ملف: الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟ (5)

31 أكتوبر 2023
رجل فلسطيني يقف على أنقاض منزله إثر غارة صهيونية، رفح، أول أمس الأحد (Getty)
+ الخط -

في وقت يرتكب فيه كيان المستعمرة الصهيونية جرائم إبادة مستمرّة في فلسطين، يمكن مقارنتها بأكبر فظائع القرن العشرين، بغطاء أميركي وأوروبي، بعد هزيمته العسكرية أمام شجاعة الإنسان الفلسطيني المقاوم في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، التي رأت فيها الشعوب العربية بشائر تحرير وحرية؛ ماذا يمكن أن تفعل الثقافة العربية للقضية الفلسطينية؟ كيف تُصبح الثقافة أداة تحرُّر وتحرير للأرض والإنسان؟ وكيف يمكن أن تقاوم الثقافة العربية هيمنةَ المشروع الصهيوني على العالم العربي من خلال التطبيع والترسانة العسكرية والسيطرة على الإعلام والدعم الأميركي والغربي، وأي أدوات نمتلك؟

شاركنا في "العربي الجديد" هذه الأسئلة مع كتّاب ومثقّفين عرب، في محاولة تفكير جماعي بما يمكن للثقافة العربية أن تفعله الآن -وفي لحظات مفصلية قادمة- في طريقها إلى التحرّر والعدالة الاجتماعية وإنهاء الوقائع الاستعمارية والاستبدادية

                                                                                                     نجوان درويش/ القدس المحتلة



جلال الحكماوي: الترجمة كمقاومة

الشاعر والمترجم المغربي جلال الحكماوي
الشاعر والمترجم المغربي جلال الحكماوي

إنّ مشاهد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتمييز العنصري التي تطحن في هذه الأثناء شعبنا الفلسطيني المقاوم، الواقف كالعاصفة في وجه الصمت العربي والغربي اللاأخلاقي، تفقأ عيوننا وتُدمي قلوبنا ونحن نشاهدها على شاشات تلفزيونات العالم وعلى الشبكات الاجتماعية حين لا تحجبها. ورغم فداحة المشهد، فالسؤال الذي يطرحه الإنسان العربي العادي اليوم هو: لماذا يصطفّ الغرب وراء نظام محتلّ قاتل مُجرم؟ هذا الغرب الذي غزا عقولنا وثقافتنا بـ"قيمه الكونية".

الآن يكيل بمكياليَن: الحياة للقاتل والموت للضحية. هذه الازدواجية يمكن لنا أن نُحلّلها من الناحية الثقافية، إذ دخلت الحداثة الغربية مجتمعاتنا الثقافية من نافذة عنف الاستعمار وبقيت رغم رحيله متمكّنة من بنياتنا الفكرية والثقافية والذهنية من خلال اللغة والبنيات المعرفية والفكرية في مدارسنا وجامعاتنا ومؤسّساتنا الثقافية.

ويمكننا الوقوف على هذه الهيمنة في العلاقة بين الغرب والشرق في مجال الترجمة؛ فالترجمة في العالم العربي نقلت النصوص الغربية الأدبية من دون مرجعية نقدية للأيديولوجيات المتحكّمة فيها؛ وهكذا وجّهت عملها إلى الوجه اللامع من الغرب دون أن تنتبه إلى أن صورتنا الباطنية عنده، والتي تتمثّل في أنّنا شعوب "متخلّفة" يجب أن تتحضّر من بداوتها ووحشيتها وتصير خادمة له ولثقافته.

والقليل الذي ينشره الغرب يدخل في هذا التصوُّر. وكما يقول المؤرّخ الفرنسي باتريك بوشران، فإن ترجمة القرآن تمّت بطلب من القسّ المسيحي كلوني سنة 1143 للميلاد لمعرفة العدوّ، أي المسلمين، للقضاء عليهم في سياق الحروب الصليبية. وما زالت هذه البنية الفكرية تعمل إلى يومنا هذا. وفي سياقها، نجد أيضاً أنّ الخلفية المؤسّسة على التفوّق الحضاري وتحقير الآخر في بنية الفكر الاستعماري ما زالت فاعلة في مجتمعاتنا من خلال اللغات الأجنبية وثقافات الاستهلاك. وهذه عقلية ما زلنا نعيشها مع غالبية كتّاب اللغة الفرنسية في المغرب الكبير؛ حيث المستعمَر يتبنّى منطق المستعمِر.

وهذا ما يُفسّر بعض المواقف المُخزية لبعض الكتّاب المغاربيّين، أمثال الطاهر بن جلّون وياسمينة خضرا وغيرهما، ممّا يحدث، اليوم، من جرائم حرب في حق المدنيّين والأطفال والنساء في فلسطين. ثقافتنا ابتلعت دون تمحيص "القيم الكونية" الغربية ونقلتها من خلال الترجمات (كلاسيكيات الأدب الغربي، مركزية الفلسفة الغربية، الجوائز الغربية...) ولم نستوعب أنّ الترجمة ليست جسراً مثالياً يُسهّل حوار الثقافات، بل هي مقاومةٌ لكل الأشكال التي لعبت فيها دوراً حاسماً كالاستعمار الجديد والإبادة الجماعية والميز العنصري والهيمنة الثقافية. هذا الوعي بالدور الإستراتيجي للترجمة في تفكيك العقل العربي المستلب اليوم هو المطلوب.

