كتبنا في مقالة سابقة عن وصف الجغرافي الدمشقي ابن فضل الله العمري لبلاد الأكراد في كتابه "مسالك الأبصار"، من خلال مشاهداته العيانية، أما الوصف الذي وضعه عن ممالك وإمارات الأتراك في الأناضول، في الفترة نفسها أي القرن الثامن الهجري، فقد استقاه من أحد نبلاء جنوى الإيطالية، كان قد وقع أسيراً بيد الجيش المملوكي في عهد الناصر محمد بن قلاوون، وأطلق عليه اسم تركي هو بلبان ولقب بالجنوي، ويبدو أنه دخل الطباق، وهي المدرسة التي كان يتخرج فيها النابهون من المماليك، ليدخلوا بعدها في الحياة الوظيفية العسكرية والمدنية.
وكما يبدو، فإن بلبان الجنوي تعلم العربية والتركية، وتقلد وظائف رفيعة، ربما كان سفيراً كما تدل معارفه، قبل أن يغضب عليه السلطان الناصر محمد لسبب لا نعرفه، ويودعه سجن قلعة القاهرة، ليلتقيه ابن فضل الله العمري الذي كان هو الآخر يقضي عقوبة في السجن ذاته عام 738هـ/ 1337م لمدة سبعة أشهر وثمانية عشر يوماً، ويأخذ عنه وصف ممالك الترك في الأناضول، وممالك أوروبا، حيث نسب العمري الكلام إلى صاحبه، وذكر أن اسمه قبل أن يقع أسيراً كان دومينيكو دوريا، علماً أن عائلة دوريا واحدة من أكبر وأشهر العائلات النبيلة في جنوى منذ العصور الوسطى وحتى يومنا هذا.
لا نعرف شيئاً عن دومينيكو دوريا سوى ما ذكره عنه العمري، وهو مقتضب، إذ قال: "وأما ما ذكره بلبان الجنوى، عتيق الأمير الكبير بهادر المعزي، وهو ممن له الخبرة التامة بما يحكيه، فهو الذي أفاد كيفية تصوير هذه البلاد، واسم هذا بلبان في بلاده دومانوكين دوريا بن بادا دوريا، وهو من بيت حكم في جنوى، اتفق أنه جمعت بيني وبينه المقادير في الاعتقال، وعنه أحدث ما قال".
وقال العمري نقلاً عن الجنوي إن عدد ممالك الأتراك في الروم، أي الأناضول، ست عشرة مملكة في ذلك الزمن، وحكامها من أبناء أمرائها الأولين السلاجقة، وقد استقروا في الجبل، أي جبل الأناضول، ويمكن القول إن ما كتبه العمري نقلاً عن بلبان الجنوي يعد المصدر الأهم عن أوضاع الممالك التركية في الأناضول قبل توحيد البلاد على يد العثمانيين بعد قرن من الزمان.
مملكة قرمان
في وصفه لمملكة قرمان ينقل العمري عن الجنوي قوله: "هي مثل قرن الجاموس، أحاط بها جبل في مشاريقها كالقوس، أخذ عليها جنوباً بشمال، وأحاط بها في مغاريبها جبل أخذ غرباً بشمال، ثم عطف مشرقاً ثم أخذ شمالاً بغرب حتى لاقى الجبل الأول فاجتمعا، فكان كأنه قرن الجاموس، فسبحان الخلاق العظيم".
ويضيف: "ينزل من جبلها الغربي نهر مندروس الأعظم (نهر مندريس)، وهو إذا نقص كان كالنيل، فأما إذا زاد فهو زاخر، لا له أول ولا آخر، وهو يشق هذه البلاد، ويجري وسطها، ويشكل بحيرة جليلة نافعة (أي بحيرة إيشكلي الحالية)، يصطاد بها الحيتان (أي الأسماك)، وتتنزه فيها أهل تلك الديار، ثم يمضي مندروس على مقطع في الجبل الشرقي حتى يخرج إلى بلاد طغرلو، ثم يمر عليها، ثم يخرج إلى بلاد بركي، ثم يصب في البحر المالح (أي بحر إيجة) المؤدي من الخليج القسطنطيني؛ إلى ماء بنطس (البحر الأسود).
ويشير إلى أن نهر مندروس هذا يتسع للسفن والمراكب "به مرافق في الأسفار ومنه يُتجهز للغزاة والبحار، وهو قاطع البرد، لا يكاد يتغير، ولا يؤثر الهواء إذا سخن فيه لكثرة مائه، واتساع جوانبه".
وحول حاكم هذه المملكة يقول الجنوي: "صاحب كرمنيان هو أكبر ملوك الأتراك، وله تسلط على الجميع، وتبسط في ملكهم الوسيع، وكرسي ملكه مدينة كونياي (قونية)، وهي مدينة كبيرة، ذات قلعة جليلة، وأعمال وسيعة، ورساتيق من كل مكان، وبلاد ذوات دواب سائمة، وعمار وسكان، ويقال إن له نحو سبعمائة مدينة وقلعة، وله عساكر كثيرة. قال بلبان إنه إذا جمع وحشد، جمع مائتي ألف مقاتل ما بين فارس وراجل ورامح ونابل، قال: وهم أهل حرب وقتال، ومصالتة واحتيال، ولهم عُدد حصينة، وسلاح للحرب وللزينة، من الفولاذ المجوهر، والأطلس الأحمر، وما يذهب هذا المذهب، ولهم مال جم من صامت وناطق، ونعم لا يحصيها إلا الخالق، وخيلهم نهاية في الروميات، لا يسبقها سابق، ولا يلحقها لاحق".
ويؤكد أن لهذا الملك التركي إتاوة مقررة على صاحب القسطنطينية مقدارها نحو مائة ألف دينار قسطنطينية، مع تحف فاخرة، وهدايا مستحسنة، "وهو في كل وقت يعرض جيوشه بالخيل والعدد والسلاح، ويستعد ويعد أماكن الحرب والكفاح. وله أمراء، ووزراء، وقضاة وكتاب، وحاشية، وغلمان، وخزائن، واسطبلات، ومطابخ وبيوت، وتخت ملوكي، وهيئة سلطانية، وأبهة ملكية".
أما ثروات هذه المملكة فيذكر أن بها مدينة لاستخراج الفضة تدعى "كُمُش ساراي"، ويلفت إلى كرم أهل هذه المملكة، ولكنهم كما يقول "لا يفكرون في حلال ولا حرام، أهون ما عليهم سفك الدماء وإراقتها، تنهل كمزاود الماء لا يبالون بما فعلوا، ولا يعبأون بمن قتلوا. وأما لبسهم ولبس جميع الروم فهو زي واحد لا يكاد يختلف، ودرهم هذه المملكة نصف وربع درهم فضة خالصة، والرطل بها زنته تحريراً ثلاثة آلاف ومائة وعشرون درهماً، وكيلها يسمى المُد وهو نحو أردب وربع مصري تقريباً، هذا ما قاله فيه بلبان".
مملكة طغرلو
بعد ذلك يحدثنا عن مملكة طغرلو، ويقول إن صاحبها هو (شجاع الدين) تنج، وأن نهر مندروس يشقها، وهي إلى جانب جبل القسيس، في غربه بشمال، وموقعها جنوبي ما بين مرمرا إلى بركي، ومدينة طغرلو كرسي المملكة، ويقول: "كأنها دمشق في تصوير خطة، وبساتين حولها مختطة، لكنها أكثر من دمشق ماءً وفاكهة، وأوسع غوطة، ولكن ليس لصاحبها مدينة سواها، ولا عمل إلا إياها، إلا أن لها قاعدة قرى وضياع، ليست بكثيرة ولا كثيرة ازدراع، وأكثر ما فيها من الفاكهة الرمان، وهو على عدة ألوان، ويباع ألف بدرهم، مكسَّر كأنه شرار نار أو كهرمان، أدرج في ثوب نضار، أو مدامع عشاق على نهود أبكار، وهو في غاية الكثرة والرخص، ولذاذة المأكل، ويُعتصر ماؤه، ويعمل منه دبس إذا نزل هو والعسل، أُبهم الفرق ما بينهما وأشكل، ويعمل منه شراب أشد إسكاراً من الخمر، وأقرب إليه مشابهة مما يعمل من التمر، وهم أكثر معاطاة له من الخمر، على كثرته عندهم، وما ذاك إلا لأمر".
