتبوا أسماءهم بأنفسهم بل كانوا يذكرونها للشخص المكلف بذلك. ويرى الباحث أنه من المثير حقاً ملاحظة أنه حتى نهاية القرن السابع عشر كان العديد من الحجاج الكاثوليك يذهبون إلى فلسطين.
أما الباحث علاء الدين هوسيتش فيركز في بحثه المعنون بـ"الحج من البلقان إلى القدس" على الصلة الروحية بين البلقان والقدس، وأن هذه الصلة قد استمرت رغم الأزمات المالية التي كانت تعصف أحياناً بالدير في القدس، بسبب عدم إرسال الصدقات إلى الدير. وقد بدت آثار هذه الأزمة على دير مار سابا، وللتخفيف من وطأة هذه الأزمة أُعفيت الأديرة من دفع الضرائب. ويرفق الباحث ملحقاً لحكم سلطاني بعدم التعرض لوكيل بطريرك القدس خلال جمع الصدقات من المسيحيين في غرب البلقان.
كما يذكر الباحث أقدم المعطيات المتعلقة بحج الأرثوذكس من البوسنة إلى القدس والتي تعود إلى القرن الثامن عشر، وهو سبب انتشار لقب "حاجي" على القادمين من القدس. ويعرض هوسيتش أبرز الطرق التي كان يسلكها الحجاج من البوسنة إلى القدس، سواء من المسيحيين الأرثوذكس الذين صاروا مع استقرار الحكم العثماني يذهبون عبر طريق أضنة حلب القدس. أما الكاثوليك في غرب البلقان فكانوا في القرون الوسطى يمرون عبر مدينتي دوبروفنيك وزادار على البحر الأدرياتيكي، وبعد ذلك عبر البحر المتوسط إلى مصر ومنها إلى فلسطين. كما تعرض الباحث أيضاً إلى الرحلة التي كانت تنظمها مدينة البندقية للحجاج إلى المدينة المقدسة.
ويسلط الباحث منير مويتش الضوء على مسألة شراء الأخوين برانكوفيتش لأرض موقوفة على المدرسة الصلاحية عام 1681. حيث يتتبع الباحث السياق التاريخي للحجة الشرعية التي تكشف عن شراء حاكورة تين وزيتون في أرض تابعة للمدرسة الصلاحية في القدس، وهي أرض الجسمانية التي تعد من أهم الأماكن المقدسة. وقد أُقيمت المدرسة في كنيسة القديسة حنة، وحوّلها صلاح الدين الأيوبي إلى مدرسة مثلما كانت، وكيف هُجرت المدرسة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكيف أصبح المبنى أخيراً تابعاً إلى إرسالية "الآباء البيض" الفرنسية.
أخيراً، ليست إتاحة فرصة الاطلاع على الثقافة البلقانية للباحثين العرب، هي السبب الوحيد لأهمية هذا الكتاب. فإلى جانب كونه يكشف عن العلاقة الروحية بين شعوب البلقان -مسلمين ومسيحيين- بالقدس، فإنه يتيح أيضاً التعرف على طوائف مسيحية متعددة جاءت إلى القدس من الشرق والغرب في تواريخ مختلفة، وصارت جزءاً من النسيج الاجتماعي للمدينة مع الطوائف الموجودة من قبل.