فالهيمنة التي نعيشها، اليوم، ليست ثقافيةً فحسب، بل هي اقتصادية وسياسية وفكرية. والمقاومة تروم تفكيك النسيان الذي يمسّ قضايانا الوطنية والقومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهذا النسيان لا يمكن أن يقاوَم إلّا بمشروع فكري واضح، يتعلّق بما نترجمه اليوم من الغرب. والمسألة موكولة للمترجمين أنفسهم الذين عليهم أن يتوجّهوا في أعمالهم إلى الفكر النقدي الغربي الذي يُفكّك الصورة الخادعة التي تروّجها الروايات العالمية الشهيرة التي تملأ معارض كتبنا من المغرب إلى الخليج، والانفتاح على الجنوب العالمي (أفريقيا، آسيا، أميركا اللاتينية).

الترجمة اليوم صراعٌ عالمي بين ثقافات مهيمنة وأُخرى تابعة

بدأت بعض هذه الترجمات ترى النور، لكنّها ما زالت محتشمة في العالم العربي. ترجمنا الفكر ما بعد الاستعماري لكلّ من إدوارد سعيد ومنى بيكر وهومي بابا ونغوجي واثيونغو، لكنّنا لم نُترجم الفكر الديكولونيالي ولم نضع إستراتيجية لنقد الغرب... على المترجم أن يفهم أنّ دوره حاسم في اختيار النصوص والمجالات (أدب، علوم اجتماعية وإنسانية) التي تسهم في مساءلة الأفكار السائدة وتفكيك العقليات التابعة وتقوية الحسّ النقدي عند قارئه. وعليه أن يعمل فردياً ويترك المسؤولية لباقي مكوّنات سلسلة الكِتاب من ناشرين حقيقيين غيورين ومؤسّسات ثقافية مستقلّة. 

إن الترجمة اليوم صراعٌ عالمي بين ثقافات مهيمنة وثقافات تابعة عليها التزام الحذر في ما تُغذّي به معرفتها وأجيالها والإطار الذي يسمح لنا بفهم آلياتها ومحاربتها هو المقاربة الديكولونيالية والفكر النقدي الذي ينشط فيها مفكّرون ومفكّرات بارزون من أمثال أشيل مبيمبي، وفرانسواز فرجيس، وسلوى لوست بولبينة، تُرجم بعضهم في المغرب مثل الكاتبة الفرنسية تيفان سمويو "الترجمة والعنف" (توبقال، 2023). 

فهذا الفكر النقدي الذي ما زال مجهولاً في العالم العربي يُبرز بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الترجمة هي حصان طروادة الذي نُدخل به لبيوتنا ثقافات الخنوع والتبعية والتطبيع، لأنّ ما نُترجمه في الغالب يكرّس دونيتنا وتخلّفنا وتبعيتنا في مجتمعاتنا. إنّ مقاومة الهيمنة الفكرية الغربية يجب أن يصاحبها أيضاً مقاومة لثقافة عربية تزدهر في بعض دول الخليج من خلال مؤسّسات تُشجّع التدجين والتنميط الإبداعي وتحييد الفكر النقدي بواسطة مشاريع ترجمة غير مكتملة، وورشات كتابة تُنتج أدباً شكلياً لا حياة فيه، تغيب عنه أبسط مقوّمات الحسّ النقدي وتُغري الكتّاب والكاتبات الشباب بالمنح الكبيرة، والمخضرمين والشيوخ بالتعويضات الخيالية والجوائز السمينة. والنتيجة أنّ ثقافتنا صارت تُكرّس الوصولية والأنانية والمصلحة الذاتية على حساب المصلحة الوطنية والقومية.

ولن تعود المقاومة الحقيقية وتعود القضية الفلسطينية إلى قلب النخب العربية إلّا بالوعي الحاد بالتبعية الكارثية للثقافة الغربية، وبضرورة النقد المزدوج للخروج منها فكرياً وإبداعياً والانفتاح على الجنوب العالمي الذي نشترك معه في واقع وثقافة وتحّديات كثيرة.


* شاعر ومترجم من المغرب



بطرس المعرّي: ما يمكننا القيام به

الفنان التشكيلي السوري بطرس المعرّي
الفنان التشكيلي السوري بطرس المعرّي

يسأل صحافيُّ قناة "دويتشه فيله" الألمانية الكاتبَ سلمان رشدي عمّا يُمكنه تحقيقه بالأدب في مثل هذا "الوضع الصعب للصراع"، في ظلّ الحرب الدائرة بين "إسرائيل وحماس"، فيُجيب الكاتب الشهير: "للأسف القليل جدّاً. الكلمات لا تُنهي الحروب، ‎ما يمكنه للكاتب فعله حتى الآن هو محاولة التعبير عن الألم الذي يشعر به الكثير من الناس، وربما هذا أفضل ما يمكننا القيام به لتوضيح طبيعة المشكلة".

سؤال الصحافي الألماني، المدروس بعناية إن لم نقُل بخُبث، يُحيلنا إلى تساؤلات حول سلامة خياراتنا في طريقة تقديمنا لطبيعة الصراع مع الكيان المحتلّ. لقد اختصر مذيع القناة، الناطقة بعدّة لغات، ماهية الصراع الأساسية، في حرب بين دولة وبين منظَّمة ذات صبغة دينية، يَعدُّها الغرب منظَّمة إرهابية، لا حرباً بين صاحب أرض وحقّ يدافع عن وجوده منذ عشرات السنين من جهة وغريب مغتصِب في الجهة المقابلة. 

كانت الإجابة عامّةً حيادية، ولكن فيها، برأينا، فكرة أساسية في كيفية تقديم هذه القضية إلى العالم: "التعبير عن الألم الذي يشعر به الكثير من الناس (كلّ الفلسطينيّين)" لتوضيح المشكلة؛ فالمشكلة إنسانية وليست دينية، كما يحلو لهم ولنا أيضاً تصويرها (طوفان الأقصى)، بل هي قضية أرض انتُزعت من أهلها، لتُقام عليها دولةٌ لا حقّ شرعيّاً لها فيها. وهذه هي مهمّة وسائل الإعلام العربية، في معرفة أساليب التأثير على مشاعر الشعوب الغربية التي لا تستمع، ولا تُصدّق، إلّا إلى ما يقوله مذيع نشرة الأخبار المسائية، وتُردّده كالببغاوات.

لا شكّ في أنّ جزءاً من المَهمّة يقع على عاتق المثقَّف، لكن الجزء الأكبر يقع برأينا على عاتق وسائل الإعلام، والتي عليها أن تُحسن اختيار كوادرها وأرشيفها المصوَّر وتتجنب في خطابها ما يستفز، مجّاناً، الغرب؛ فالأمر ليس تحدّياً وعناداً، بقدر ما هو لعبة فُرضت علينا، وعلينا مهمّة كسبها.

في يومنا هذا، على ما أرى، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً في تشكيل ثقافة الأجيال الشابّة، وربما هو دورٌ أكبر ممّا تلعبه الصحف والدوريات والمواقع الرصينة ودُور النشر... حَلّ المنشور والفيديو القصير محلّ المقالة والكتاب والبرنامج الثقافي. وهذه الثقافة، المليئة بالخفّة والابتذال، لا تعرف الحدود، فتصل إلى شرائح واسعة من مجتمعاتنا، وأصبح لكلّ مشترك فيها الحقّ في صناعة محتواها. ونجد هنا، إن كان المثقَّف مهتمّاً فعلاً بالعمل للصالح العام، أنّ هذه المنصّات هي إحدى الطرق المثلى حالياً للوصول إلى "الجماهير". وبرأينا، يجب أن يكون النشر والمشاركة فيها، وباللغات التي يجيدها، جزءاً من اهتماماته، فهي، كصدى لفكره، بأهمّية عموده اليومي أو الأسبوعي في صحيفته، أو بأهمّية ندوته أو معرضه أو كتابه الذي يُعد. وإنّ إهمال هذه المنصات ترفُّعاً (ويمكن لنا أن نُبرّر له بعض أسبابه)، ليس في صالح الثقافة، ولا في صالح خلق وتوجيه جيل واعٍ لما جرى أو يجري في المنطقة. ففي خضمّ هذه الفوضى، هناك دائماً قارئ مهتمّ علينا ألّا نهمله. ومن هنا نبدأ، فمع زيادة الوعي، نستطيع مخاطبة الآخَر بلغة ومنطق يفهمهما.

قبل فترة، وجدنا أنّ منشورات فيسبوك لم تعد تصل إلّا إلى جمهور ضيّق، كما أنّ هناك منشورات لا تمرّ على الصفحات كونها تحمل صبغة سياسية مناهضة للمشروع الصهيوني... فما العمل؟ هل نحن قادرون، ولدينا النية، في إنشاء منصّات مستقلّة عن تلك التي تتحكّم بنا، نصل بها إلى "الآخر" الذي يجهل أساس الصراع، ويعادينا بسبب جهله؟ أم أنّ أولوياتنا في مكان آخر؟!

منصّات التواصل طريق مثلى لوصول المثقف إلى الجماهير

نعود إلى الفكرة التي بدأنا بها، فنستعيد حادثةً سبق وكتبنا عنها في "العربي الجديد": قبل سنوات، وزّعَت مدرسة ابتدائية باريسية على طلّابها، ومنهم ابنتي، قصّة مصوَّرة أنيقة الإخراج مجّاناً. تدور حول جنودٍ يُزيّن زيّهم العسكري صليب معكوف، قاموا باعتقال عائلة يهودية... إلى آخر الرواية، وكان التركيز في القصّة على صورة ولد صغير حزين حُرم من عائلته... قصّة حقيقية، لا نشكّ بها، قد عرفوا استغلالها كغيرها من القصص وكسب التعاطف.

بالطبع، هناك كاتب لهذه القصّة، لكن الأمر لا يقف عند حدّ الكتابة، فهذه لعبة مؤسَّسات تستكتب وتدعم وتُموّل وتُسوّق في سبيل هدف محدَّد؛ فهل وصلت إلينا تلك الفكرة "الناعمة"؟ وما هي إمكانية تطبيقها؟ الأمر برسم أصحاب المال لا برسم كتّابنا ومثقّفينا، ممن لا يغازل أو يستجدي إعلام ومؤسَّسات البلاد التي هاجر أو لجأ إليها.


* فنّان تشكيلي سوري مقيم في ألمانيا



نجم الدين خلف الله: سرديات قاتلة

الكاتب والأكاديمي التونسي نجم الدين خلف الله
الكاتب والأكاديمي التونسي نجم الدين خلف الله

بالتوازي مع حرب غزّة وأهوالها العسكرية، تدور حربُ سرديّات تصف ما يجري على أرضية الواقع بهدف التأثير في الجمهور العريض. يُقدِّم الطرف المعتدي روايةً للأحداث ليس فيها من البراءة والصدق ذرّة واحدة. ولا يمكن أن نفترض فيه من صفاء النية أو من الحياد أيّ مقدار، ويجري بعدها التسويق لهذه المحكية على نطاق واسعٍ، يُنشئه السياسيون والعسكريون ابتداءً، مع أنّهم لا يُدلون بتصريحاتهم إلا بتوجيهٍ من محرّرين مُختصّين في فنّ التواصل والإعلام الحربي، حيث توزَن كلُّ كلمة بميزان دقيق.

ويتلقّى بعد ذلك الصحافيون و"المفكّرون" والمعلّقون هذه الرواية ليبثّوها في وعي المتلقّي، وهو الخامل بطبعه، كبداهات يقينية، وقد حُدّدت أهدافُها ضمن استراتيجية شاملة. وليس الخطر في هذا التسلسل المدروس بدقّة، وإنما في الصيغة المقدَّمة التي يتعهّدها هذا الطرف ويراقبها حتّى تظلّ متماسكة وفاعلة في مخيال الجمهور الذي تفترض منه ردّات فعل معيّنة.

وأمّا السرّ الدقيق الذي يختفي وراء هذه العملية، فهو مبدأ الاختزال المُطلَق في الرواية؛ حيث يُقتصر على الجزء الذي يُراد إظهاره من جبل الثلج: "إرهابيّون تسلّلوا لقتل الأبرياء الذين لهم الحقّ المشروع في الدفاع عن أنفسهم". لكن ما لا تقوله هذه الرواية التبسيطية أنّ وراء الهجوم حركية شعبية ورسمية تناضل من أجل تحرير أراضٍ محتلّة باعتراف الأمم المتّحدة ذاتها، وأنّ مستوطنين استحوذوا على تلك الأراضي وطمسوا أسماءها. وللتذكير، اشتُقّت مفردة مُستوطِن من فعل "استوطن" الذي يدلّ، بفضل السّين والتاء، على معنى اعتبار أرضٍ ما وطناً ووجدانها كذلك، حتى وإن لم تكنه في الواقع والقانون.

ولا تقول السردية إنّهم ينالون محفّزات كبرى من أجل البقاء في تلك المناطق واستغلال خيراتها، وإنّهم لم يتوقّفوا عن إلحاق أشنع الفظاعات المدانة بالقانون الدولي بالسكّان الأصليّين للأرض وبإخوانهم الذين يعيشون في المناطق الأُخرى، وإنّ عقوداً طويلة من التظاهر السلمي والمَسِيرات والهتافات والقِمم الرسمية والتفاوض لم يفلح أيُّها في لجم "نَهَم الاحتلال"، الذي لا حدّ له. كما لا تذكُر هذه المحكيّات أنّ هؤلاء المستوطنين مسلّحون، وأنّهم لم ولن يتورّعوا عن قتل أحدٍ كلّما سنحت الفرصة، يُطلقون الرصاص على الظنّ ويقتلون بالتهمة والهَوَس، ولا حسيب لهم من رادعٍ داخلي ولا من استنكار خارجي. 

هكذا، تنبني هذه الروايات على ثنائيّة فاعلَي الخير والشرّ في مقاربة سطحية، تمنع من رؤية التعقّد الذي يسم مثل هذه الوضعيّات التي تُختزل إلى تقابُل جوهراني بين الخَيِّر والشرّير، الطيّب والرديء، المسالم والإرهابي. وعلى العالَم بعدها أن يتقبّل نتيجة هذا التصنيف الثنائي وما يمكن أن ينجرّ عنه من أشكال التدمير، لأنّها تُطاول الشرّ والإرهاب، ولا مُشاحَّة في القضاء عليهما، تحت غطاء سميك من القانون الدولي الذي لا يُستحضر إلّا في وقت الحاجة، ثم يختفي إلى حين.

ويشمل مفتاح الاختزال هذا آليات الرواية ونَقل الحدث بما في ذلك اختيار المفردات وطرق تراكيب الجُمل والتصرّف في مكوّناتها تقديماً وتأخيراً، حذفاً وإظهاراً، علاوةً على صياغة الصور البيانية وغيرها من مواد التأثير التي تصنع وجهة نظر مركَّزة، يسمّيها علماء السرد "البؤرة" في ترجمة لمصطلح (Focus) الآتي من تقنيات التصوير السينمائي، والتي تحجب ما سواها من الأجزاء الأخرى للصورة، إذ لا تنقل إلا ما يُسلَّط عليه الضوء. ومن البديهي أنّ التبئير ليس بريئاً، فهو يهدف إلى إبراز ما يروم صاحب الخطاب التشديد عليه. وفي المقابل، تغيب العناصر التي لا تلائم خطابه ولا يراد لها أن تُرى ولا أن تُسمع.

نعم، فالاختزال لعبة صوتيّة قاعدتها أن تجعل صوتاً ما يطغى على سائر الأصوات أو ينطقها بما يُراد إسماعه للجمهور، لأنّ الهدف أن يهيمن خطابٌ أوحد لا يُناقَش ولا يُعارَض، يبثُّ ضجيجاً يملأ الآذانَ والوعيَ ولا يترك حتى مجرّد الصدى يعلو، ضمن التنافس على امتلاك الساحة السمعيّة- البصريّة وفرض الصوت الأوحد، حتى تكون السرديّة ضرباً ماكراً من "الاحتلال" الذي يستحوذ على مساحات التعبير كلّها ويتصرّف في تضاريسها، كما لو كانت ملكاً مشاعاً لا يجوز لأحد سواه أنّ يصدع فيه بأدنى كلمة.

كما تجيز لعبة الاختزال التمويهَ والاختلاق الصريح للأحداث، بل لعلّه قاعدتها الرئيسة، وهذا ما جرى في مأساة "المستشفى المعمداني". ومن أعجب مظاهره أنّ سلطة في حجم رئاسة الولايات المتّحدة الأميركية تؤكّد رؤية رؤوس مقطوعة وتلقيها ثيمةً حارقة في خضمّ صراع الفظاعات. لحسن الحظّ، ورد التكذيب سريعاً من مؤسّسات هذه الدولة ذاتها في ارتباكٍ مقصود؛ إذ الغاية الخفيّة من ذلك هو تمييع القضية وتحويلها إلى موضوع مماحكة وتنافس سرديّ يقتل جوهر الكارثة ويحجبها في ثنايا التكذيب والردّ عليه، ثمّ الردّ على الردّ ونقضه بلا نهاية حتى يتشتّت الوعي ويتيه، وهدف ذلك إسكات صوت الحقيقة وخنق الرواية الأصلية المطابِقة لما حصل فعلاً.

