"مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية": جزء أول

09 مارس 2023
أحمد الشرقاوي/ المغرب
+ الخط -

صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الجزء الأول من سلسلة كتب "مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية"، التي تأتي للإسهام في معالجة الارتباك واسع النطاق الذي يسِم الحقل الجامعي والبحثي العربي في مسألة مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بسبب نقص الأدبيات العربية المؤلفة والمترجمة في هذا الموضوع وقِدَمها، وكذلك بسبب المقاربات الشكلية والمدرسية التعريفية والتعليمية التقليدية الغالبة عليها. 

ويشير بيان المركز إلى أنه "كثيرًا ما نجد الطالب العربي يبدأ ورقته البحثية بمقدمة عن المنهج يقول فيها إنّه استخدم المنهج التحليلي أو التاريخي أو حتى الوصفي أو الكمي، وغالبًا يستخدم المنهج الوصفي - التحليلي تعبيرًا جاهزًا، وليس مصطلحات دارجة، أو وصفًا لعمليات ذهنية بسيطة لا بد منها في أيّ تفكير عقلاني".

"مناهج البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية: الجزء الأول: مقاربات فلسفية وإبستيمولوجية" هو باكورة هذه السلسلة من تأليف مجموعة مؤلفين، وتحرير وتقديم مراد دياني.

تساهم السلسلة في معالجة الارتباك واسع النطاق الذي يسِم الحقل البحثي العربي في مسألة مناهج البحث

يخص الجزء الأول النظر في المقاربات الفلسفية والإبستيمولوجية في موضوع مناهج البحث، ويستهلّ هذه المقاربات المفكر العربي عزمي بشارة بفصل عنوانه "في أولوية الفهم على المنهج"، يؤكد فيه أنّ النقاش النظري بشأن المناهج، بعيدًا عن الجهد المبذول لفهم موضوع ما باستخدام نظريات في سياقات محدَّدة، يظلّ نقاشًا محدود الفائدة، على اعتبار أنّ منهج البحث ليس شيئًا جاهزًا إلا في ما ننسّقه وننمّطه من أساليب في البحث لغايات مدرسية، بل إنّ المهم هو ما نصنعه في عملية البحث نفسها، وهذه العملية تفرض منهجًا من النظريات القائمة أو تتطلب عدة مناهج، وربما تقود إلى التوصل إلى نظرية جديدة. 

وبعد أن يعرض بالدرس والنقد المقاربات الرائجة في مسألة المنهج، ويقدّم تأملاته الفلسفية والبحثية فيها، يُبرز أنّ ما يستحق تسميته مناهجَ في العلوم الاجتماعية والإنسانية هو مقاربة تحليلية مترتبة على نظريات، وأنّ ما يتطلبه تطوير المناهج هو الاهتمام بالنظرية في السياق الاجتماعي الاقتصادي والثقافي الحضاري للمجتمعات التي نبحث فيها. فغالبية النظريات في العلوم الاجتماعية والإنسانية تطورت في مراحل زمنية وأماكن وسياقات حضارية مختلفة، ولدراسة مجتمعات أخرى غير التي نطمح إلى تناولها بالبحث. ومن ثمّ، لا شك في الفائدة من استخدامها، إذا أُخضعت للنقد العيني الموضوعي خلال الاستخدام. 

غلاف الكتاب

ويخلص بشارة إلى أنّ التحدي القائم أمام العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية هو الإنتاج النظري من خلال البحث في مجالات محددة، وإنجاز مقاربات تحليلية مفيدة ومناهج في البحث في فهم المجتمعات والعلاقات بين البشر وعالمهم الثقافي والروحي في السياق المحدد الذي نحن بصدده.

وينطلق زواوي بغوره في الفصل الثاني "الفلسفة الاجتماعية: بحث في مفهومها ونظريتها وعلاقاتها"، من موضعة مفهوم الفلسفة الاجتماعية ضمن الاجتهادات النظرية التي قدّمتها مدرسة فرانكفورت أو النظرية النقدية ضمن سياق الفلسفة الألمانية المعاصرة، وتحوله إلى عنصر أساسي ضمن عناصر أخرى لا تقل أهمية من حيث الإسهام النظري والمنهجي في بعض اتجاهات الفلسفة المعاصرة. 

يضيء رجا بهلول في الفصل الثالث "أحداث الطبيعة وأفعال الإنسان: كيف ندرك العلاقة بين الطبيعي والاجتماعي؟"، على مفهوم الفعل، بوصفه حجر زاوية العلوم الاجتماعية والإنسانية، والذي يقع، بحسب الباحث، على تقاطع ثلاثة أنواع من المباحث الفلسفية: الأنطولوجيا، والإبستيمولوجيا، وفلسفة العلوم الاجتماعية. 

يستهلّ المفكر العربي عزمي بشارة مقاربات الكتاب بفصل عنوانه "في أولوية الفهم على المنهج"

وفي الفصل الرابع "التفسير القصدي للسلوك الاجتماعي وشروط صدقيته"، ينطلق حسن احجيج من عرض وفرة البحوث العلمية الغربية التي تناقش موضوع التفسير القصدي للأفعال الاجتماعية، ليُلاحظ في المقابل غيابًا نسبيًّا لمناقشة هذا الإشكال الإبستيمولوجي في الفكر الفلسفي والسوسيولوجي العربي، ويحاجّ بأنّ التفسير القصدي للأفعال الاجتماعية يختلف عن التفسير الاستنباطي - الناموسي، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره أدنى منه من حيث الوجاهة الكشفية. 

