من العجيبِ ما طرأ على كلمة Almanach، ذات الأصل العربي، "الـمَناخ"، من التحوّلات البَعيدة، بعد ما سافَرت إلى لغة موليير. فقد كانت تدلُّ، في أصل معناها، على مكان إناخة الإبل، إذ هي اسمُ مكان من فِعل: أناخ/يُنيخُ، أي: أبْرَكَ. ثم تطوّرت دلالتُها فَغَدت تُحيل على مَحلّ الاستِراحة أثناء الرّحلة، ومنها على مواقع النّجوم، حين تَدور في أفلاكها. ثمّ اقتَصرت، لدينا، في العربية المعاصرة، على أحوال الطَّقس، ربّما بسبب علاقة الكلمة بالأقاليم والمناطق، التي تتغيّر فيها أوضاعُ الجَوّ.
وأما في اللسان الفرنسي، فيَعود اقتراض هذا المصطلح، حَسب مَكنز اللغة الفرنسية، إلى سنة 1303، وتحديدًا من حَضارة الأندلس. وكانت تعني "الرزنامة" أو "التقويم" الذي يضمّ معلومات وإشاراتٍ، ذات طبيعية فلكيّة وحيوية. ثم صار يَدل على النصائح التي تُسدى للسّائل، ومنها تَوسّعت للإحالة على "الديوان" الجامع لأمهات المسائل التي تخص بَلداً ما، في فترة من فترات تَطوّره. ورغم مُحاولات "مكنز اللغة الفرنسية" التحفّظ على فرضية الاقتراض من اللسان العربي، عبر عَرْض فرضياتٍ أخرى تردّ الكلمة إلى أصول إغريقيّة وسريانية، إلا أنَّ الأصل العربي واضحٌ، ولا غُبار عليه.
وهكذا، صارت الكَلمة، وقد حوفظَ عليها بأداة التعريف Almanach، تدلُّ على ما يُشبه الموسوعة الـمُصغّرة التي يملأها المحرّرون بكلّ أصناف الـمعارف الشّعبيّة التي يحتاجها الناس في غَدَواتهم ورَوحاتهم. ولذلك، فهي جنسٌ من القواميس، وثيقة الصّلة بِالسَّفَر والانتقال، وحتى بالإناخة، أي: الاستْراحة والتَّوقّف بين الحواضر والبوادي. وقدْ تَعني الكلمة أيضًا "الدليل السياحي"، الذي تُدمج فيه أسماء المطاعم والنزل والفنادق وما حازته من النّجوم.
كان هذا الشرح ضروريًّا للتمهيد لكتاب "مناخ فرنسا الكبير لسنة 2021"، (الصادر منذ أيامٍ عن دار "ميتيف" في باريس)، وهو من تأليف الصّحافي الفرنسي فريدريك جرسال، الذي دَأب على إنجاز مثل هذه الأعمال، منذ خمس سنواتٍ، يُنشئ كل سنة جزءاً جديدًا من "مناخاته"، ويملأها بما يتسنى له من النّوادر والقصص الشعبيّة حول وصفات الطعام المتنوعة وممارسات فنّ البَستَنة، إلى جانب الحِيَل والنوادر وأشهر الأمثال والحِكَم الشعبيّة، التي غالبًا ما تختفي وراءَها قصصٌ مُضحكة.
الاحتفاء سمة هذا النوع الكتابي الذي يمزج المرح بالإشادة
وهكذا، يقدّم الكاتِب، بالانتظام نفسه، عمله هذا كموسوعة احتفائيّة، تستعيد أهمّ الأحداث السياسيّة والثقافيّة والرّياضيّة والاقتصاديّة، التي هزَّت فرنسا، طيلة السنة المنصرمة. وهو يحرّرها كما لو كانت دائرة معارف مُصغَّرَةً، توضّحها الرسوم والخرائط، حول مختلف محافظات فَرنسا، مع فَقراتٍ مشوّقَة حول طبيعة الأقاليم وتحوّلات الأرض والسّماء وتطلّعَات الفرنسيين في حلّهم وتِرحالهم.
ولا شكّ أنَّ العنوان المختار، "الـمَناخ"، يستدعي فِكرةَ "الموسوعة"، بل ويَعمل أسلوبيًّا بمثابة جنسٍ أدبيّ، يتوَفّر على قواعدَ مَخصوصة في الكتابة والجَمع والتأليف. ويَقع هذا الأسلوب في مفترق الطُّرق بين العَرض والتحليل والتأريخ والتقديم والتوضيح، ويعتمد السهولة مبدأً والذاتيّةَ مسلكًا، بحُكم طبيعة الجمهور الذي يتوجّه إلَيه الكِتاب. كما يتسم هذا الجِنس بتجدّد المضامين وتحيينها بانتظام، ففي مَطلع كلّ سَنةٍ، يُصدر الكاتب طبعةً جديدة منه، بعد أن يضيف إليها عَشرات الوقائع وأسماء المطاعم والمعالم وسائر ما يطرأ على الساحة الفرنسيّة من فتيّ الأحداث وما يَجري في مدنها من نوادرَ ونكتٍ وما تستسيغه الذّائقة من الأغاني والفنون. ويمكن لهذا النهج في الكتابَة أن يقارَب، في تراثنا العَربيّ-الإسلاميّ، بمفهوم "الأدب"، بما هو إلمامٌ من كلّ شَيء بطرف. إلا أنّ الشيءَ هنا هو الثقافة الفرنسية، في مفهومها الواسع واليومي وحتى الشعبي، الذي يُلَمّ بِه ويسردُ، فيكون ما يشبه: "مَكان الاستِراحة".