فما يجري اليوم في غزّة وما أسفر عنه من روايات دليل قاطع على مدى حيويّة آلية الاختزال التي تُلهي الأسرة الدولية عن ارتقاء المئات دفعةً واحدةً، وتنصبّ الخطابات والنقاشات على الترجيح بين الروايات وانتقادها واستحضار زواياها، كأنّ شغل السياسيّين ورجال القانون والخبراء العسكريّين هو تحليل الخطاب والاشتغال على مبانيه، لا إيقاف الحرب.

ومع ذلك، فالحقيقة التي لن تدلّسها المحكيات ولن تحوّر جوهرها أنّ حرب غزّة أكبر امتحان للإنسانيّة ولا سيما مثقّفيها وسياسيّيها، وهي تفرض الحدّ الأدنى من التعامل الإنساني الذي يجب أن يتعالى، ولو للحظةٍ، على زبد المزايدات السرديّة وحِيَل تشكيل الخطاب ومكر اختيارات المعجم والصُّور. ثمّة آلاف من أرواح الأبرياء أُزهقت وكانت تُزهق من سبعة عُقودٍ، بمرأى ومسمع من الجميع في ظل احتلالٍ بغيض يُمارَس على شعبٍ وأرضه، فلا مكان لروايات، حتى وإن بُرع في تجميل حِبكتها، من أن تُغطّي على ما حصل ويحصل. ولن تحجب ضخامة الآلة الإعلامية التي تسوّق لهذه المحكيات تهافتَها ولا فظاعة ما يلحق بغزّة وأهلها.

ولن يقدر أحدٌ على التخفيف من الآلام الواقعية التي يُخلّفها الموت والدمار فوقْعُها موجعٌ، لكن من الضروري أن ندرك أنّ معركة السرديات وأدوات ترويجها لا تقلّ خطورة، وأنّ الصورة والكلمة لهما أسرع الأثر في الضمائر والعقول، ولذلك يجب خوضُها حتى تتعادل الكفّة وتطّلع بقيّة العالم على الصوت المقموع والجهة المحجوبة. وقد أدرك العرب هذه الرهانات فعلاً، فخاضوا معركة التواصل بمهارة وصدقيّة. وبفضل روايتهم الموازية التي كتبوها بالدم، باتت أصواتٌ تُغنّي خارج السرب الغربي وتُحدث شقوقاً في الصرح الكرتوني الذي شيّده الاحتلال على الأضاليل.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس



ياسين عدنان: مواجهة التَّمثُّلات الفاسدة

الكاتب والإعلامي المغربي ياسين عدنان
الكاتب والإعلامي المغربي ياسين عدنان

لا أوهام لدينا. فنحن نعرف الطريقة التي يُفصِّل بها الغرب "الأسسَ القانونية" لعدالةٍ دوليّةٍ على مقاسِ مصالحه. فالخلطُ المُريب والمَعيب بين القانون والسياسة، وعدمُ فصل السُّلط في نظام العلاقات الدولية ورَّط النّظام العالمي الجديد في توظيف القانون لـ"التّهذيب السياسي" ولتصفية الحسابات السياسية، وتحويل قانون العقوبات الدولية إلى أداة انتقامٍ من الدول والكيانات "العاصية". هكذا إذن تشكّلت أرضيةُ ما نُسمّيه اليوم سياسة "الكيل بمكيالين"، التي تطعنُ في مصداقية النّظام العالمي وشرعيته.

لا أوهام لدينا. فنحن نعرف أنّ فرنسا "الحرّية والمساواة والأخوّة" صارت مجرّد حكاية تُروى، فيما استحالت أوروبا التنوير والنّزعة الإنسانية والحداثة والديمقراطية إلى تراثٍ إنسانيٍّ جديرٍ بأكبر متحف. فالكلمة الفصلُ اليوم صارت لهذا الغرب المُتعجرف الذي تقوده أميركا بصلافة. لهذا ربّما يجدر بأحرار أوروبا - من المثقّفين النّزهاء والديمقراطيّين الأصلاء - أن يستعيدوا قدرتهم على التفكير وحرّيتهم في التعبير، ليساهموا في تخليص الأفق الإنساني الأوروبي من سطوة "الغرب": من سطوة أميركا. بعدها فقط سيصير النقاش حول غزّة وفلسطين ممكنًا. وإلّا، فسيتواصل ما نُتابعه هذه الأيام بقرفٍ من حوارٍ للطُّرشان.

كلّنا مع غزّة، كلّنا مع الحقّ الفلسطيني في هذا العالم العربي المُترامي الأوجاع. كلٌّ مِن موقعه. نحتاج لأن نتظاهر يوميًّا ضدّ هذا القتل الأعمى لأطفال غزّة ونسائها ومدنِيّيها العُزّل. لكن علينا أيضًا أن نشتغل بجدٍّ لنبني خطابًا. وهذه مهمّة شاقّة طويلة النّفَس. إنّما لا مَحيد عنها، ولا بُدّ من الانخراط فيها. 

ربّما علينا أن نُعيد الاعتبار للبداهة: واقعُ الحال هو أنّ الأرض الفلسطينيّة مُحتلّة، وغزّة قطاعٌ مُحتَلّ. ومقاومةُ الاحتلالِ وحصارِه الغاشم حقٌّ مشروعٌ لكلّ فلسطينيٍّ من أبناء غزّة بغضِّ النظر عن الانتماء الحزبي والأيديولوجي لِمَن يُمارِسُ فعلَ المقاومة، مثلما كانت حقًّا مُصانًا للأوروبيّين في مواجهة الاحتلال النّازي. ثمّ إنّ ردَّ الفعل اليائس لمن يرزح تحت نير الاحتلال مُكابِدًا كلّ أنواع الحصار أمرٌ متوقّعٌ، بل وَيُمكن تفهُّمُه بقليلٍ من سلامة العقل والطويّة. لكن، أنْ يُعربِدَ المحتَلُّ متصنّعًا المفاجأة دون أن يجد في هذا النظام الدولي المُختلّ من يُوقفه عند حدِّه، فهذا إذكاءٌ للمزيد من السُّعار.