ويقول العمري إنه سأل بلبان الجنوي عن سبب ولع أهل هذه المملكة بهذا النوع من الشراب فقال إنه لا يعلم السبب، ولكنه نقل عنه قوله: "وأهل هذه البلاد، كأنما خلقوا لارتضاع كؤوس، ولإماطة نُقبٍ عن شموس، فمالهم غير اغتباق كأس من معين، واعتناق مائس من قدود الخرد العين. قال: وأكثر ما تكوى القرى والضياع بطغرلو أربعمائة قرية كلها في حواضرها القريبة، ولصاحبها نحو عشرة آلاف فارس وراجل، ودرهمهم نصف درهم فضة خالصة، ورطلهم نحو سبعة أرطال بالمصري، ومدهم نحو نصف وربع أردب، وأسعارهم مشابهة لكرمنيان، ومقاربة لها في اختلاف كل أوان".
توازا وعبدلي وكصطمونية وفاويا
بعد ذلك يحدثنا عن مملكة توازا فيقول: إن صاحبها يدعى علي آز بيه، ويقول إنها تقع شرقي كرمنيان، وموقعها ما بين جنوبي بركي إلى فوكة، وكرسيه في توازا، ولصاحبها أربع قلاع ونحو ستمائة قرية، وعساكره نحو أربعة آلاف فارس وعشرة آلاف راجل، ودرهمهم ورطلهم ومدّهم مثل كرمنيان، وهو، أي على آز بيه، كثير الترامي إلى صاحب كرمنيان. ويقول إن "لأهل هذه المملكة حسن بديع ببياض وحمرة، كأنما ضربا لبن وخمرة، مع لين بشرة، وصهوبة شعرة، كأن عليهم ثوب صباح مسبول، وعلى ضفائرهم برادة ذهب مسحول، مع حلاوة تكل النظر وتأكلها، ولهجة توقد حجرات الحسن وتشعلها ".
ثم يحدثنا عن مملكة عبدلي ويقول إن اسم صاحبها هو دندار وهو أخو يونس صاحب أنطاليا، وكرسيه مدينة تولو (بولو؟)، وهي أم إقليم عبدلي وموقعها من فوكه (فوجة الحالية قرب إزمير) إلى قراصار (أفيون الحالية)، ويقول: "لصاحبها أيضاً إقليم يلواج، وإقليم قراعاج وإقليم أكريدور، وهذه بلاد مدنها قليلة، وقراها كثيرة، ومداها ممتد، يقال إن له تسع مدن، وخمس عشرة قلعة، وعسكره خمسة عشر ألف فارس، ومثلهم رجالة، وهو في كل وقت يتفقد فرسانه ورجاله، ويتأهب للحرب ويوسع مجاله، ويقاتل العدو، ويهب للسيوف آجاله".
وينتقل الجنوي للحديث عن مملكة كسطمونية، والتي هي مملكة سليمان باشا، حيث آلت لولده إبراهيم شاه، صاحب سينوب. ويقول إنها "على ضفة بحر بنطس (البحر الأسود)، وقبالتها جزيرة زك، ومن ركب البحر من سينوب خرج إلى سوداق (نوفوروسيسك الروسية الحالية) لأنها أقرب مدن ذلك البر إليها، ويقع طرف بلاد طرابزون على أول حد هذه البلاد، ولأجل هذا نقصد هذه الأرض لجواز البحر إلى بر القبجاق وبلاد الخزر والروس والبلغار".
ويقول إن كرسي هذه المملكة، أي مركز حكمها، في مدينة كسطمونية، وأن لصاحبها نحو أربعين مدينة وقلاعا مثلها أو أزيد، وعسكره نحوه خمسة وعشرين ألف فارس، وخيلهم هي النهاية في جنسها، والغاية في نفسها. ويشير إلى العلاقات الوثيقة بين ملوك كسطمونية وملوك مصر (المماليك)، حيث وصلت رسائل منهم إلى السلطان الناصر تطلب المعونة لمواجهة أعدائها.
وإلى جوار كسطمونية تقع مملكة فاويا، ويقول إن "صاحبها يدعى مراد الدين حمزة، ومملكته تجاور سمسون من غربها، وبلاد سليمان باشا المقدم ذكره جنوبها، وجبل القسيس غربيها، وبلاد طريق السفار إلى سمسون، وسمسون هي شرقي هذه البلاد خارج الجبل المار على رستايق بلاد الأتراك بالروم، على ضفة بحر بنطس".
ويضيف القول إن "كرسي هذه المملكة مدينة فاويا، ولصاحبها عشر مدن ومثلها قلاع، وعسكره نحو سبعة آلاف فارس، فأما الرجالة فكثير عددهم، متى أراد استجاش بهم، وجمع أمماً، وشرع أسنة وهمماً، وليست للأعداء معه طالعة، ولا لهم في رداء ملكه منازعة.
مملكة بورصة
يأتي الحديث بعد ذلك عن مملكة بورصة التي يسميها برسا، ويقول إن صاحبها هو أرخان بن طمان، والمقصود أورخان بن عثمان بن إرطغرل، ثاني ملوك السلالة العثمانية، ويضيف: "كرسيه مدينة برسا، وموقعها شرقي بلاد مُراد الدين حمزة، وغربي بعض سمسون وبعض سنوب، وجيل القسيس غربيها، ولصاحبها خمسون مدينة وعدد قلاعه أكثر من ذلك، وعساكره نحو أربعين ألف فارس، وأما الرجّالة فلا تكاد تعد، خصوصاً إذا استجاش، وحشد وجاش، لكن يقال إنه قليل غناهم، تهول صورتهم لا معناهم، وهو كثير المسالمة لمن جاوره، والمناصرة لمن ناصره، ومع هذا له حروب سجال، ودروب في إرغام أنوف رجال، وخيول تقتنص عليها الأرواح فرسان عجال، وإنما قلة غناء عسكره، لعدم استقامة الرعية، ومشاقة بعض المجاورين له. يقال إن رعاياه أخباث، تنطوي بواطنهم على الغل، وعمائمهم على المكر ثلاث".
ويشير الجنوي إلى أن "درهم هذه المملكة بوزن الدرهم الكاملي، وهو فضة خالصة، أما مدها ورطلها فمثل كرمنيان، وسعرها أرخص في غالب الأوان"، ويقول: "في هذه المملكة ثلاثمائة حمَّة يطلع منها الماء السخين الناضج، ويقصدها المرضى بالبلغم البارد والفالج، ليغتسل فيها، ويستشفى بها، وغالبهم يبرأ بإذن الله عز وجل ويجد الشفاء والصحة عليها".
ممالك أخرى
إلى جوار مملكة بورصة يحدثنا عن مملكة أكيرا، وصاحبها يدعى دمرخان بن قراشي، ويقول الجنوي: "إن مدن هذه المملكة وقلاعها وعساكرها أكثر من بلاد أرخان، وأهلها أطول باعاً في المُكْنةِ والمكانِ والإمكان، وصاحبها ذو حرب ويدٍ وأيد، وقوة لا تدفع بكيد، وله في البحر مع الروم حروب، تطير بها السفائن، وتهتز لها المدائن، وهذه البلاد يخرج منها ما لا يحصى من الحرير واللاذن، ويحمل إلى بلاد النصارى منه، وحريرها يوافق الديباج الرومي والقماش القسطنطيني، ومنه يعمل غالبه".
وبعد ذلك يحدثنا عن مملكة مرمرة وصاحبها يحيى بن قراشى، شقيق دمرخان المقدم ذكره، وبلاده جوار بلاد أخيه غرباً بشمال، وطرف بلاده جنوباً على شمالي طغرلو. ومملكة نيف وصاحبها علي باشا أخو صاروخان. ثم مملكة مغنيسيا، وصاحبها صاروخان، وكرسيه مغنيسيا. تليها مملكة بركي، وصاحبها ابن أيدين، وكرسيه مدينة بركي. ثم مملكة فوكة (فوجة)، وصاحبها أورخان بن منتشا. ومملكة أنطاليا، وصاحبها خضر بن يونس. ومملكة قراصار (أفيون)، وصاحبها زكريا، وأخيراً مملكة أرمناك، وصاحبها ابن قرمان، ويقول إن من مشاهير مدنه مدينة أرندة، وهي مدينة جليلة، ومدينة العلانية (ألانيا)، وموقع هذه البلاد غربي بلاد الأرمن بشمال، المقصود مملكة أرمينا الصغرى في كيليكية.