وينظر فتحي إنقزّو في الفصل الخامس "الفهم والتفسير: مسائل المنهج وأصولها التأويلية في فلسفة فلهلم ديلتاي"، في ثنائية الفهم والتفسير، ويحلّلها من جهة ترددها بين سجلين: السجل السيكولوجي الذي يتصل بالبنية الباطنية للتجربة النفسية، بوصفها مجموعًا مستقلًا بنفسه، متضمنًا التجارب والعناصر الأساسية للوعي، وما يُقام عليها من بنى عليا للوجود الاجتماعي والتاريخي، والسجل التأويلي الذي يقوم على قراءة العلامات والآثار والمعالم التي تتجلى من خلال العلاقة بغيرها، وتُشكّل في هيئات ونصوص ومدونات مشبعة بالدلالة والمعنى، ومعبرة عن تجارب الحياة وأشكالها الفردية والجماعية، وانخراطها في سياق تاريخي متصل. 

ويستأنف عبد القادر ملوك البحث في الموضوع ذاته، لكن من منظورٍ مغاير في الفصل السادس "إشكالية الصلة بين الوقائع والقيم وانعكاساتها على موضوعية العلوم الطبيعية والإنسانية: ماكس فيبر وهيلاري بتنام نموذجًا"، منطلقًا من الاستقطاب القائم بين من يدعو إلى الفصل بين الوقائع والقيم، ويرى فيهما مجالين متمايزين ومنفصلين لا إمكان لتقاطعهما، ومن يرى أنّ التفريق بين الواقعة والقيمة هو مجرد عملية متكلّفة ناتجة من الصنعة الفلسفية أو من الإجرائية العلمية. وهذا التَكلُّف راجع بالأساس إلى تعذّر هذا التفريق إجرائيًّا، كما يتعذّر التفريق أو الفصل في الشيء الواحد بين ذاته وصفاته. وهو الاستقطاب الذي نجم عنه استقطاب ثانٍ اتخذ من حضور القيم أو غيابها حجر الزاوية في الاختلاف بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية. 

ويستأنف منير الطيباوي في الفصل السابع "الاستتباعات الإبستيمولوجية لنقد مثنوية الواقعة/ القيمة على منهجية العلوم الاجتماعية"، سؤال حضور المعايير والقيم في تفسير الفعل الاجتماعي الذي يشكّل الموضوع المركزي للعلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو السؤال الذي لا ينفك عن أسئلة منهجية أخرى متعلقة بالطبيعانية والمعقولية وغيرهما في التقليد الفلسفي القارّي. 

ويطرح عبد الرزاق بلعقروز في الفصل الثامن "منهج المنهج في مكاشفة القول الفلسفي علميًّا: من مضمون الفلسفة إلى أدوات التفلسف"، سؤال المنهج في بحث القول الفلسفي من السياق المعاصر الذي بات يسعى لاستكشاف الأبواب التي منها يدخُل إلى صناعة قولٍ فلسفي جديد، ساعيًا إلى الظفر بالمنهجية التي ندخل بها عالم الإبداع الفلسفي عربيًّا. 

في الفصل التاسع "الأنموذج المعرفي إطارًا لاندماج علوم الطبيعة والمجتمع: بحث في وحدة المنهج وترابط الموضوعات"، يتناول محمد غاليم أسس الاندماج الذي أفضى في العقود الأخيرة إلى تطوير أنموذج معرفي، يشكّل إطارًا علميًّا متسقًا لتعاون مختلف العلوم الطبيعية والنفسية والاجتماعية، واندماج نتائجها في فهم العلاقات الرابطة بين الظواهر التي تبني هندسة الجنس البشري الوظيفية القائمة على مختلف قدراته الطبيعية والمعرفية والإدراكية التي تدرسها العلوم المذكورة ومثيلاتها. 

ينطلق محسن التّومي في الفصل العاشر "بناء المعنى في المقاربات الكيفية: مقدمة في نقد البردايم الوضعي"، من تجربته في تدريس نظريات التصميم وتاريخه، وما انطوت عليه من عزوفٍ لبعض الطلبة عن الانخراط الفعلي في الدروس والإقبال عليها بالحماس المأمول، رابطًا ذلك بالخلل الذي يشكو منه نظام التوجيه الجامعي، والتباين بين الاختصاصات المقترحة والحاجات الفعلية لسوق العمل من خريجي تلك الاختصاصات. 

وفي الفصل الحادي عشر "العلوم الإنسانية: إشكالية مناهج ودراسات استراتيجية لتحقيق مقاصد إنسانية"، ينطلق الحبيب الحباشي من الانفجار المعرفي الذي شهدته العلوم الاجتماعية والإنسانية في دراسة السلوك البشري، والذي لم يخلُ من مفارقة، ولم يتوقف عن زيادة مسألة مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية استشكالًا. وتتأسس هذه المفارقة على تقدم البحوث العلمية في شتى الاختصاصات الاجتماعية والإنسانية، واستشراء أمراض الإنسان النفسية، وتعاظم أزماته الاجتماعية، والاقتصادية، والحضارية، والثقافية، وتزايد هذه الأمراض النفسية وأزماتها على الثقافة العربية استغلاقًا، بخلاف غيرها من الثقافات؛ وهو ما ولّد عند بعضهم التباسًا في التصور أقعدنا عن استئناف الإبداع الثقافي والحضاري. 

أما في الفصل الأخير من الكتاب "مشكلة ’التقدم‘ في العلوم الاجتماعية وتحول البردايم"، فيخصّ محمد الوحيدي مسألة "التقدم" في العلوم الاجتماعية بالدرس والتحليل، والتي أثارت جدلًا له تاريخ طويل، وجذبت تفكير كبار فلاسفة الفكر الاجتماعي ومنظّريه.
 

المساهمون