لذا نُدين هذه الأساليب المُتغطرِسة في تجريم فعل المقاومة، بل وتجريم حتى إشهار التَّعاطف مع ضحايا الاحتلال. نرفض هذا الابتزاز الرّخيص الذي يُمارَسُ ضدّ الأصوات الحرّة في الغرب بشكلٍ خاص. نرفض هذه الألاعيب الإعلامية المفضوحة التي تُمارِس تكميم الأفواه وهي تحدّد الكلمات وتستبِدُّ بإلباسِها المعاني التي تُناسب تأويلها المُغرِض، ثمّ تشرع - بناءً عليه - في تصيُّد أصحاب الضّمائر الحيّة والمواقف الحرّة للإيقاع بهم في أحابيلها المكشوفة. وها نحن نرى كيف بلغ التّغوُّل مداه بالتّنمُّر على أنطونيو غوتيرِيش لمجرّد أنْ حاولَ ممارسةَ الحدّ الأدنى من الحياد الذي يُلزِمُهُ به ميثاق الأمم المتّحدة، وهُم يطالبون باستقالته من منصبه كأمين عام، فقط لأنّه قدّرَ بنزاهةٍ أنّ هجمات السابع من أكتوبر "لم تأتِ من فراغ"، وأنَّها "لا تُبرِّر القتل الجماعي الذي تشهده غزّة".

نرفض أيضًا أن تتحوّل بعض وسائط التواصل الاجتماعي إلى أدواتٍ للقمع والتنكيل بالمتعاطفين مع الدم الفلسطيني ومع شهداء غزّة. فأصنافُ المتاريس الرّقميّة التي يستعين بها فيسبوك للتّضييق على المحتويات التي لا تُوافق "هواهُ" السّياسيّ، فاجأت سكّان هذه القارّة الافتراضيّة من العرب والمسلمين الذين آمنُوا منذ "الربيع العربي" بمُعجزتهِ التّواصليّة الإلكترونيّة وصدَّقوها وسكنوا إليها واستثمروا فيها إنسانيًّا واجتماعيًّا، قبل أن تنقلب عليهم لوغاريتماتُهُ اليوم لتصدمهم بحقيقة أنّ الحريّة في المدار الإلكتروني مسقوفةٌ مُوجَّهة.

هناك صورٌ شاهدناها هذه الأيام على الشاشات العربية ستُعذِّب الضمير العالمي طويلًا. صورٌ مُؤلمة لجثث أطفال غزّة ومدنيِّيها المقصُوفين بوحشية لا نظير لها. صورٌ حقيقيّة لا علاقة لها بالصُّوَر المزعومةِ التي ادّعى بايدن وجوقَتُه السياسية والإعلامية الاطِّلاع عليها في الخفاء، والتي استُعمِلت ذريعةً لتدمير غزّة وإبادة أهلها. هناك صورٌ كثيرة، موثوقة وملفّقة، ستطفو عاجلًا أم آجلًا على سطح الحقيقة، وستحتاج إلى أن يُحقّق فيها المستقبل. 

لكن ليست الصورُ وحدَها ما يقضُّ المضاجع اليوم، بل التَّمثُّلات أيضًا. فالتَّمثُّلات الفاسدة تُعذّبُ أكثر ممّا تُعذّبُ الصّور. لذا علينا أن نفتح بجرأةٍ جبهة الصُّور النمطية والأحكام المسبقة. فهي حاسمةٌ في مواجهةٍ بهذا الزّخم. ذاك أنّ التمثّلات التي كرّسها الإعلام الغربي عنّا في الأدب والسينما والتلفزيون، بالكثير من التهويل وبتحريضيّة سافرة، لعبت دورًا خطيرًا في تنميط بل وشيطنة صورة العربي والمسلم. وها هم السياسيّون الحُواة في أميركا و"إسرائيل" وبعض الدول الأوروبيّة يُوَظّفون هذه الصورة لتجييش مُواطِنيهم واستثارة مشاعر العداء والكراهية لديهم ضدَّ العرب والمسلمين. مشاعرُ عداءٍ كامنةٌ في لاوعي الغربيّين وفي وجدانهم العامّ منذ الحروب الصليبيّة. لكن، عوض التدخّل لتجسير الهوة النّفسية وخلق أسباب التقارب بين الثقافات والشعوب، ها هو العدوان الإسرائيلي اليوم يحرص على تغذية هذه التَّمثّلات القاتلة، بل ويستثيرُها لتمرير مواقفه اليمينيّة العنصريّة وتبرير جرائمه الحربيّة. 

وأخشى أنّ بعضَ الأوروبيّين يريدون التَّطهُّر من ماضٍ أسود اضطهدَ فيه أسلافٌ لهم اليهود وعرّضوهم لمختلف أصناف التّنكيل. لكن، هل بالمساندة العمياء لجيش الاحتلال الإسرائيلي وهو يمارس الإبادة الجماعيّة لأطفال غزّة يكون التَّطهُّر، أم بالإدانة المبدئية النّزيهة لكل أشكال التَّفنُّن في القتل، أيًّا كان جنسُ القاتل ودينُه وجنسيتُه؟ ثمّ ألَمْ يكن اليهود إلى جانب المسيحيّين والأقباط والإيزيديّين والصابئة والأكراد والأمازيغ جزءًا من النسيج الثقافي والعرقي والديني الذي تعايش على امتداد عصور في المنطقة العربية، وذلك في مرحلة لم يتمكّن فيها الغربُ من تحمُّلِ اليهود كبنيةٍ مُغايرة؟ لقد حدث ذلك في الماضي. طرد الإسبانُ الآلافَ من اليهود والموريسكيّين قبل خمسة قرون، طاردوهم ونكَّلوا بهم. وعرَّض النازيّون اليهود لمحرقة شنيعة. ونحن لا نحاسب أوروبيّي اليوم على أخطاء الماضي وجرائمه، فما بالهُم يُحاسبوننا نحنُ على جرائم لم نقترفها، في عملية قلبٍ سافرٍ للأدوار؟ فأطفال غزّة الذين تُشوى جُلودُهم اليوم ليسوا مسؤولين عن محرقة الماضي. كما أنَّ أهلنا في فلسطين ساميّون لو تدرون، فكيف يُتَّهمون بمعاداة السّامية؟

ثمّ لنقُلها صراحةً: "إسرائيل" ليست جزءًا من التاريخ القديم للمنطقة. فهي بنتُ جغرافيا متخيَّلة اخترعها الكهنة اليهود. ثم ساهم الاستشراق والمستشرقون في صياغة سرديتها وبلورة حبكتها. وأخيرًا مكّنَ لها الاستعمار البريطاني وغرسَها في قلب المنطقة العربية ضمن مشروعٍ عامٍّ لتمزيقِ الكيانات العربيّة وزرْعِ أسباب الفتن الدينيّة والطائفيّة والمذهبيّة وسطها قبل منْحِها استقلالاتٍ ملغومةً يبدو أنّها لا تزال ناقصةً حتى اليوم. وها هي أميركا وريثةُ الاستعمار، والاعتبارات جيو -إستراتيجية لها علاقة بالنفط والغاز تُواصلُ دعم صنيعة الاستعمار في المنطقة ظالمةً ومظلومة. 

لهذا نرى أنّ جزءًا من مواجهة هذه الأسطورة المعاصرة يقتضي فعلًا تحليل السردية التي تسنُدها والتَّمثُّلات التي تعضِّدُها والخطابات التي تُروّجُ لها. فالتَّرافع من أجل فلسطين لا يجب تركُه للسياسيّين وحدهم، وَلِمن والَاهم من وسائل الإعلام الكبرى السائدة. إنّما هو شأنٌ ثقافيٌّ وحضاريٌّ أيضًا. لذا نحتاج صوت المثقّف وتدخُّله. كما نحتاج أكثر من أيّ وقت مضى الأصوات العربيّة الحرّة التي تعيش في الغرب. فهي أقدرُ منّا على محاورة الرّأي العام الغربي بمنطِقِه ولغتِه. فشعوب الغرب تستأهل خطاب الحقيقة بكلّ وعي ونزاهة. وهي لن تقبل الانجراف طويلًا وراء جوقة التّزييف التي تُلغي آدمية الفلسطينيّ لتبرير إبادته، دافعةً المنطقة ومعها باقي العالم إلى مزيد من التَّقاطُب والتصعيد، وإلى مزيد من قصف الأمل وتفجير المستقبل.


* شاعر وإعلامي من المغرب



نبيل منصر: عِلَّة الديمقراطية الغربية

الشاعر والناقد المغربي نبيل منصر
الشاعر والناقد المغربي نبيل منصر

تَمُرُّ فلسطين اليوم بأكثر فترات تاريخها الحديث حُلكةً ومأساوية. ليس فقط لأنّ الاحتلال الإسرائيلي يُنفِّذ على أرضها سياسةَ عُنفٍ وتَهجير لا تَرحم، بل أيضاً لأنه يفعل ذلك بغطاء أميركي و"تَفهُّم" كبير مِن "العالَم الديمقراطي الحُرّ". إنّ ترسانة القيم والتشريعات التي يُدارُ بها عالَمُ ما بعد الحرب العالمية الثانية لا تُؤوَّل الآن بطريقة مُجحفة، وغير ديمقراطية بالمَرّة، كما حَدثَ في أكثر من بُقعة، وإنما تتعطَّل تماماً، بفعل آلةِ تقتيلٍ جهنمية، تَفتكُ، دفعة واحدة، بالفلسطيني الأعزل وبحُقوقه التاريخية والإنسانية. آلة تُحطِّم بيتَه فوق ضُلوعه، رامِيةً بالناجين في عراء الفزع والتيه والأسئلة المُقلقة.

تنام غزّة وتصحو، هذه الأيام، على القصف المجنون. آلةُ حربٍ مدمِّرة تخضعُ لإستراتيجِيّي العُنف في "إسرائيل"، الذين يُسوِّغون، بالقنابِل العمياء والإعلام المُسخَّر، سياسَة الحلِّ في القتل والتهجير. عندما يَتَعمْلَق العُنف، ويُصبِحُ برنامَجاً سياسياً وعسكرياً، كما يتجسَّد الآن أمام أنظار العالَم، فإنّه لا يَترُك المجال للسياسة. لا يُريدُ المحتلّ، وِفق هذا التمادي المجنون في العُنف، أن يَجلِسَ إلى طاوِلة مفاوضات كيان فلسطيني حيوي، وإنما يُريدُ الجلوس إلى كيان هشّ وجريح، يلفظ أمامه آخر أنفاسِه السياسية. السياسة بهذا المفهوم تُتوِّجُ ما شَرَّعَتْه آلَة الحرب، لِتُضفي على نتائجها الكارثية غِطاءً "سياسياً" لا يُقنِع أحداً، ولكنّه يتماشى مع نفاق الغرب "الديمقراطي"، الذي لا تتحرّك حساسيته الإنسانية عندما يُحرَق أطفال فلسطين وجرحى مستشفياتها.

إن "العِلَّة" التي تَنخر "العالَم الديمقراطي"، اليوم، لا تحتاج إلى مَزيدٍ من الشرح. كُلُّ قَصفٍ إسرائيلي يَعجِنُ البُيوتَ فوق ساكنَتِها المرعوبين، فإنما يُضيفُ كَلمة فصيحة إلى البيداغوجيا السياسية لِلمُعلِّقين الشرفاء. يُفاقِمُ المُحتلُّ سياسَة القمع والاستيطان والتخريب، ضارباً عرض الحائط المواثيقَ والاتفاقيات، واجداً، في كلّ فِعل مُقاوِم، في كُلِّ خلجة مُقاومة، فُرصة لِتنفيذ سياسَة أعنف، لا تَجِدُ أيُّ فُرصةٍ للسلام إلّا في ابتلاع الأرض وتهجير السكان. عِلَّة الديمقراطية الغربية، لا تكمُن في نُصرة" إسرائيل"، في كلّ ظرف وشرط، ولكن في سياسة الكيل بمكيالين، التي يذهب ضحيتَها أطفالٌ ليس لهم الحقّ في التفتُّح والحياة، مثل كلّ أطفال العالم.

إنّ هامش الفعل الثقافي، في هذا الواقع، المُوجَّه بِقوة الآلة العسكرية والإعلامية، يبقى صغيراً جدّاً، وقد لا يُعطي بعض النتائج المَرجوّة منه إلّا على المدى المُتوسّط والبعيد. لكنه، يبقى أحد أسلحة مَعركة البقاء بالنسبة إلى الفلسطيني. ولذلك، يَتعيَّن على المُؤسّسات الثقافية العربية أن تدعم أكثر المحتوى الثقافي المُقاوِم في الإعلام وأجناس التعبير الفنّية المختلفة، خاصّة منها ذات التوجّه والامتداد الجماهيري، مثل السينما والكاريكاتير والتصوير الفنّي والفوتوغرافي والمسرح والدراما التلفزيونية. ويَتعيَّن، أن يُسخَّر المالُ اللازم، مِن قبل مُؤسّسات الإنتاج، لِتُقدِّم مادّة ثقافية وفنّية تَحترم ذكاءَ المُتلقّي العربي، وتُدعِّم سَرْدِيَّة المُقاوَمة بكل ما يَشفع لها من وثائق وبَحثٍ تاريخي ونفاذٍ في المقاربة والتحليل. هذه المادة الثقافية تبني حبكة تشدُّ الأنفاس وتُفتِّح الوعي أكثر بِشرط الإنسان والقضية.

يَتعيَّن أيضاً، أن تُضافِر مُؤسَّسات النَّشر العربية جُهودَها لِخدمة السَّردية الفلسطينية (وهي صاحبة حقّ)، مِن خلال إعادة طبع ونشر كلاسيكيات الأدب الفلسطيني، في الشعر والرواية والقصة (وقصص الأطفال) في كُتب جميلة وجَذّابة، تكون زَهيدة الثمن، وفي مُتناول فئات واسعة مِن القراء. على أن تُرافِقها ندواتٌ وبرامج في الإعلام والفضاءات الثقافية المختلفة، لِتحويلِها إلى مادة للاستمتاع والتثقيف وصناعة الرأي، خاصّةً عند الأجيال الجديدة، التي تبدو مُنغمِرة أكثر في سياقات التواصل والثقافة الإلكترونية السطحية، ومُنقطعة، بشكل كبير، عن منابع الثقافة، القومية والوطنية، الجادّة والعميقة. 

يَتعيَّن، بذات القدر، مُضاعفة الجهود لتَرجمة الأدب الفلسطيني (والعربي المُرتبِط بالقضية)، قديمِه وحديثِه، إلى اللغات الإنسانية الحية، والأكثر تأثيراً في صناعة رأي ثقافي عالمي. ويَنبغي الحرص على تقديم أجود الأعمال والمؤلّفات الفلسطينية، من حيث البناء والنضج الفنّي، لأنّ القارئ الغربي، مُزوَّد بذخيرة ثقافية عَريقة ومُتجدِّدة، فهو يَفتَرِضُ مُستوى فنّياً لائقاً، لا يَنبغي للأعمال المُقترَحة للترجمة أن تُخِلَّ به. لذلك، فكل جهدٍ مبذول، في هذا الباب، ينبغي أن يبقى مُحصَّناً ضِد الأهواء الفردية، الصغيرة، التي لا تخدم في أيِّ شيء فكرة نبيلة وعادلة. 

ويَتعيَّن أيضاً، وبقوّة، دَعم الإنسان الفلسطيني، في هذه اللحظة الحرجة من حياته، ليبقى صامِداً فوق الأرض، مُتشبّثاً أكثر بحقّه، مقاوِماً سياسة التهجير، وذلك بتخصيصِه بجوائز عربية، ربما ترتبط بالحرف والفنون التقليدية، الكاشِفة عن الهوية الفلسطينية. كما، يتعيّن مكافأة الذكاء الفلسطيني في كلّ المجالات، ولِمَ لا التفكير في سَن جائزة عربية دولية خاصّة بالأدب الفلسطيني المُعاصر، مع ما يُرافقها من أعمال الترجمة والتكييف السينمائي أو الفنّي، مع دعم إعلامي مدروس وموسَّع، يجعل الفائز بالجائزة والهوية التي يُمثّل ترسَخ أكثر في الوجدان العربي والإنساني، بما يخلق شروطاً أوسع للتعاطف النبيل مع القضية الفلسطينية.


* شاعر وناقد من المغرب

 

المساهمون