وهكذا، فالفرق بين "الموسوعة" و"المناخ"، يقع أساسًا في خصيصة هذا التجدّد الدوري، الذي يطرأ على المضامين، ثم في طبيعة الجمهور الـمتعجّل الذي يبحث، مَطلعَ كلّ سنة، عما استجدَّ في الساحة من الأحداث والوقائع. ومن جهة ثانية، يبدو أسلوبُ الصّياغَة أقلَّ علميّةً وصرامَةً من أسلوب الموسوعات العلمية ويقتَرب أكثرَ من العرض الذاتيّ المشوب بالمرَحِ وخفّة الدَم، حتى لا تثقل المعلومات على القارئ الملول وهو ينتمي، في حالتنا هذه، إلى عامة الفرنسيين السائحين الذين يبحثون عن معلومة سريعة ترافِق ترحالَهم.
تأريخ أقرب إلى التقرير الصحافيّ، يدعم الحدثَ بإحصاءات
وقد ضم هذا "المناخ" الجداولَ التي وضعتها مختلفُ الإدارات وقوائم أسماء المسؤولين الذين يشرفون عَليها، فَضلاً عن الوثائق الإحصائيّة والرسوم البيانيّة وبعض المعطيات عن العُملة والأوزان والأقيسة. كما صاغَ، بإيجازٍ، تأريخَ أهمّ الأحداث التي حَصَلت في فرنسا، طيلة السنة الـمُنصرمَة. ولا بُدّ أن يُفهم "التأريخ"، هنا، بالمعنى الصّحافيّ اليوميّ، وليس بالمعنى الحِرَفيّ-العالِم، الذي يعتمد الوثائق الأصليّة والشّواهد المتنوعة ويربط عقلانيًّا بين الأسباب ونتائجها. فهو تأريخ أقرب إلى التقرير الصحافيّ، يَعرض الحدثَ ويغطّيه ويدعمه بما تيسر من أرقام وإحصاءَاتٍ، مع مراعاة الدقّة والنزاهة. وهو حين يؤرِّخ لأهم الأحداث الرياضيّة والعلميّة والثقافيّة، التي حركت المشهد الفرنسي، إنما يَحتفي بها. وبذلك، يظهر أنَّ سمة هذا النوع من الكتابة هو "الاحتفاء"، بما هو مَزيج من المرح والإشادة بالموروث الثقافي الحضاري الوطني. ومن هنا يبرز البعد الذاتي الهادف إلى إظهار المآثر وتحبيب المواطنين فيها. وقد يَكتسي الكتاب بُعْدًا عائليًّا، يقتربُ من "أخلاقيّة تربوية علمانيّة"، يُقرأ على أفراد الأسرة لتقوية الرّوابِط بين الأجيال.
ولذلك، يمكن أن يربط هذا الجنس من الخطابات بالأدب الخفيف والمعرفة الـمَرحة، كما كان يسميها الفيلسوف الفرنسي ميشال سار (1930-2019)، والتي لا يمكن أن تنتمي إلى صرامة العلوم وشموليّة النظرة التاريخية النقديّة. فهل هذا الجنس من علامات انحطاط الثقافة الفرنسيّة؟ وهل هو من مَظاهر هيمنة الخطاب الاستهلاكيّ السريع؟
نظنُّ ذلك. ولكن، في زَمن الرداءة وقلة الاطلاع وهَيمَنة ثقافة الـمَنشورات الفيسبوكية، لا يسع إلا الترحيب بجُهود التبسيط وإذاعة المعارف ونشرها. ومع ذلك، أتساءل، بشيءٍ من الحُرقة، كيف اقتُرضَ منَّا المصطلح، في عُصور أنْدَلسنا، ثمّ حُوّرتْ دلالته حتى صار جنسًا في الكتابة والتحرير ودائرة معرفةٍ وتقرير، يتولّد عنه ممتعُ الكتابات، ويبقى عندنا مَهجورًا، لا يَرتبط بسوى الدلالة على الأرصاد والأحوال الجَويّة. في هذا إفقارٌ للمفهوم، وأيَّما إفقار.
وأما الكاتِب، فريدريك جرسال (1957)، فيصعب تَصنيفُه ضمن فئَة المثقفين. فالرجل صحافيّ فَرنسيّ ظريفٌ، ذَكَّرني بأبي عمرو الجاحظ في حسّه المازح ومَعارفه الموسوعية وهو ما تنبئ به عناوين كتبه، مثل: "هذه الحَيوانات التي صنعت التاريخ" (2005)، "هؤلاء الأطفال الذين صَنَعوا التاريخ"، (2005)،"الأشرار الكبار في التاريخ" (2000)، "باريس: مائة مَكان أسطوري" (2011) وغيرها. هذا وقد اشتَهر ببرامجه على أمواج الأثير وحصص التلفزيون التي يخصّصها لفقراتٍ طَريفة، ينطبق عليها قول الجاحظ: "الثقافة أخذ من كل شيءٍ بطرف".
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس